معاً للحماية ضد "الطعنة في الظهر"

مقاربة لبناء علاقة يمنية-سعودية وثيقة كمصلحة مشتركة مُلحة
عبدالرشيد الفقيه
October 3, 2023

معاً للحماية ضد "الطعنة في الظهر"

مقاربة لبناء علاقة يمنية-سعودية وثيقة كمصلحة مشتركة مُلحة
عبدالرشيد الفقيه
October 3, 2023

كتبيانٍ لمنهجية هذه الورقة، كنقطة انطلاق، يمكن اعتبارها محاولة أولى مني، كناشط في الشأن العام، للمساهمة في إثراء النقاشات المستمرة منذ أشهر حول إنهاء الحرب في اليمن. ويأخذ هذا الاقتراب في الاعتبار عنصرين أساسيين في هذه المعادلة: اليمن والمملكة العربية السعودية. إضافة إلى ذلك، هناك عنصر ثالث طارئ، يلعب دوراً في التلاعب بالمدخلات والمخرجات، ممثلاً بدولة الإمارات العربية المتحدة.

وأحاول جاهدًا، في هذه الورقة، تتبّع أهم الأحداث والوقائع والشواغل ذات الصلة بملف العلاقات اليمنية السعودية، والتدقيق في متغيراتها، وتحليلها، بمعزل عن لغة الإدانة والذم، أو المدح والإشادة، لعلها تساهم في لفت انتباه الفاعلين، في اليمن والمملكة، بدرجة رئيسية، إلى زوايا، أسردها كشاهد، وكباحث، وكمشتغل في مجال ذي صلة بمضامينها؛ إيمانًا مني بأهمية الكتابة في مقاربة الإشكاليات، وفي تصور حلولها، ورهانًا على إمكانية أن تكون الكتابة إحدى سُبل إنجاز علاقة يمنية-سعودية بنّاءة، كمصلحة مشتركة مُلحّة، مع إدراكي أنّ مقاربة إحدى أكثر المسائل حساسية، بالنسبة لليمن والسعودية، وبينهما سكاكين الإمارات، مخاطرةٌ يتجنّبها كثيرون، رغم إدراكهم لحقائقها، ووقائعها، وأبعادها، غير أني أرى أنها مهمة تستحق المحاولة، في هذا الوقت بالذات.

وتستعرض هذه المقاربة سلسلةً من حقائق التطورات والأحداث، في مجال موضوعها الرئيس، وارتباطاته المحلية، والإقليمية، والدولية، من خلال تتبع أبرز العناوين وثيقة الصلة به، مع التعريج، كلما استدعت الضرورة، على جُملة من العناوين الفرعية، وهي بمُجملها، على كُلّ ما بُذل من جهد فيها لبناء حُجج واستخلاصات متماسكة، تُقدم مفاتيح لدراسات أوسع وأعمق، طبقًا لمضامين هذه المقاربة، الغنية، بالكلمات والمحطات والمعلومات والاستخلاصات المفتاحية، ذات الصلة بالعلاقات اليمنية-السعودية، وبأبعادها المركبة، والمتشعبة، والمتداخلة، والمتضاربة، في آن.

ومن المهم بمكان، تصدير هذه المقاربة، بتنويه يُفترَض أن يَحُوْل دون أيّ لَبسٍ لمضامينها، أو لأي أجزاء منها، بالتأكيد على موقفي الثابت، من كل انتهاكات السعودية لحقوق الإنسان والعدالة، داخل السعودية، بالإضافة إلى ملف الانتهاكات الثقيل لحرب السعودية في اليمن، وهو موقف لن يتغير، إلا في حالة وحيدة؛ أن تبادر السعودية بشجاعة لإنصاف الضحايا وجَبر ضررهم، ومحاسبة المنتهِكين، بصورة عادلة، وهي حصرًا من يقدر على معالجتها، جذريًّا، ومعالجة آثارها وتبعاتها.

وتتوفر الآن، عقبَ جُملة من التطورات، من بينها: إيقاف العمليات الحربية، وبدء مشاورات، تبدو أكثر جدية، من أجل إيقاف الحرب، مساحةٌ ملائِمة، لمقاربة، مسائل العلاقات اليمنية-السعودية، بصورة هادئة، تختلف كليًّا عمّا كان عليه الحال في ظل الحرب وأحداثها وأولوياتها وظروفها، وبالأخص بعد أن صار ملموسًا التحوّلُ الجذري في مقاربة الإدارة السعودية لملف الحرب في اليمن، بالعودة إلى السياسة، والمفاوضات، والوساطات، عوضًا عن الخيار العسكري، وهو تحول وثيق الصلة، بالمتغيرات الجذرية، المُنجَزة في بنية النظام السياسي السعودي، الدالة، كذلك، على تخلق رؤية جديدة، كليًّا، لمجال أمنها القومي.

شهدت السعودية قفزات تنموية وتحديثية هائلة، على أكثر من مستوى، في إطار رؤية السعودية 2030، وعلى أهمية الأبعاد التنموية والاجتماعية فإن لتلك التحولات العميقة، كذلك، أبعادًا سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية، على المستوى الإقليمي والدولي


التحوّل النهضوي في السعودية

ولا مناص من الاعتراف بأنّ كل التقديرات التي ذهبت إلى القول بأن ما يحدث في السعودية، منذ بداية  العام 2015، محضُ طفرة طارئة، ستُجهضها شِراك الدولة العميقة وحرسها، أو أن تقضي في نتائج مغامراتها الطائشة وغير المدروسة، كوصمة لازمت خطواتها الأولى، وأنها إذا ما نجت، بمعجزة، من ذلك، فستتكفل بوَأدِها مخالبُ دول الهيمنة، التي تتغذى اقتصادياتها ومصالحها ورفاهها، على وجود نظام سعودي شائخ ومترهل، موكل بمهمة تأمين الثقوب السحرية التي تنقل المنافع العديدة لإحدى أضخم الثروات الطبيعية في العالم، إلى الجهة المقابلة من العالم، أقصى الغرب، والحق أنّ كل تلك التقديرات وغيرها قد جانبت الدقة، ومردّ ذلك، ربما، إلى غياب الكثير من المعطيات -حينذاك- اللازمة للوصول إلى تقديرات واستخلاصات ورهانات دقيقة.

وضدًّا على كل التحليلات، حول شيخوخة نظام الحكم في المملكة العربية السعودية، شهدت المملكة قفزات تنموية وتحديثية هائلة، على أكثر من مستوى، في إطار رؤية السعودية 2030، وعلى أهمية الأبعاد التنموية والاجتماعية لتلك القفزات والتحولات، بالنسبة للسعودية، فإن لتلك التحولات العميقة، كذلك، أبعادًا سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية، على المستوى الإقليمي والدولي، تبعًا لأهمية موقع السعودية، في صدارة دورة الاقتصاد العالمي، بكل ما يرتبه ذلك على السياسة الدولية، وخلال سنوات قليلة، باتت المملكة، في ظل قيادة شابة، مُدركة لعناصر قوتها، وتمتلك الإدراك والإرادة والطموح والرؤية والكفاءة، لحماية مجال مصالحها، بكل حدوده وأبعاده.

الصورة ل: شهدي الصوفي - خيوط

مجال الأمن القومي السعودي
من منظور القيادة الجديدة

تبعًا لحقائق وجود قيادة سعودية جديدة، تعمل على تحقيق رؤية طموحة وواعدة، وإن كفرضية، بالحد الأدنى، فإن من البديهي طرح افتراض آخر، تبعًا لتلك الفرضية، بأن لدى من يُحرك دفة ذلك التحول، بكل أبعاده وتعقيداته، بالضرورة، رؤيةً استراتيجية للسياسة الخارجية، بمجال جيوسياسي استراتيجي، يعتمد على منظور جديد، لمجال الأمن القومي السعودي، كأحد المسارات اللازمة، لحماية مشروع نهضوي، قد يقفز بالسعودية، في حال نجاحه، وكما هو ثابت من الخطوات المُنجزة خلال السنوات القليلة الماضية، قفزة المئة عام، والتي ستعيد صياغة تعريف السعودية، بصورة تختلف كليًّا، عن كل تلك التعريفات النمطية لأصدقاء السعودية وخصومها على حدٍّ سواء.

ولعل من المفاجئ لكثيرين، في الآونة الأخيرة، على الأقل، سلسلة من المحطات، تصدّت فيها السعودية، بفاعلية، لمسائل الأمن القومي خاصتها، من منظورٍ حسّاس لخطوط التماس بين التفاعلات المحلية، والإقليمية، والدولية، والأبعد من ذلك المبادرة المدروسة باستنارة تتعرف على مصالح السعودية ومقوضاتها، بمقاربة جديدة كليًّا، من مؤشرات ذلك: حِياكة أنماط علاقات جديدة، مع الفاعلين المحليين، والإقليميين، والدوليين، وإعادة تعريف الحُلفاء والخصوم، ومن ذلك، على سبيل المثال: علاقات السعودية بالولايات المتحدة الأمريكية والصين، ومقاربتها للحرب الأوكرانية، من خلال (أوبك)، ومسائل الطاقة، والعلاقات مع تركيا والهند، والعلاقات مع إيران وقطر، ومراجعة علاقاتها مع الإمارات، والاستجابة الفاعلة، لتطورات الأوضاع في اليمن، من خلال التعامل بحزم، مع مُهدِّدات الاستقرار في حضرموت، وهي صورة جديدة، للسياسة الخارجية السعودية، تعرف مجال أمنها القومي، وكل ما يهدّده، بمضامين ومحددات، تختلف كليًّا عنها تحت قيادة محمد بن سلمان ذاته قبل العام 2022.

ولتقريب الصورة أكثر، عن تعريف مجال الأمن القومي للدول، يمكننا الإحالة إلى نموذجين، يُعرفان بدقة مجال الأمن القومي، للدول؛ يتمثل الأول في الاستجابة الغربية الموحدة للحرب في أوكرانيا، وعلى رأسها استجابة الولايات المتحدة الأمريكية لتلك الحرب، حيث تعرف أول الخطوط الأمامية لمجال أمنها القومي في أوكرانيا، ويتمثل الثاني بما عُرف بخطة (مارشال)، التي هدفت لانتشال أوروبا من الأوضاع المأساوية، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، أواخر النصف الأول من القرن العشرين، بالإضافة إلى نماذج كثيرة، يمكن من خلالها معرفة ما تعنيه اليمن بالنسبة للسعودية، وما تعنيه السعودية بالنسبة لليمن، من منظور الأمن القومي ومحدداته. 

تواجه المملكة العربية السعودية عدة تحديات كبيرة في اليمن. ومن المعضلات الأكثر إلحاحاً، التهديد المباشر لحدودها الجنوبية، حيث سيطرت الجماعات المسلحة بالقوة على الشريط الحدودي شمال اليمن. ويشكل هذا الوضع قلقاً بالغاً لأن هذه الجماعات تخدم مصالح الأطراف المعادية، وفي مقدمتها إيران التي تسعى للتوسع في المنطقة. علاوة على ذلك، هناك مشاريع تهدف إلى تقسيم وتفتيت جنوب اليمن. ويتضمن أحد هذه المشاريع دعم التشكيلات المسلحة التي تدعو إلى الانفصال، وهي خطوة أقرتها دولة الإمارات العربية المتحدة. ويشكل هذا الدعم خطراً ملموساً وفورياً على الأمن القومي السعودي. ومن الأهمية بمكان أن تعترف المملكة بهذه الحقيقة، وفي الشرح التالي، ستقدم هذه الورقة أدلة مفصلة لإثبات هذا الادعاء.

تزامنت تفاعلات المرحلة الانتقالية في اليمن، مع عملية انتقال للحُكم في السعودية، عقب وفاة الملك عبدالله وتسلم الملك سلمان بن عبدالعزيز للحكم، وما تلاه من تحولات كانت أبرز خطواتها تعيين الأمير محمد بن سلمان، وزيرًا للدفاع، ثم تعيينه وليًا للعهد، في 21 يونيو 2017، وتعيينه رئيسًا للوزراء، والذي قاد عملية تغيير عميقة داخلَ بُنية النظام

تزامن مرحلتين انتقاليتين
في اليمن والسعودية

شهدت اليمن، عملية انتقال سياسي، بين عامي 2012 و2014، في إطار ما يُعرف بالمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، الموقعة في قصر اليمامة بالرياض، في 23 نوفمبر 2011، تحت رعاية الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ملك السعودية، لتسوية سياسية، عقب الانتفاضة الشعبية في 2011، ضد الرئيس علي عبدالله صالح، في إطار ما يسمى بثورات الربيع العربي، والتي تكشفت خلالها التصدعات في بُنية النظام السياسي اليمني. وهدفت المبادرة الخليجية (السعودية) إلى الحفاظ على وحدة اليمن وأمنه واستقراره، وتلبية طموحات الشعب اليمني في التغيير والإصلاح، وضمان انتقال السلطة بطريقة سلسة وآمنة، تُجنِّب اليمن الانزلاق إلى الفوضى والعنف، في إطار توافق وطني.

وتزامنت تفاعلات المرحلة الانتقالية في اليمن، مع عملية انتقال غير اعتيادية للحُكم في المملكة العربية السعودية، عقب وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، في 23 يناير 2015، وتسلم الملك سلمان بن عبدالعزيز للحكم، وما تلاه من تحولات، في إطار إعادة حوكمة مدروسة، كانت أبرز خطواتها تعيين الأمير محمد بن سلمان، وزيرًا للدفاع، في 23 يناير 2015، ثم تعيينه وليًا للعهد، في 21 يونيو 2017، وتعيينه رئيسًا للوزراء، في 27 سبتمبر 2022، والذي قاد عملية تغيير عميقة داخلَ بُنية النظام السعودي، مدشنًا مرحلة دقيقة وحسّاسة، لمشروع التحول الوليد في السعودية، انهمكت خلالها القيادةُ السعودية الجديدة، على تلك العمليات التأسيسية، بصورةٍ تركت فراغًا خطيرًا في السياسة الخارجية للمملكة، بما في ذلك الانشغال عن مساحات في قلب مجال الأمن القومي للسعودية بالدرجة الأولى، وفي هذه الفجوة لُقحت الكثير من المتغيرات، المُهندسة بعناية، لتقويض مصالح المملكة، وكل ما يرتبط بها، وأبرز عنوانين لتلك الحالة: تطوراتُ الأحداث المتسارعة التي شهدتها اليمن، وإعلانُ توقيع الاتفاق النووي الإيراني، بعد حوارات مطولة مع إدارة أوباما الديمقراطية، دون تشاور مع المملكة، أو حتى إحاطتها، بشكل مسبق.

 الوضع في اليمن وارتباطاته الإقليمية
كيف دُفعت اليمن إلى فخاخ الاحتراب؟

في ظل تساهل دولي، وفراغ إقليمي، وعمل مُخطط لملء الفراغات في اليمن، تحوّلت جماعة الحوثيين، من جماعة صغيرة في شمال اليمن، إلى تشكيل مسلّح، سيطر على العاصمة اليمنية، صنعاء، وبقية المحافظات بالقوة المسلحة، في 21 سبتمبر 2014، بعد أن عُطّلت كل الموانع الكفيلة بوقف تقدم الجماعة، منذُ أول خطواتها خارج معقلها، في جبال صعدة، في ظل تواطؤ إقليمي ودولي، فُسّر حينئذٍ، بأنه إحدى هدايا التفاهمات الأمريكية-الإيرانية، الجانبية، والمجانية، تبعًا للاتفاق النووي.

وقد أفصح، جمال بنعمر، المبعوث الأممي إلى اليمن، وقتذاك، في مقابلته مع قناة روسيا اليوم، التي بثتها أوائل مايو 2023، عن أن أحد أسباب اندلاع الحرب، يكمُن في عدم موافقة القوى السياسية اليمنية، على مقترح تخصيص منفذ بحري لإقليم آزال، في إطار تصور الأقاليم، كأحد مخرجات الحوار. وتكمن خطورة ما أفصح عنه مبعوث الخراب، بنعمر، بهذا الشأن، في أنه يُفسّر الكثير من الأحداث المُصطنعة، التي مهّدت لوضع الاحتراب، بصورة تؤكّد أنها لم تكُن تطورات طبيعية، فأفصح بحديثه ذاك، عن حقيقة المناقشات، غير المُعلنة، وقتذاك، خلال العام 2013، حين كان الحوثيون، لا يزالون، قوة صغيرة في صعدة، تضمّنت تلك المناقشات في الظلام، طبقًا لما أفصح عنه بنعمر، وعودًا نذرت إقليم آزال كدويلة للجماعة، وأنّ التصور المُعلن، كمخرج من مخرجات الحوار، كان في حقيقته، قد فُرض كمُدخلات مدروسة، ومُهندسة، لتلقيح كل الأحداث اللاحقة، بالإضافة إلى ذلك، قدّمت تلك المقابلة جانبًا من حقائق تفسّر الكثيرَ من الأدوار والأحداث والتطورات، خلال الأعوام 2012-2014، التي ظلت مُلغزة بإحكام، على خطورتها وجسامتها.

كانت عمليات التحالف، المُعلنة فجر 26 مارس 2015، فخًّا جديدًا، تورطت فيه السعودية، ولا تُبرأ من مسؤولياته، بصورة أثقلت السعودية نفسها، بملفات انتهاكات ثقيلة، عوضًا عن تداعيات تلك العملية، السياسية والعسكرية والأمنية، بكل الحسابات، كانتا -اليمن والسعودية- الخاسرتين الوحيدتين، من اندلاعها، ومن عملياتها

إعلان توقيع الاتفاق النووي الإيراني
الصدمة والاستجابة الارتجالية

لقد مثّل إعلان توقيع الاتفاق النووي، نقطةَ تحوّلٍ في السياسة الخارجية للقيادة السعودية الجديدة، التي أدركت، فيما يبدو، الآثارَ المتعددة على أمنها القومي، الناتجة عن الفجوات الهائلة في سياساتها الخارجية، غير أنّ أشكال الاستجابة السعودية، اللازمة للتعامل مع تلك التطورات غير الاعتيادية، والمتغيرات ذات الصلة بها، ومن بينها، جملة الأحداث المتسارعة في اليمن، لم تأخذ حقّها من الدراسة والبحث، وأفدحها، على الإطلاق، إعلانُ العملية العسكرية في اليمن، بقيادة السعودية، والذي لم يكن أكثرَ من فخ آخر للسعودية، تظافر الحلفاء والخصوم على دفعها للوقوع فيه، لتحقيق أغراض متعددة، ليس من بينها ما هو في صالح اليمن، أو السعودية، بل على العكس من ذلك، هُندس وضع يناقض، كليًّا، مصالحَ كلٍّ من اليمن والسعودية، منفردين ومجتمعين.

ولذلك، كانت عمليات التحالف، المُعلنة فجر 26 مارس 2015، فخًّا جديدًا، تورطت فيه السعودية، ولا تُبرأ من مسؤولياته، بصورة أثقلت السعودية نفسها، بملفات انتهاكات ثقيلة، عوضًا عن تداعيات تلك العملية، السياسية والعسكرية والأمنية، بكل الحسابات، كانتا -اليمن والسعودية- الخاسرتين الوحيدتين، من اندلاعها، ومن عملياتها، ونتائجها. وهنا، يمكن اختبار إحدى فرضيات هذه المقاربة، بسؤال تردّدَ كثيرًا، خلال سنوات الحرب، مفاده: هل فشلت السعودية في اليمن أم أُفشلت؟

وقد لازمت، السنوات الأولى لعهد الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للسعودية، أخطاءٌ جسيمة، أبرزها: حرب اليمن، والانتهاكات الجسيمة التي طالت المدنيين والأعيان المدنية، خلال تلك الحرب، وعملية قتل الصحفي جمال خاشقجي، وعمليات اعتقال الناشطات السعوديات، واعتقال شخصيات سعودية بارزة، وعمليات الإعدام، ومصادرة أموال عددٍ من رجال الأعمال، واستهداف الأقلية الشيعية في المملكة، والانخراط النشط في الأزمة مع قطر، والدخول في مباراة صفرية مع جماعة الإخوان، ودعم الانقلاب في مصر، وهي ملفات ستبقى مفتوحة، هناك طريقة وحيدة لإغلاقها؛ من خلال المبادرة بالتصدي لمعالجتها، ومعالجة آثارها، بشجاعة ومسؤولية وجسارة، بدلًا من المُضي قُدمًا، بحُمولتها الثقيلة، بكل أبعادها.

 المبادرة الخليجية وإفشالها
اليمن كساحة مفتوحة للطعنات

في الشهور الأولى، من المرحلة الانتقالية في اليمن، بين عامي 2012 و2014، تحقّقت الكثير من الخطوات الناجحة، في إطار المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، مع كل التحفظات الوجيهة على بعض مضامينها، وبشكل مباغت، دُفع اليمن، قسرًا، إلى طريق مغاير تمامًا، كان مهندسًا بعناية، لتحقيق جُملة من الأهداف غير المُعلنة، يمكن قراءتها الآن، بتجميع أجزاء صورة المشهد، وأحداثه ونتائجه، بعد اكتمالها، ولو نسبيًّا، على امتداد أكثر من عشر سنوات، بتتبعها وتحليلها، يمكن بناء خُلاصات متماسكة، تثبت أنّ أول الطعنات في ظهر اليمن والسعودية معًا، بدأت بعملية مخططة، تكفلت بإفشال المبادرة الخليجية، وآليتها التنفيذية، كإفشالٍ لمقاربة سياسية سعودية، فعّالة، لحماية اليمن من الانزلاق لفخاخ الاحتراب.

اليمن، وبصمات إيران وأنشطتها
ومهمة تصدير الخراب

لتعريف دور إيران، وسياستها الخارجية، ومنظورها لمجال أمنها القومي، ففي وقائع ونتائج أنشطتها التوسعية، تحت لافتة تصدير الثورة، منذ العام 1979، الماثلة للعيان، في أوضاع كلٍّ من لبنان وسوريا والعراق، ما يكفي؛ فجُلّ ما قدمته إيران لتلك المجتمعات، عبر حلفائها، خليطٌ من البارود والنار والإيديولوجيا القاتلة والشعارات المُرسلة، وحسب، وهو ما فعلته باليمن، ومن منظور مجال الأمن القومي، خاصة إيران، فهذه البلدان، ليست أكثر من مساحات للمناورة، بوسائل خشنة، جعلت مجتمعات تلك الدول، أضعفَ وأفقر، على كل المستويات، وبكل الحسابات، شأنها شأن أنشطة كل الدول الأخرى، التي تحتكم سياساتها الخارجية إلى ميراثها الاستعماري التاريخي، مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، ومثل أدواتها الإقليمية، متمثلة بإسرائيل، والإمارات، فأدوارها وتدخلاها تؤدي إلى نتيجة حتمية، تتمثل بإضعاف الدول والمجتمعات، المُصنفة -ويا لسوء حظها- كحليفة وصديقة، في منطقة الشرق الأوسط وافريقيا.

في إطار حالة شهر العسل، في إدارة أوباما، وإيران، والتفاهمات الدافئة، السابقة واللاحقة، لإعلان توقيع الاتفاق النووي الإيراني، ومن خلال الثغرات الخطيرة، لفجوة، تزامن مرحلتين انتقاليتين، في اليمن والسعودية، وضعت إيران يدها على حصة وازنة من تركة “الرجل المريض”، في عملية تقاسمٍ لكعكة اليمن، يستأثر بشمالها حلفاءُ إيران، ويستفرد بجنوبها حُلفاءُ الإمارات، في حالة من تقاطع وتخادم المصالح، على الطريقة المكيافيلية، وفي إطار نظرية الواقعية السياسية، وبالتدقيق في العمليات العسكرية، على امتداد سنوات الحرب، والتي سكنت، في الأغلب الأعم من الجبهات وخطوط التماس، منذ العام الثاني للحرب، عند حدود ذلك التقاسم، فهي تُفصح، عن حقيقة لا لبس فيها، أن الخلافات بين أطراف التقاسم، الإقليميين والمحليين، كانت جُلّها، حول حدود ذلك التقاسم، ومسائل ثانوية ذات صلة بالموارد والمنافذ، لا أبعد من ذلك ولا أكثر.

حديث ولي العهد السعودي، لفريق من معاونيه، عن تعرضه للطعن في الظهر، من قبل الإمارات، مفاده أنّ تلك الجُملة، على قصرها، دلالاتها وأبعادها ومضامينها المتعددة تتطابق مع حقائق صارت ثابتة، على وجه اليقين، خلقتها الكثير من الأدوار الإماراتية، والتي كان اليمن أحد مسارحها.

الأدوار الإماراتية وارتباطاتها

وحتى لا تُتهم هذه الورقة، وكاتبها، بإطلاق أحكام مُرسلة، والإغراق في فكرة المؤامرة؛ يمكن مقاربة الأحداث والتطورات، وحقائق الوقائع الُمتراكمة، طيلة العقود الماضية، والواقع المفروض، اليوم، وحُزمة من الحقائق والدلائل فيها، من زاوية النظرية السياسية، وبمعزل عن أي أحكام قيمة ناتجة عن التعريف النمطي، المُسبق، لكاتبها، كمشتغل في مجال حقوق الإنسان، ويقارب السياسات الدولية، من خلال النظر في مدى توافقها مع المُثل، والقيم، والأخلاق، التي من الواجب امتثالها في جميع الظروف، بما في ذلك، وسائل حل المنازعات الدولية سلميا، وسُبل منع الصراعات، من خلال الوساطة، والمفاوضات، والدبلوماسية، والتحكيم، والقضاء الدولي، وتأتي هذه المفاهيم في إطار النظرية المثالية للعلاقات الدولية والمواثيق العالمية ذات الصلة، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة. غير أن المؤلف يرى أن مضامين هذه المقاربة يمكن قراءتها أيضا من حيث محددات نظرية الواقعية السياسية الهجومية، التي تتناول العلاقات الدولية، من خلال مجموعة من الأفكار، تتمحور حول فرضيات مركزية: الفوضى تدفع الدول إلى التوسع وتعظيم قوتها النسبية، والدول التي تتعرض للتهديد تسعى دائمًا إلى تحقيق توازن القوى مع الدول المعادية، وتبقى الدول القوية في حالة دائمة من البحث عن فرص لتعزيز قوتها على حساب نظيراتها. وفقا لنظريات الدكتور جون ميرشايمر، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة شيكاغو بالولايات المتحدة، أحد رواد مدرسة الواقعية الهجومية في العلاقات الدولية، كنظرية ترسخت بدءا من كتاب هانز مورغانثاو ( السياسة بين الأمم) الذي أسس لأهم مقولات ومفاهيم الواقعية، وقبل ذلك مع أعمال توماس هوبز. و نيكولو مكيافيلي.

وطبقًا لنظرية الواقعية السياسية، فهناك محددات رئيسية لرؤية بن زايد، للسياسة الإماراتية الخارجية، طبقًا لتحليلٍ منهجي معمق، لأبرز عناصرها، نشره المعهد الملكي البريطاني، في 1 يوليو 2020، يشير إلى أولويات، منها: حماية الممرات التجارية الحيوية، والاستثمار في البنية التحتية، لشبكة من الموانئ، في السياسة الخارجية والأمنية لدولة الإمارات العربية المتحدة.

ولمعرفة الأبعاد التاريخية للأدوار الإماراتية التقويضية، بكل تقاطعاتها وأبعادها، يمكن استدعاء وقائع ومحطات وعناوين، محلية وإقليمية، ودولية، تبدأ من لحظة وجود الشركة الهندية، في عدن، مرورًا بعقود الاستعمار البريطاني لجنوب اليمن، حتى اندلاع ثورة 14 أكتوبر1967، وجلاء آخر جندي بريطاني في 30 نوفمبر 1967، كمحطة وثيقة الصلة بلحظة ميلاد دولة الإمارات، وبوجودها ذاته، ككيان وكوظيفة، والتي أُعلن قيامها، في 2 ديسمبر 1971، في إطار محاولات بريطانيا للاستعاضة عن خسارتها لعدن وجزيرة ميون، كمواقع استراتيجية، ومرورًا بموقف الإمارات العربية المتحدة، من حرب 94، المساندة للإنفصال، ونتائجها، وربطًا بتصريحات كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية (2005-2009)، ومستشارة الأمن القومي الأمريكية (2001-2005)، حول الشرق الأوسط الجديد، ولمقالة نشرها، في يوليو/ تموز من عام 2006، رالف بيترز، الضابط الأميركي المتقاعد من الأكاديمية الحربية الوطنية الأميركية، تحت عنوان، “حدود الدم” تضمّنت، آنذاك، ضرورة العمل، على هندسة ورسم حدود جديدة للشرق الأوسط، تمنح كل مجموعة إثنية حقّها وتنصفها، طبقًا لخريطة مشابهة لتلك التي أنجزتها اتّفاقية سايكس بيكو، قبل نحو قرن من الآن، بصورة تتسق مع ما أفصحت عنه، قبله، كونداليزا رايس، ومنظور برنارد لويس، لدول قوس الأزمات، ومجتمعاتها، وصولًا إلى الخارطة الاستشرافية، لمستقبل عدد من دول الشرق الأوسط، نشرتها، في سبتمبر 2013، صحيفة نيويورك تايمز، كانتا -اليمن والسعودية- منذورتين -حسب تلك الخريطة- للتفتيت إلى عدة كنتونات، أو دويلات، بالإضافة إلى ما نشرته صحف غربية عن الخطة التي قدمها محمد بن زايد، لحكومات غربية، تحت ذريعة منع وصول فروع حركة الإخوان إلى الحكم، في غير بلد عربي.

ومن خلال إلقاء نظرة مُتفحصة، على التحولات في العالم العربي، خلال العقد الماضي، والتي خلقت واقعًا مُعقّدًا، يمكن إدراك أنها ليست بعيدة عن تلك المُخططات العلنية، والتي فُرضت كأمر واقع، بوسائل مختلفة، من خلال الضغط السياسي والاقتصادي، وتغذية الاحتقانات، وتكريس التصدعات، والتدخلات العسكرية، المباشرة وغير المباشرة، بهدف تقويض كياناتها، ومصادرة قراراتها، والهيمنة عليها، وهو ما صار واقعًا مُعاشًا.

وباختبار ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، حول حديث ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، لفريق من معاونيه، عن تعرضه للطعن في الظهر، من قبل الإمارات، الحليف للسعودية، ظاهريًّا على الأقل، بخلاصة ذلك الاختبار، مفاده أنّ تلك الجُملة، على قصرها، دلالاتها وأبعادها ومضامينها المتعددة تتطابق مع حقائق صارت ثابتة، خلقتها الكثير من الأدوار الإماراتية، والتي كان اليمن أحد مسارحها، بالإضافة إلى عددٍ من البلدان في المنطقة، وحولها تدور فرضيات وحجج ووقائع هذه المقاربة.

وتتعاضد كافة الوقائع، مع خُلاصات، راكمتُها خلال عملي على امتداد سنوات الحرب، والسنوات السابقة لها، ومن ذلك، مضامين مناقشات كثيرة، في اجتماعاتي، مع فاعلين وصُنّاع قرار وخبراء، في عواصم عدة، حول العالم، أحد المضامين المشتركة بينها: صعوبةُ تفسير الكثير من الأحداث في اليمن، والتي تمت تحت مظلة تحالف تقوده السعودية، كان أوضح ما فيها، أنها بكل الحسابات، ضد مصالح السعودية، المنظورة والاستراتيجية، بمعزل عن مقاربة تلك الأحداث، من زاوية مصلحة اليمن، بشكل مستقل، على أهميتها القصوى، أو كجزء من مجال الأمن القومي للمملكة، أو في إطار المصالح المشتركة، للبلدين.

لقد حفز ما نشرته وول ستريت جورنال، أفكارًا لطالما شغلتني، سمعتها مرارًا، كذلك، من آخرين، داخل اليمن وخارجها، من مشتغلين على ملف الحرب في اليمن، تدور بمجملها، حول مقدمات الحرب، وأسبابها، وأطرافها، وأهدافها، والمستفيدين والخاسرين من تحولاتها ونتائجها، بالإضافة إلى سلسلة طويلة من علامات الاستفهام بشأنها، أبرزها: طبيعة العلاقات الإماراتية والسعودية فيها، نقاط الاتفاق، ونقاط الافتراق، حقائق التنافس والصراع، وحقيقة الأدوار الإماراتية، والتي كانت باستمرار، ضدًّا على التوجهات السعودية، المُعلنة، على الأقل، وضدًّا على المصالح السعودية، واقعيا.

ولِفَهمِ موجّهات الأدوار الإماراتية، هناك محطات كثيرة، يمكن تتبعها، ابتداء من يونيو 2013، حيث نجحت، بالإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في مصر، وبحكم جماعة الإخوان المسلمين فيها، ثم امتدت، عقب نجاح الانقلاب في مصر، إلى اليمن وليبيا، ولاحقًا إلى تونس والسودان، كانت فزاعة الإخوان المسلمين، مجرد لافتة، استخدمت كغطاء لعمليات تقويض غاشمة، للعديد من الكيانات العربية، كان أحد أهدافها الواضحة الآن، تطويق مجال المصالح السعودية، بحزام ملتهب وملغوم، لم تكن اليمن سوى حلقة من حلقات سلسلته الطويلة، وأحد أدلة ذلك، أنّ القوة الإماراتية، التي كانت تستأصل الإخوان في عدن، كانت هي ذات القوة الإماراتية التي تحمي الإخوان بقبة حديدية وبطاريات باتريوت في مأرب، وفي دليل آخر، على أن أيديولوجية الإخوان، المتطرفة، حسب توصيف الإمارات، لم تكن المشكلة، ففي حين تزعم أنها تناهض المتطرفين الإسلاميين، وتُعرض بتورط السعودية بدعمهم، دعمت الإمارات ذاتها، السلفيين، في اليمن، لعل من أبرزهم: أبو العباس، في تعز، المُدرج في قائمة الإرهاب الأمريكية، بالإضافة إلى هاني بن بريك، والمحرمي، والمحضار، وحمدي شكري، وعبداللطيف السيد، وقائمة طويلة من السلفيين المتشددين.

ولذلك، فالأدوار الإماراتية، النشطة، في غير بلد عربي، منها اليمن، هي في حقيقتها إنفاذ لمهمة مرسومة ومهندسة، من قبل فاعلين، تتشابك مصالحهم، يمكن تعريفهم في إطار مربع، أركانه: بريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل، والإمارات، وأحد فصول تلك المهمة، يتمثل في تفتيت اليمن، والسيطرة على مجاله البحري، كحلقة مربوطة بحلقة تالية، تستهدف تفتيت السعودية وتطويقها بحزام ناري، بطول شريطها الحدودي الطويل، شمال اليمن وشرقها، وفي مدى أبعد، تلغيم السودان، بذات الطريقة، لتصور لا يرى مصالحه إلا في تقويض مصالح اليمن والسعودية، معًا.

ولتصور ما يمكن أن يحدث، مستُقبلًا، إذا ما استمرت عجلة الإمارات بالتحرك، يمكننا، الآن، ونحن في أواخر العام 2023، إلقاء نظرة على واقع المنطقة العربية، وأمامنا كل ما نُشر في الصحافة الغربية، قبل سنوات قليلة، كمخططات غير سرية، كان يُنظر إليها قبل عقد واحد فقط بأنها مما يستحيل تحققه، باتت حقائق وأوضاعًا قائمة، أهملها صُنّاع القرار وقت نشرها، ولم تؤخذ على محمل الجد، بل وأسوأ من ذلك، تم التعامل مع كل التحذيرات منها، كهرطقات وتهيُّؤات، بصورة حالت دون الوقاية منها بكلف أقل بما لا يقاس مما يُدفع الآن من قبل المجتمعات والأنظمة والمكونات المستهدفة، وهي كافية الآن، للاعتبار منها، للحيلولة دون المزيد من التقويض بكلف أكبر، على كافة المستويات.

يمكن إدراك الكيفية التي فُخخ بها طريقُ المبادرة الخليجية، ابتداءً من تغذية صراعات بينية داخل كتل الحلفاء التاريخيين للمملكة، مع إعطاب قيادة إدارة المرحلة الانتقالية، بصورة أتاحت المجال لفاعلين دوليين وإقليميين، بما في ايران والامارات وقطر، ذلك المبعوث الأممي حينها، ومرورًا بالأدوار التي لعبها وزير الدفاع، حينذاك لصالح فاعلين إقليمين

التفتيت في اليمن، على حدود الدم والبارود
بن زايد، ليس جيفارا، ولا كاسترو
وبتتبع متوالية من التطورات المتسارعة، والمباغتة، التي دهمت اليمن، بالإضافة إلى الأدوار المُهندسة والمُنسقة بعناية، في ظل مشهد عام أُغرق بالضبابية واللايقين، يمكن إدراك الكيفية التي فُخخ بها طريقُ المبادرة الخليجية، ابتداءً من تغذية صراعات بينية داخل كتل الحلفاء التاريخيين للمملكة، مع إعطاب قيادة إدارة المرحلة الانتقالية، بصورة أتاحت المجال لفاعلين إقليميين، بما في ذلك المبعوث الأممي حينها، جمال بنعمر، البريطاني من أصول مغربية، والذي باشر أدوارًا عابثة، خارج اختصاصاته وولايته، ومرورًا بالأدوار التي لعبها وزير الدفاع، حينذاك، محمد ناصر أحمد، لصالح فاعلين إقليمين، يُفصح مكان احتضانه الحالي، عن هويتهم، وعن هوية المستفيدين من إفشال التحول السياسي في اليمن، كمقدمة لسلسلة من الانهيارات الهائلة، والتي خلقت وضعًا، هُندس بعناية، ليكون مجالًا للطعنات الفتاكة، في ظهر اليمن والسعودية، بدافع من حالة تضارب المصالح، محتكمة لمنظورٍ يرى في أي استقرار سياسي، يؤدي لمشروع نهضوي، في اليمن والسعودية، منفردين أو مجتمعين، تهديدًا وجوديًّا لمصالحه، وإدراك ذلك كافٍ لتتبع ما شهدته اليمن، من مجريات متسارعة، ومباغتة، جعلت منه مساحة اشتباك واسع بين أطرافٍ تتضارب مصالحها جذريًّا، خلاله لُقح وخُلِق نفوذُ أطرافٍ إقليمية، طارئة على المشهد في اليمن، ضدًّا على مصالح اليمن أولًا، وضدًّا على المصالح المشتركة مع السعودية ثانيًا، إحدى نتائجها المُتحققة، تمكين ألدّ خصوم المملكة الإقليميين، المتمثل بإيران، من بسط نفوذها في مساحة مفتوحة على خاصرتها الجنوبية، فيما مناطق واسعة من اليمن، يتمدد فيها نفوذ فاعلين طارئين على المشهد، يتبارون لملء الفراغات، كالإمارات، وقطر.

ولخلق ضمانات استراتيجية، تَحول دون معالجة تلك التشوهات، وإعدام أي إمكانية للتعافي منها، صممت اليمن لتكون مجال اشتباك فاعلين إقليميين، انخرطوا في جُملةٍ من التطورات الدراماتيكية في اليمن، وبالقدر الذي كانت تلك العمليات تقوض مصالح اليمن، وكيانه، كانت كذلك، تستهدف، بذات القدر، مجالَ مصالح المملكة، ولم تكن عملية إفشال المبادرة الخليجية، سوى أول عمليات إفشال السعودية العديدة، بدأت أولى خطواتها العملية، بتجميد اللجنة العسكرية، كواحدة من أهم آليات ضمان نجاح المبادرة الخليجية، ثمّ بالهيكلية الارتجالية والتقويضية للجيش، في خرقٍ سافر للمبادرة وآليتها التنفيذية، وعمليات الاغتيالات السياسية، وتحفيز الضغائن والهواجس بين كافة المكونات السياسية ومراكز القوى التقليدية، والحيلولة دون إنجاز أي خطوات من الخطوات التي تم التوافق على ضرورتها الملحة كنقاط للتهيئة للحوار الوطني، في ظل مخدر عام، سُمّيَ "مؤتمر الحوار الوطني الشامل"، والذي صُمّم بعناية، لإفراغه من أي مضمون جادّ، حقيقيّ وفعّال، ولضمان أن يكون شكليَّ الانعقاد، والنتائج، وهي جُملة من العمليات المصممة، والمُدارة، والمنفذة، بعناية فائقة، على خطورتها البالغة حينذاك، فإنها لم تكن في حقيقتها، تمهيدًا تكوينيًّا، لتطورات أخطر وأفدح، ما زالت مجرياتها ووقائعها، بتناسق، تشير بدقة، لمُخرجها، ومديرها، والمستفيد منها، ضدًّا على المصالح الأصيلة، والمشروعة، المنفردة والمشتركة، لليمن والسعودية.

لقد فعَلَت الإمارات بالسعودية، تحت قناع الحليف، ما لم يفعله كلُّ خصوم السعودية واليمن، مجتمعين ومنفردين، فأكملت، تحت لافتة التحالف، مهمتها، المُخططة والمُهندسة، بعناية. بدأت بإفشال العملية السياسية، التي رعتها السعودية، متمثلة بالمبادرة الخليجية، ثم إفشال العملية العسكرية، من داخلها، بصورةٍ منعتها من تحقيق أيٍّ من أهدافها المُعلنة، وحقّقت فعليًّا أهدافًا استراتيجية لدولة الإمارات، كمهندسة وقائدة فعلية لها، وكمستفيدة وحيدة، من كل نتائجها، ومرورًا بتقويض الحكومة المعترف بها دوليًّا، في عاصمتها المؤقتة عدن، ثم بإفشال اتفاق الرياض، وإفشال مجلس القيادة الرئاسي، مُضافًا إلى كل ذلك، سلسلة طويلة من العمليات المباغتة، فرضت من خلالها واقعًا جديدًا، كليًّا، بالغ التعقيد، لتُنجز مهمة عدوانية، في جوهرها، وفي طبيعتها، ونتيجتها، بغض النظر عن ماهية تفسيرات وتأويلات حقيقة وأخلاقية دوافعها.

ويمكن تعريف مهمتها وأهدافها، من خلال التدقيق في الكثير من وقائعها، قبل فرية انسحابها من الحرب في اليمن، وعقبها، فرصيدها مُتركز في سلسلة طويلة من عمليات فرض أمر واقع، باستنساخ ما حدث في صنعاء، ثم السيطرة على عدن، والحرب في آل سالم، وعملية الانسحاب من مساحات شاسعة في الساحل الغربي، وإفشال اتفاق الرياض، إلى العملية الخاطفة للسيطرة على شبوة، في ظل المتغيرات التي خلقتها الحرب في أوكرانيا، وإفشال مجلس القيادة الرئاسي، وأعمال الحكومة، إلى مغامرتها الأخيرة في المكلا، بحضرموت.

ومن غنائم تلك العمليات، أنّ الإمارات، باتت تتمركز، لأهدافٍ أمنية، وعسكرية واقتصادية وسياسية، وديموغرافية، في موانئ المكلا وعدن والمخا وجزيرة ميون، وباب المندب وجزيرة سقطرى (اليمن) في المُحيط الهندي، بالإضافة إلى بوساسو (بورتلاند/ الصومال)، وبربرة (أرض الصومال/ الصومال)، وعصب (إريتريا)، وغيرها.

والثابت، من كل ما سبق بيانه، أن محمد بن زايد، رئيس الإمارات، عراب الأدوار الإماراتية التقويضية، في غير بلد في المنطقة، منها اليمن، ليس فيدل كاسترو، ولا تشي جيفارا، ليكون مفهومًا دوره لخلق حالة أمر واقع، للتفتيت في اليمن، لتفسير اندفاعه، ومقامراته، من خلال إحالة تلك الأدوار لدوافع من تصورات ثورجية، متسقة، ومتراكمة، ضمن مفهوم حق تقرير المصير، وإلقاء نظرة على الخدمات الأساسية، منها الكهرباء، وغيرها من الخدمات الأساسية، في مناطق باتت تحت سيطرته ونفوذه، منذ ثماني سنوات، منها عدن، يمكن التيقن من نواياه الحقيقية.

إنّ ما يفعله في اليمن، بن زايد، باليمن وبالسعودية، ليس جزءًا من مهمة خيرية، بدوافع نبيلة، وتبعًا لذلك، فالجِنان الموعودة، المربوطة بشروط بعث الهويات، المادون وطنية، مُجرد رؤوس سنارات مُطعمة بالأوهام، لاستدراج المجتمعات إلى فخاخ تدفعها إلى مستويات جديدة من التشرذم وعدم الاستقرار والاحتراب.

وعطفًا على ما سبق، وفي سياق أوسع، فإنّ اختبار معيارية و مبدَئِية، دول الهيمنة والاستعمار النافذة، المتكفلة بهندسة التفتيت والخرائب، وتعيد رسم الخرائط، عبر وكلائها الإقليميين، يبدأ من إيرلندا الشمالية، وكاليفورنيا، والشارقة، وبرشلونة، حيث الأوضاع المستقرة تتيح مباشرة آليات قياس الاختيار الحُرّ للناس، لتقرير مصائرهم، واختيار أطرهم السياسية، وتكون نتائجها شفافة ونزيهة ودقيقة، تمثل حقيقة اختيار الناس، بإرادتهم الحُرة؛ أما بلداننا فقد دُفعت عنوة، إلى أتون أوضاع غير طبيعية، تجعل من أي مقامرة، في هذا المسار الخطير، محض إكراه وقسر وتزوير، غير أخلاقي ولا قانونيّ ولا مشروع.


التسوية مع الإمارات أولًا
ولعل من أهم متطلبات حماية مجال الأمن القومي للسعودية ورؤيتها الاستراتيجية، ولمجال الأمن القومي لليمن، وللشرق الأوسط، البدء بإنجاز تسوية مع الإمارات، بصورة تُقارب هواجسها العالية، ومدخلاتها، المُتخلية، دون تفريط، بمسائل الأمن القومي، السعودي-اليمني، ومتطلبات معالجة مقوضاته، وعلى رأس ذلك، التزام الإمارات بمباشرة مبادرات جادة، بتقديم خارطة بكافة الألغام التي زرعتها طيلة السنوات الماضية، في اليمن، والمنطقة، والمبادرة إلى تعطيل مفاعيلها التقويضية، كخطوات بناء ثقة، كخطوات لازمة، لاستعادة الثقة، للبدء بمناقشات جادة، لتسوية تاريخية، تراعي مصالح الجميع، دون استثناء.
وهنا، يمكن استدعاء ما قاله وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، خلال لقاء جمع بينه وبين وزيري خارجية السعودية والإمارات، على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر 2023، حيث، دعا كلًّا من السعودية والإمارات، للتوصل إلى اتفاق لإدارة حالة تضارب المصالح، في المنطقة.

الإمارات عملت منذ العام 2013، على توظيف السعودية، ومركزها الاعتباري، وموقعها، ومواردها، ضدًّا على مصالح السعودية ذاتها، المنظورة والاستراتيجية، من ذلك: دعم الانقلاب العسكري في مصر، وما أعقبه من أحداث، ثم الحرب في اليمن، ثم الأزمة مع قطر، وليس آخِرًا تفجيرُ الوضع في السودان.

اليمن والسعودية، والأدوار الإماراتية
منظور إقليمي
وبقدر ما هناك من حقائق في تحولات الوضع في اليمن، طيلة العقد الماضي، هناك في الكثير من الأحداث الإقليمية والدولية، ما يعزّز فرضيات واستخلاصات هذه المقاربة، بشأن الأدوار الإماراتية التقويضية، وارتباطاتها، وموجّهاتها، الوثيقة الصلة بمستقبل العلاقات اليمنية السعودية، تباعًا، تُعرج هذه المقاربة على أهمها، بإيجازٍ غير مُخِلّ.

ولعلّ من الثابت، أنّ الإمارات قد عملت منذ العام 2013، على توظيف السعودية، ومركزها الاعتباري، وموقعها، ومواردها، ضدًّا على مصالح السعودية ذاتها، المنظورة والاستراتيجية، من ذلك: دعم الانقلاب العسكري في مصر، وما أعقبه من أحداث، ثم الحرب في اليمن، ثم الأزمة مع قطر، وليس آخِرًا، تفجيرُ الوضع في السودان، وهو ملف، يرتبط بملف اليمن، من خلال أربعة عوامل: القوات المشاركة في حرب اليمن، ضمن عمليات التحالف؛ البحر الأحمر؛ مصالح السعودية؛ التفتيت وخطوطه، وما كانت الإمارات لتُفصح عن حقيقتها، بذلك القدر من السفور والفجاجة، لتتمادى بالصورة التي أفصح عنها الأمير محمد بن سلمان، بطعن السعودية في الظهر، لولا القفزات التي تحقّقها السعودية، في إطار رؤيتها، 2030، بصورة تُشكّل تهديدًا وجوديًّا، لمصالحها، ووجودها المُهدَّد أساسًا لأسباب ديموغرافية وبيولوجية، وهو ما يُفسّر مقاطعةَ محمد بن زايد، للقِمّة العربية الصينية، وللقِمة العربية الأمريكية، وهو أدقّ تعبير لحقيقة المواقف الإماراتية، من أي تطور تشهده السعودية، بالإضافة لجُملة من الأسباب الأخرى، التي تعرضها هذه التناولة، ومن منظور براجماتي بحت، يُحيل ذلك الموقف إلى الحساسية العالية تجاه ما يتصوره صانع القرار الإماراتي، كتدابير مشروعة لضمان مصالح بلاده، على الطريقة المكيافيلية.

والحقّ، أنّ تلك الحساسية العالية، لا تتوقف عند ذلك الحد، بل إنها تشمل سمعة الإمارات؛ فمنذ اليوم الأول لحرب التحالف في اليمن، عمدت الإمارات، من خلال شبكتها الدبلوماسية، وعلاقاتها الواسعة حول العالم، إلى حراسة سمعتها، من كلِّ ما توصم به عمليات التحالف، من النواحي الحقوقية والإنسانية والسياسية والعسكرية، وكانت مطالبها، على الدوام، في كافة المحافل، منحصرةً بمطلب عدم الإشارة إلى الإمارات، عند ذكر التحالف، والاكتفاء بعنوان التحالف بقيادة السعودية، بل وأبعد من ذلك، عملت على بناء صورة ذهنية، لقوات الإمارات، المحترفة، التي ما دخلت معركة إلا حسمتها لصالحها، مقابل قوات خائرة، فشلت في كل معاركها، تتمثل في القوات السعودية، المُشارِكة في حرب اليمن.

الإمارات وإيران
مساق خفض التصعيد العلني
وبالإضافة إلى تراكم وقائع أدوارها النشطة، في غير بلد عربي، والذي يُمثّل بمُجمله، محاكاةً واقعية للنموذج الإيراني في أدواره التقويضية خارج حدوده، تحت لافتة تصدير الثورة، وفي إطار من التخادم والتهادي، عقب الهجمات التي طالت سُفنًا في ميناء الفجيرة الإماراتي، في 13 مايو 2019، كردّ فعل عكسي، متسق مع حساسيتها العالية، حصرًا، تجاه مصالحها، بدأت الإمارات بالإفصاح عن توجهٍ جديد، عنوانُه خفضُ التصعيد مع إيران، تلاه إعلانُ وصول مسؤولين إماراتيين إلى طهران، لمناقشة آليات خفض التصعيد، وفي أعقاب الهجوم الإيراني المزعوم، على البنية التحتية الحيوية لإنتاج النفط السعودي، في سبتمبر/ أيلول 2019، ومرة ​​أخرى، بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، وجّهت الإمارات العربية المتحدة دعوات علنية لوقف التصعيد.

وفي سلسلة من الخطوات، المتسقة مع مطالبها بخفض التصعيد مع إيران، أعلنت موقفًا أُحاديًّا، بإعادة بناء علاقتها مع نظام بشار الأسد، وإعلان انسحابها الشكلي من الحرب في اليمن، بعد سنوات، من إدارة الظهر للحوثيين، جمدت كافة جبهات قتالها معهم، وانهماكها في تقويض نفوذ الحكومة المعترف بها دوليًّا، المدعومة من السعودية، بما في ذلك حزب الإصلاح، في جنوب اليمن، بالإضافة إلى انسحابها، من جانب واحد، من مساحات واسعة في الساحل الغربي لليمن، بالإضافة إلى تطورات عديدة، أعقبت هجمات الحوثيين على الإمارات في 31 يناير 2022، وهو الهجوم الثالث، خلال نفس الشهر، وكان الهجوم الأول في الـ17من يناير 2022؛ أما الهجوم الثاني فكان بعد ذلك بأسبوع، وهي أول وآخر، هجمات حوثية، منذ إعلان عمليات التحالف في 26 مارس 2015.

وفي وقت سابق، لكل تلك الخطوات، كانت قد أشارت تقارير لجنة الخبراء، التابعة لفريق العقوبات التابع لمجلس الأمن، إلى أنّ شركات مقرها في الإمارات، ساهمت في تهريب النفط للحوثيين، في تحايل على العقوبات، خلال ذروة الصراع في اليمن.

لمقاربة الرؤية الصينية، للشرق الأوسط، ضمن مبادرة الحزام والطريق، يمكن استدعاء ما قاله الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في خطابه بمقر جامعة الدول العربية، في القاهرة، خلال زيارته للمنطقة، في النصف الثاني من شهر كانون الثاني/ يناير 2016

الحزام والطريق، والصين
تحول عالمي جديد، بأبعاد متعددة، من منظور اقتصادي

في سياق أوسع، ترتبط الأدوار الإماراتية، خلال الحرب في اليمن، ومقدماتها، وأدوارها التقويضية، في غير بلد، بعوامل ذات بُعد دولي، من بينها طريق الحرير، كمشروع واعد، يمثل رؤية الصين، للعالم، بأبعاد متعددة.

وطريق الحرير، هو مشروع أعلنه رسميًّا، الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لأول مرة، عام 2013، وأطلقه رسميًّا في مارس/ آذار 2015، باسم "الرؤية والتحرك، وهو عبارة عن شبكة واسعة، من العمليات الضخمة، تشمل طرقات برية، رئيسية وفرعية، تتضمن شبكة من الجسور الضخمة، وشبكة من سكك ومحطات القطارات السريعة، بالإضافة إلى شبكة من الممرات البحرية وخطوط الملاحة، والموانئ والمرافئ الإقليمية العملاقة، والبنية التحتية، وهو مشروع استراتيجي، يربط بين قارات العالم الثلاث، ويغطي أكثر من 72 دولة، 75% من سكان العالم.

وهو، بالإضافة إلى ما سبق، منظومة متكاملة، من المدن الصناعية، والأسواق الحرة، والسدود العملاقة، وتقنيات الزراعة، وخطوط إنتاج ونقل الكهرباء، وخطوط نقل النفط والغاز، وتبادل السلع والخدمات. يستند المشروع إلى هيئة سياسية دولية، جديدة، تحت عنوان مجموعة دول البريكس، كتحالف دولي جديد.

ولمقاربة الرؤية الصينية، للشرق الأوسط، ضمن مبادرة الحزام والطريق، يمكن استدعاء ما قاله الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في خطابه بمقر جامعة الدول العربية، في القاهرة، خلال زيارته للمنطقة، في النصف الثاني من شهر كانون الثاني/ يناير 2016: «إن التبادلات بين الصين ومنطقة الشرق الأوسط، تجاوزت حواجز المكان والزمان، ولاستمرارية هذه العلاقات الوطيدة، بين الجانبين، تُشارك الصين بشكل أكثر إيجابية في شؤون منطقة الشرق الأوسط، وهي تأمل في أن يؤدي ذلك إلى جعل أصدقائها القدامى، أكثر قربًا منها، وإلى تعزيز الثقة مع أصدقائها الجدد»، وهي مضامين تعززت خلال القمة العربية الصينية، ومُخرجاتها، ونتائجها، وخلال القمة السعودية الصينية.

ورغم أهمية البعد الاقتصاديّ، لطريق الحرير، فهو مرتبط، أيضًا، بأبعاد جيوسياسية، حيث يُعيد فعليًّا، حياكة العلاقات الدولية، الديموغرافية، والاقتصادية والسياسية، والثقافية، والاجتماعية، ولذلك، فهو أحد أهم العوامل الحاكمة لسياسات وتفاعلات الدول، حول العالم، ومنها دول الشرق الأوسط، وعلى رأسها السعودية واليمن، وبوجه خاص الإمارات، وأدوارها المنسقة، في إطار حالة من تقاطع المصالح، مع إسرائيل، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية.


التفاعلات المحلية والإقليمية والدولية
السعودية ورؤية 2030، والصين وطريق الحرير

من عدة محطات، أبرزها: انعقاد القمة العربية الصينية، تحت رعاية سعودية، والقمة السعودية الصينية، واتفاقيات التعاون المشترك، الموقَّعة بين البلدين، هناك مؤشرات تدل على اقتراب إعلان انضمام السعودية، إلى مجموعة البريكس، والتي باتت تمتلك حصة وازنة من حجم الاقتصاد العالمي، كأهم شريك في الشرق الأوسط، للصين.

ومن المحطات الهامّة، للتعاون السعودي الصيني، الإعلانُ المفاجئ بتوقيع الاتفاق السعودي الإيراني، بوساطة صينية، وما تلاه من خطوات، أحدثها فتحُ السفارات المُغلقة من سنوات، في الرياض وطهران، وهو مسار من المأمول أن يساهم في إطفاء الكثير من الحرائق في المنطقة، منها الحرب في اليمن، وهي تطورات تُذكِّر بتصريحات الأمير محمد بن سلمان، بأنه وضع على عاتقه، مسؤولية النهوض بدول الشرق الأوسط، مشيرًا إلى النهضة الأوروبية، كنموذج، ومما يُكسب تلك التصريحات قدرًا عاليًا من الجدية والواقعية، الخطواتُ المُراكمة حتى الآن، والتي تكشف عن ملامح مساقات تحقيق رؤية تنموية، بقيادة سعودية، للنهوض بالمنطقة، كمجال أمن قومي مشترك، تتكامل مع مضامين طريق الحرير، من منظور الصين.

وأول شروط نجاح تلك الرؤية السعودية، للنهوض بمنطقة الشرق الأوسط، ولنجاح رؤية 2030، للنهوض بالسعودية، قبلًا، المبادرةُ بالعمل، وفق خطة فعّالة لمُعالجة التشوهات الخطيرة، المتمثلة بحدود الدم والنار والبارود، في غير بلد عربي، بمعالجتها يصبح أي مشروع نهضوي سعودي، مسنودًا بكتلة عربية وازنة، كمصلحة مشتركة، للتعامل مع التحولات العالمية الهائلة، المُعتملة على أكثر من صعيد.


اليمن والصين وطريق الحرير

بين إلغاء اتفاقية موانئ دبي وزيارة هادي إلى الصين

بعد أسابيع، فقط، من إعلان الحكومة اليمنية، إلغاء اتفاقية مُنحت فيها شركة موانئ دبي تشغيلَ ميناء عدن، ابتداءً من العام 2008، بسبب اتهامها لشركة دبي، بارتكاب إخلالات، عمدت من خلالها إلى تعطيل العمل في الميناء لصالح موانئ أخرى تديرها- أُعلِن عن إبرام اتفاقية جديدة، لتطوير وتشغيل ميناء عدن، بتكلفة 507 ملايين دولار، بتمويل من الصين. وتشمل عملية التطوير، توسعة وتعميق محطة الحاويات، وبناء رصيف إضافي، وتعميق وتوسعة القناة الملاحية الخارجية، إضافة إلى تعميق وتوسعة القناة الملاحية الداخلية، وهي أعمال تطوير، بنظر الشركة الصينية لهندسة الموانئ المحدودة، وبالشراكة مع مؤسسة موانئ خليج عدن. وقد كانت تلك الاتفاقية، إحدى اتفاقيات التعاون، الموقعة على هامش زيارة الرئيس هادي، منتصف نوفمبر 2013، إلى عاصمةَ جمهورية الصين الشعبية، بكين، أجرى خلالها مُباحثات مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، وتم التوقيع على عددٍ من الاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية.

وتزامنت، تلك الزيارة الهامّة، للرئيس هادي، إلى الصين، وتوقيع عددٍ من الاتفاقيات، بين الجانبين، مع إعلان الرئيس الصيني لمبادرة طريق الحرير، وهو تزامن له دلالاته الواضحة، الكافية، لتفسير الأدوار الإماراتية التقويضية في اليمن، والتي ركزت على المساحات اليمنية، المُطلّة على البحر الأحمر، وباب المندب، والمحيط الهندي، بالإضافة إلى مناطق مهمة، تتركز فيها الثروات الطبيعية، وإلى مساحات ذات دلالات جيوسياسية، لليمن والسعودية.

‏ ومن اللافت للانتباه، من زوايا ذات صلة بالقمة العربية الأمريكية، والقمة العربية الصينية، كعنوانين من عناوين التفاعلات الدولية، في الشرق الأوسط، واليمن على وجه الخصوص، أنّ اليمن، ممثلة برئيس مجلس القيادة الرئاسي، رشاد العليمي، لم تتلقَّ دعوة للمشاركة، في أعمال القمة العربية الأمريكية، وخلافًا لذلك، وجهت لها دعوة رسمية، للمشاركة في أعمال القمة العربية الصينية، وهو أحد مؤشرات كثيرة، تؤكد أنّ اليمن في مجال الاهتمام الصيني.

تكاد تتطابق وجهات نظر حمائم وصقور الجمهوريين والديموقراطيين، في مقاربتهم لكل ما يمت للصين بصلة، ويمكن إدراك ذلك، من خلال تتبع السياسة الخارجية الأمريكية، تجاه الصين، لآخر ثلاثة رؤساء

الصين وطريق الحرير

من منظور الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها

تكاد تتطابق وجهات نظر حمائم وصقور الجمهوريين والديموقراطيين، في مقاربتهم لكل ما يمت للصين بصلة، ويمكن إدراك ذلك، من خلال تتبع السياسة الخارجية الأمريكية، تجاه الصين، لآخر ثلاثة رؤساء: أوباما، ترامب، بايدن، من خلال عدة ملفات رئيسية، منها: ملف العقوبات، وملف تايوان، وملف تقنيات الاتصالات الصينية، وملف طريق الحرير، بصورة تُعرف تعامل الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية، مع الصين، وتصاعد نفوذها، وإن بوسائل الاقتصاد، كأخطر تهديد سيادي، استراتيجي، تبذل جهودًا متواصلة، للتعامل معها، مع الأخذ بكل التدابير الكفيلة بمنع أي احتمالية للاصطدام، على الأقل، في الوقت الراهن.

وكان من اللافت في مساعي التعامل مع حالة تعارض المصالح بين أقوى اقتصادين في العالم، زيارة هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية، الأسبق، في أواخر يوليو 2023، إلى العاصمة الصينية، بكين، التقى خلالها بالرئيس الصيني، ووزير الدفاع.

ويجدر الإشارة، توضيحًا، إلى أنّ هذه المقاربة لم تجد في نتائج القمة العربية الأمريكية، والقمة السعودية الأمريكية، ما يستحق التوقف عليه، من أي زاوية من الزوايا التي تقاربها هذه التناولة، بما في ذلك: مسائل الشرق الأوسط، والصين، وطريق الحرير. ولعل أهم نتائجها تمثلت في سؤال ذلك الصحفي الأمريكي، الذي صرخ في وجه بايدن، هل "السعودية منبوذة؟"، وفي دلالات الصور التذكارية المُلتقطة، والتي توثق مرحلة من انعدام الفاعلية، والافتقار للمبادرة والتأثير والتفاعل، التي باتت تستوطن البيت الأبيض.

بقدر ما يمثله وجود دولة سعودية حديثة، من أهمية قصوى بالنسبة لليمن واستقرارها ونهضتها، فإن وجود دولة يمنية حديثة، بشخصيتها الاعتبارية، وكيانها القانوني، بذات الأهمية القصوى للسعودية واستقرارها ونهضتها.

الاستخلاصات والتوصيات

استنادًا على ما سلفَ بيانُه، في هذه المقاربة، من حقائق وحجج، تؤكد وجود رؤية سعودية، جديدة، بأبعاد متعددة، محلية وإقليمية ودولية، تتناغم مع الرؤية الصينية، وإلى عدد من الخطوات التمهيدية، في طريق إطفاء حرائق المنطقة؛ فقد باتت، تتوفر الآن، فرصة ثمينة، للتصدي لمعالجة كافة التشوهات العميقة في منطقتنا العربية، تتطلب قيادة جسورة ومبادرة، تحمل على عاتقها مهمةَ إنجاز تحوّلٍ تاريخيّ في إطار مبادرة طريق حرير، شرق أوسطية.

ومن منظور مجال الأمن القومي، لليمن والسعودية، منفردين ومجتمعين، وحالة تقاطع المصالح، وتطابقها في الأغلب الأعم، منها، لعوامل طبيعية لا مجال للتملص من تبعاتها، من بينها: الجوار بكل مضامينه الجيوسياسية، والحدود البرية والبحرية المشتركة، في مجال من تشابك المصالح، وإدراك الكلفة الباهظة لعدم الاستقرار في اليمن، على مصالح البلدين، مما يجعل، أولى الأولويات المُلحّة، المبادرةَ إلى خلق مساق خلّاق، يبدأ من تعطيل مفاعيل عمليات التقويض والتلغيم في إطار الحرب ومقدماتها، وإعادة كافة الأطراف اليمنية إلى سكة مناقشات مستقبل يمن مستقر، يحفظ لليمنيين كيانهم ووجودهم واعتبارهم.

وفي إطار تصور واضح للمصالح المشتركة، يُرسخ حالة من حُسن الحوار، يمكن أن تصمم مسارات للتكامل، وتبادل المنافع، أحد أوجهها، أن تشكِّل الكتلة السكانية اليمنية أحدَ مُدخلات التنمية السعودية في إطار رؤية 2030، من خلال العمالة اليمنية، والتي رافقت مرارًا، مراحلَ البناء والتعمير في السعودية.

ولا تتوقف، مهمة، بناء علاقات يمنية-سعودية خلّاقة، عند الحاجة المُلحة لبحث ومقاربة ومعالجة الإشكالات المتعلقة بالحرب الراهنة، فعلى أهمية ذلك، فإن مهمة إنجاز تلك العلاقة البناءة، تتطلب كذلك مقاربة ومعالجة الإشكالات التاريخية المزمنة، ذات الصلة بالعلاقات اليمنية-السعودية، حيث يتوجب أن تتسم كافة مراحل العمل لتحقيق ذلك الهدف، بالمكاشفة المسؤولة والجسورة، لضمان وضع كافة الهواجس والتطلعات والتحفظات والضمانات والشروط والمطالب، وكل عناصر وجزئيات ملف العلاقات اليمنية-السعودية، على الطاولة، لتشكل مُدخلات سليمة للتأسيس لعملية بناء علاقات خلاقة ومثمرة، لتحقيق المصالح المشتركة بين البلدين، وأبعد من ذلك؛ لتعزيز جدران حماية البلدين، ومصالحهما، وأمنهما القومي، من أي طعنات غادرة في الظهر، من أي طرف كان، تحت أي ظرف كان.

وإذا ما توفرت إرادة، واعية، ومستنيرة، للتحول من حالة رد الفعل، كاستجابة مقوضات مجال الأمن القومي، إلى حالة من الفعل، كاستجابة مدروسة، ومُهندسة بعناية، فإنّ من واجب اليمن والسعودية، خلقَ أُنموذج جديد، لمقاربة مسائل السلام، يهندسها ويتولى حياكتها أصحاب المصلحة، بدوافع ذاتية بحتة، دون الحاجة إلى آليات الأمم المتحدة، المعطوبة، في الأغلب، حتى في الجانب البروتوكولي، والشكلي منها، طبقًا لآلية مؤسسية دولية فعّالة خاصة باليمن، يُمكن بناؤها، في إطار تعاون سعودي، صيني، عماني، يمني، تتولى مهمة قيادة مسار استجابة مؤسسية، فعّالة، تحت غطاء إقليمي ودولي، برؤية خلاقة، تستلهم من خطة مارشال، وخطوط عمل مجموعة البريكس وطريق الحرير، في مقاربة مسائل إيقاف الحرب، وتحقيق السلام، وإنجاز تسوية سياسية، ومسائل النظام السياسي والحوكمة، وعمليات الإعمار، وعمليات معالجة ملفات حقوق الإنسان، ومسائل التعافي، وفق محددات صارمة، لا تسمح بأي ألغام أو تشوهات مستقبلية.

وبقدر ما يمثله وجود دولة سعودية حديثة، من أهمية قصوى بالنسبة لليمن واستقرارها ونهضتها، فإن وجود دولة يمنية حديثة، بشخصيتها الاعتبارية، وكيانها القانوني، بذات الأهمية القصوى للسعودية واستقرارها ونهضتها.

ولذلك، فإنه من المهم للغاية، أن تُشكّل كافة العمليات الجارية حاليًّا، في إطار جهود إيقاف الحرب، مقدمات لإنجاز تسوية تاريخية، يمنية-يمنية، تؤدي إلى طريق بناء الدولة اليمنية، الممُثِّلة لجميع اليمنيات واليمنيين، ولتطلعاتهم، في دولة المواطنة، والعدالة، والنماء، وسيادة القانون، كأساس لتسوية تاريخية، يمنية-سعودية، والعمل على حياكة كل الضمانات المانعة لأي مخرجات مناقضة لذلك الهدف.


> المراجع

- د. عبدالله عوبل، 5 يوليو 2023، "الوطني الحضرمي" و"الانتقالي الجنوبي"، آخر دخول: 25 سبتمبر 2023، متاح على: https://www.khuyut.com/blog/south-yem
- د. أحمد سنان،30 مارس 2023، "تنين" يعمل بجينات غير استعمارية، آخر دخول 25 سبتمبر 2023،متاح على: https://www.khuyut.com/blog/china-middle-east
- أحمد ناجي، 19 يناير 2022، "أبو ظبي ومعضلة خياراتها الجديدة في اليمن"، آخر دخول 25 سبتمبر 2023، متاح على: https://carnegie-mec.org/diwan/86216
- أحمد ناجي، 14 يوليو2022، "زيارة بايدن إلى السعودية: ماذا تعني لليمن؟"، آخر دخول 25 سبتمبر 2023، متاح على: https://carnegie-mec.org/2022/07/14/ar-pub-87509 

- Joe Biden,9 July 2022,”Joe Biden: Why I’m going to Saudi Arabia”, last visit 25 september2023,available at : https://www.washingtonpost.com/opinions/2022/07/09/joe-biden-saudi-arabia-israel-visit/ 

- أحمد ناجي، 24 مايو 2022، الطموحات السياسية لجنوب اليمن ومعوقاتها الداخلية، آخر دخول 25 سبتمبر 2023، متاح على: https://carnegie-mec.org/2022/05/24/ar-pub-87142 

- علي عبدالله، 10 مارس2020، اليمن على طريق الحرير، آخر دخول 25 سبتمبر 2023، متاح على: https://www.khuyut.com/blog/5975
- علي عبدالله، 15 ديسمبر 2022، قمة عربية صينية لترسيخ مشتركات تاريخية، آخر دخول 25 سبتمبر 2023، متاح على: https://www.khuyut.com/blog/arab-china-summit
- عبدالرشيد الفقيه، 14 يوليو 2022، عن زيارة بايدن للسعودية، آخر دخول 25 سبتمبر 2023، متاح على: https://www.khuyut.com/blog/biden-visit
- رانيا محمد، 16 يوليو 2022، "اليمن ضحية إعادة ترتيب العلاقة الأمريكية السعودية!"، آخر دخول 25 سبتمبر 2023، متاح على: https://www.khuyut.com/blog/ksa-usa-relation 

•••
عبدالرشيد الفقيه

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English