بين ثرواتها وموقعها الاستراتيجيّ تبرزُ حضرموت بقوّةٍ في المشهدِ اليمنيّ كفاعلٍ رئيسيٍّ في معادلات النفوذ الإقليمي والدوليّ، إذ تجاوزت الزيارات الدبلوماسيّة الأخيرة إطار المجاملة البروتوكوليّة لتصبحَ مؤشرًا على تحوّلٍ جذريٍّ في النظرةِ الدّوليّة تجاه هذه المحافظة. فما بدا نشاطًا دبلوماسيًا روتينيًا بين المكلا والرياض كشَفَ في جوهره عن حراكٍ استكشافيٍّ لواقعٍ متغيّرِ حيث لم تعد القوى الدولية تكتفي بالتقارير عن بُعدٍ بل تختبرُ مباشرةً التحولات التي تضع حضرموت في قلبِ معادلة النفوذ الجديدة.
في هذا السياق يرى الدكتور/ صلاح بن مدشل، رئيس قسم العلوم السياسية بكلية الآداب بجامعة حضرموت في حديثٍ لـ (خيوط) أن الحراك الدبلوماسي الأخير يعدّ "مؤشرًا على تحوّلٍ نوعيٍّ في تموضع حضرموت ضمن حسابات الدول الكبرى"، ويؤكد أن كل خطوة في السياسة تكون مبنية على تقديرات واستراتيجيات دقيقة مشيرًا إلى أن حضرموت أصبحت محطّ أنظار القوى الكبرى بفضل ثرواتها وموقعها الاستراتيجي ودورها المحتمل مستقبلًا.
تتفِق هذه القراءة مع تقديرات دولية ترى في حضرموت إقليمًا مرشحًا لنموذجٍ خاصٍ من (الحكم المحلي أو اللامركزية) في ظل تصاعد الحديث عن ترتيباتِ ما بعد النزاع في اليمن، ويعكس هذا التوجه اعترافًا متزايدًا بقيمة حضرموت الاستراتيجية ما يفتح المجال لقنوات تواصل مبكرة مع القوى المحلية لضمان مَوْطِئ قدم في التوازنات المقبلة. إذ تمثل حضرموت بمواردها الطبيعية وموانئها وامتدادها الجغرافي رقعةً استراتيجيةً يصعب تجاهلها، ما يفسر السباق الدبلوماسي المحموم نحو المكلا كسباقٍ لتثبيت الأعلام في خريطةٍ لم تُرسم بعد.
ويؤكد محمد باجابر، مدير الدائرة السياسية في المجلس الانتقالي الجنوبي بحضرموت متحدثًا لـ (خيُوط) أن الزيارات الدبلوماسية المتكررة إلى المحافظة تعكسُ "إدراكًا دوليًا متناميًا لأهمية حضرموت الاستراتيجية"، ويضيف أن العالم بدأ يلتفت إلى دورها المحوري ليس فقط في سياق القضية الجنوبيّة بل أيضًا ضمن معادلات الأمن والاستقرار الإقليمي، ما يثبت أن حضرموت لم تعد هامشًا جغرافيًا بل أصبحت مركزًا في التصورات الدولية لمستقبل اليمن والمنطقة برمتها.
خارطة تتغيّر على مهل
الزيارات المتوالية لم تكن مجرد محطات دبلوماسية عابرة، بل جاءت محمّلة بخطاب موحّد منمّق العبارات حول: دعم الأمن، تعزيز التنمية، تشجيع الحكم الرشيد، وبناء شراكات محلية فاعلة. ورغم أن هذه اللغة قد تبدو توافقًا شكليًا إلا أنها تكشف عن تحوّل أعمق في طريقة تفكير العواصم الكبرى التي بدأت ترى اليمن كخريطةٍ يُعاد رسم ملامحها ببطءٍ وحذر شديدين.
لم يكن التحوّل في خطاب العواصم الكبرى واهتمامها المتزايد بتفاصيل الداخل اليمني منفصلًا عن تغيّر النظرة إلى حضرموت التي تجاوزت موقعها التقليدي على هامش المشهد لتتقدّم تدريجيًا نحو صدارة التقديرات السياسية لدى الفاعلين الدوليين. لم تعد تُرى كمجرد مساحة جغرافية بعيدة عن مركز القرار بل باتت تُفهم كمنطقة تماس حساسة بين الاستقرار والفوضى، تحمل في طياتها إمكانية التحوّل إلى منصة بديلة للتفاهم، لا سيما إذا وصلت مسارات التسوية بين الشمال والجنوب إلى طريق مسدود.
أضحت التحركات الدولية نحو حضرموت جزءًا من مشهد داخلي يتشكّل فيه توازن جديد بين قوى تقليدية وأخرى صاعدة، في خريطة سياسية غير مكتملة تتقاطع فيها الولاءات والمصالح. ويُعد الحراك الدبلوماسي المتزايد فرصةً لإبراز فاعلين محليين كممثلين محتملين أمام القوى الكبرى يمكن التعويل عليهم لتجاوز التشتت المحلي إلى أدوار وطنية أو إقليمية أكثر رسوخًا
وفي ضوء ذلك يرى مراقبون أن الحضور الدولي المتزايد في حضرموت لا يهدف فقط إلى تعزيز دورها في الخارطة السياسية بل يعكس تحولًا في سياسات الدول الكبرى تجاه جنوب اليمن ككل. فالقوى الدولية بدأت تركز على حضرموت كعنصر محوري في معادلات الحلول المستقبلية باعتبارها نقطة توازن بين أطراف النزاع ومفتاحًا لتحقيق الاستقرار طويل الأمد.
ولا يرى محمد باجابر في هذا الحراك الدولي دورًا جديدًا يُمنح للمحافظة، بل يعتبره اعترافًا متأخرًا بدورٍ كان حاضرًا ومتجذرًا لكنه لم يُقرأ على النحو الصحيح. يقول باجابر: "هذه الزيارات لا تصنع دورًا بل تؤكده، إنَّها تُكرّسُ مكانةَ حضرموت كمكونٍ أساسيٍّ في معادلةِ الحلِ الشَّاملِ لا بوصفها طرفًا محليًا فحسب بل باعتبارِها منطقةَ ارتكازٍ لمشروع استقرار طويل الأمد".
رسائل متعددة الجهات
خلف التصريحات الدبلوماسية الرسمية التي واكبت هذه الزيارات تكشّف المشهد عن رسائل غير معلنة تتراوح بين التقاطع والتباين لكنها تعكس بمجملها ديناميكيةٍ دوليةٍ شديدةَ الحساسية. فبعض العواصم تسعى إلى استكشاف بدائلها في حال تعثّرت التسويات السياسية الكبرى في شمال اليمن، فيما توجه أخرى رسائل ضمنية إلى اللاعبين الإقليميين مفادها أن الجنوب - ولا سيما حضرموت- لم يعد ساحةً حصريةً لنفوذِ طرفٍ بعينه.
في هذا السياق تحاول قوىً دولية فاعلة إعادة تشكيل ما يمكن تسميته بـ (التمثيل الجغرافيّ) في الشراكات السياسية والاقتصادية من خلال التركيز على المناطق التي تحظى بدرجةٍ أعلى من الاستقرار النسبي. وعلى هذا النحو يغدو الاهتمام الدولي بحضرموت ليس سوى جزءٍ من خارطةٍ أوسع تُعاد هندستها بعناية حيث تنتقل الأطراف من موقع التابع إلى موقع الفاعل، لتغدو مراكزَ مؤثرة في معادلات النفوذ الإقليمي والدولي.
ويكشف هذا التعدد في الرسائل أيضًا عن تباينات ملحوظة في أولويات القوى الدولية، إذ تركز الولايات المتحدة على بناء شراكات أمنية طويلة الأمد في إطار مكافحة الإرهاب وتأمين الممرات البحرية، بينما تنظر الصين إلى حضرموت كحلقة استراتيجية ضمنَ مبادرة (الحزام والطريق)، أمَّا الاتحاد الأوروبي فيسعى بدوره إلى تعزيز حضوره التنموي والدبلوماسيّ مستفيدًا من الفراغ النسبي الذي تتركه واشنطن في بعض الملفات.
تحوّلات في عمق المشهد
أضحت التحركات الدولية نحو حضرموت جزءًا من مشهد داخلي يتشكّل فيه توازن جديد بين قوى تقليدية وأخرى صاعدة، في خريطة سياسية غير مكتملة تتقاطع فيها الولاءات والمصالح. ويُعد الحراك الدبلوماسي المتزايد فرصةً لإبراز فاعلين محليين كممثلين محتملين أمام القوى الكبرى يمكن التعويل عليهم لتجاوز التشتت المحلي إلى أدوار وطنية أو إقليمية أكثر رسوخًا، إلا أن التحدي الحقيقي لا يكمن في تعدد هذه الأصوات، بل في غياب رؤية موحدة؛ فالحضور الدولي رغم وجاهته قد يُصبحُ عِبئًا إذا لم يُوظف لبناء الدولة بدلًا من تقاسمها.
وفي هذا السياق تشير الباحثة في شؤون العلاقات الدولية، هدى فيصل في حديثها لـ (خيُوط) إلى أن حضرموت باتت محطّ تنازعٍ رمزيٍّ تتجاذبها الشعارات بين دعوات الحكم الذاتي من جهة، ومساعي الإدماج في مشاريع سياسية أوسع من جهةٍ أخرى، وهو ما يجعل موقعها في الخارطة اليمنية محلّ نقاشٍ دائمٍ ويمنحها -رغم الالتباس- مركزيةً لم تكن لها من قبل.
لم تعد حضرموت اليوم مجرّد محافظة على هامش الخارطة اليمنية بل باتت عقدةً استراتيجيةً عند مفترق طرق حيث يتقاطع مشروع التنمية بحسابات النفوذ ويتداخل الممكن المحلي بما يُراد له دوليًا وفي هذه اللحظة الفارقة تبدو المحافظة أمام خيارين: إما أن تنهض كنموذجٍ يُحتذى به، أو تنزلق إلى مربعِ صراع المصالح وإعادة التموضع.
مع تنامي الاهتمام الدولي بحضرموت يبرز التحدي الأكبر في تحويل هذا الحضور من مجرّد دعم رمزي إلى شراكات تنموية تُبنى على رؤية وطنية تتجاوز التجاذبات المحلية. فالمحافظة وهي تكتسب وزنًا سياسيًا متزايدًا مطالبة بتفعيل دورها من داخل الدولة لا على هامشها من خلال قوى صاعدة تعتمد الحكم الرشيد وتسعى لتثبيت حضور مستدام في الداخل والخارج.
ويؤكد الصحفي عبيد واكد، في تصريح لـ (خيُوط)، أن "زيارات السفراء إلى حضرموت خاصةً ممثلي الدول الكبرى تعكس تحولًا في النظرة الدولية إلى المحافظة باعتبارها ركيزةً للاستقرار ومركزًا مرشحًا للعب دور فاعل في المعادلة اليمنية. إضافة إلى البعد الأمني ومتابعة المشاريع التنموية فتُظهر هذه الزيارات اهتمامًا متزايدًا ببناء شراكة مع سلطة محلية أثبتت كفاءتها وقدرتها على إدارة شؤونها بشكل نموذجي".
على مفترق طرق
لم تعد حضرموت اليوم مجرّد محافظة على هامش الخارطة اليمنية بل باتت عقدةً استراتيجيةً عند مفترق طرق حيث يتقاطع مشروع التنمية بحسابات النفوذ ويتداخل الممكن المحلي بما يُراد له دوليًا وفي هذه اللحظة الفارقة تبدو المحافظة أمام خيارين: إما أن تنهض كنموذجٍ يُحتذى به، أو تنزلق إلى مربعِ صراع المصالح وإعادة التموضع.
يقول محمد باجابر، مدير الدائرة السياسية بالمجلس الانتقالي الجنوبي في حضرموت لـ (خيُوط): "الجنوب لا يُبنى بدون حضرموت" عبارة تختزل إدراكًا داخليًا آخذًا في التنامي بأن المحافظة بثقلها الجغرافي والبشري والاقتصادي لم تعد قابلةً للتهميش أو التجاهل، ومع تزايد الزيارات الدولية فإن ما لم يُستثمر برؤية محلية رشيدة قد يتحوّل إلى أداة لإعادة تشكيل النفوذ الخارجي أكثر منه فرصة للتنمية المستدامة.
في هذه المرحلة الحساسة تتنوع أدوات العواصم بين الدعم التنموي والتواصل المباشر مع الفاعلين المحليين ما قد يعيد تشكيل مراكز النفوذ أحيانًا بعيدًا عن الدولة. وبينما يصعد اسم حضرموت إقليميًا وتتحوّل من الهامش إلى المتن تبقى قيمة اللحظة مرهونة بقدرة أبنائها على انتزاع دور الفاعل لا الاكتفاء بموقع المتلقي، فالمكانة لا تُمنح بل تُنتزع وتُثبت بالفعل.
يكمن التحدي الحقيقي في ألا تبقى هذه اللحظة الذّهبية لحضرموت حبيسة البيانات واللقاءات العابرة بل أن تتحول إلى مشاريع ملموسة تُغيّر واقع الناس، وهو ما يتطلب وعيًا جماعيًا بأن رسم الخرائط يبدأ بِخُطَى الناس لا بالحبر وحده. ففي مفترق التقاطع بين الداخل والخارج يظل الرهان على وعي أبناء حضرموت بقدرتهم على توجيه اللحظة لصالحهم. أما من يحرس هذه اللحظة فالجواب لا يأتي من الخارج بل يتجسّد في إرادة الناس بأن يكونوا صانعيها لا مجرد شهود عليها.