تستيقظ، تفكر في القات، تشرب الشاي، تفكر في القات؛تتحدث مع أحدهم، لكنه ليس حديثًا حقيقيًا بل مجرد جسر زمني بينك وبين لحظة التقاء يدك بتلك الحزمة الخضراء. كل شيء قبل القات مجرد تمهيد، وكل شيء بعده مجرد انتظار.
إنتاج وهمي
أنت تعيش في نصف يوم، والنصف الآخر يذوب في ذلك المزاج المظلم الذي تخلقه خدرة القات، مزاج اللاشيء.
يقولون إن القات ينشط الذهن ويعزز الإنتاجية والعمل، يردد المتعاطون هذا الكلام بثقة من قضوا نصف حياتهم على تلك المكاتب المعطلة والمتواجدة كوسيلة عبور شكلية نحو "مداركي" ومجالس القات.
ترى أحدهم يمضغ القات بفم ممتلئ، وعينين غائرتين، ويقول: بدون القات، لا يمكنني العمل.
وفي الحقيقة، يحضرني هنا ذلك المشهد الطريف والشهير لتلك المذيعة اليمنية التي سألت أحد المخزنين في لحظة إنسجامه التام مع القات عن رأيه في ظاهرة القتل في المستشفيات.
تحديدًا عندما قال لها بعد أن فشل في حشد قواه الذهنية للرد: "والله مانا داري خليني اخزن"!.
القات والتزييف وجهان لعملة واحدة، يمضغ شخص ما أوراقه ويبدأ في التخطيط لأعمال كبرى، يسرد تفاصيل مشاريع لن يتجرأ التفكير بها في صباح اليوم التالي، يوزع وعودًا لن يتذكرها. إنها جرعة ثقة لا علاقة لها بالواقع
القات ليس معيقًا للإنتاج، القات إنتاجية وهمية، حيث الجميع يبدون مشغولين، والجميع في الحقيقة عالقون في المكان نفسه، في الزمن نفسه، يكررون الحكايات نفسها عن أفكار لن تتحقق ومشاريع لن تبدأ، وإن بدأت، فهي مشوهة.
مجتمع القات
في البداية، تبدو المجالس مليئة بالدفء، ضحكات، مزاح، نقاشات سياسية عميقة، لكن فجأة تكتشف أن لا أحد هنا صديق أحد.
إنها مجرد تحالفات مؤقتة، ضرورية، أو ربما علاجية، وكما يقول المثل المصري: الخيبة "تحب اللمة".
أصدقاء القات، صداقات لا تصمد خارج الغرفة، كل حديث يحمل في داخله بذرة نميمة، وكل نكتة مسمومة بلؤم غير معلن، أنت تظن أنك جزء من مجتمع، لكن الحقيقة أنك مجرد ممثل إضافي في مشهد طويل من القيل والقال، تنسحب منه في الليل دون أن يلاحظ أحد غيابك لتعود إلى منزلك الذي لم تعد حتى جدرانه تأبه لغيابك.
الخداع اليومي
القات والتزييف وجهان لعملة واحدة، يمضغ شخص ما أوراقه ويبدأ في التخطيط لأعمال كبرى، يسرد تفاصيل مشاريع لن يتجرأ التفكير بها في صباح اليوم التالي، يوزع وعودًا لن يتذكرها. إنها جرعة ثقة لا علاقة لها بالواقع، تجعله متحدثًا بارعًا، مقنعًا للجميع إلا نفسه.
أخطر أنواع الكذب هو الكذب الذي لا تعرف أنك تمارسه، وأخطر أنواع الاحتيال هو ذلك الذي تبدأ بممارسته على نفسك؛ كيف يمكن لمجتمع يمضغ الكذب يوميًا أن يتوقع أيّ نهضة؟ كيف يمكن لدولة يغادرها موظفوها عند الظهيرة إلى سوق القات أن تنتج وتصمد في بناء مستقبلها.
وفي الحقيقة ليس مستغربًا أن تكون اليمن وسط كل ذلك مرتعًا للنصابين والدجالين والنهابين، فإنهم لن يجدوا مناخا نفسيا واجتماعيا وسلوكيا مناسبا لترويج بضاعتهم اكثر من هذا الوسط المليء بالمغيبين بالقات، الذين يعلم الجميع مصابهم إلا هم!.
الطقوس السرية
في المساء؛ تمتلئ الشوارع بمخلفات القات، أكياس، أعواد، أوراق ممضوغة، لكنها ليست المخلفات الوحيدة، فهنالك مخلفات بشرية أيضًا: موظفون تركوا مكاتبهم، مدرسون لم يحضروا إلى فصولهم، مسؤولون وقعوا على قرارات وهم في حالة إنتشاء. والكثير من المماطلة والتسويف والملفات المنسية.
ولا تحتاج دولة إلى حرب كبرى لكي تنهار، يكفيها أن يكون شعبها مشغولًا بمضغ ذاته، وأن يكون الوقت مجرد شيء يُقتل في انتظار جلسة أخرى. لا شيء يُبنى في مجتمع نصفه ينتظر القات، ونصفه الآخر يعاني من آثاره.
ملاحظة أخيرة
في النهاية؛ إن فكرت أن تنجو بصحتك وعقلك، وقررت في يوم ما الإقلاع عن القات، ستلاحظ أن النهار أطول مما أعتدت، أن هناك وقتًا لم تكن تدرك وجوده، أن هناك فرصًا لم ترها من قبل، ستعود إلى المجالس نفسها، ستسمع الحكايات نفسها، لكنك ستدرك شيئًا مختلفًا هذه المرة؛ لم يكن القات مجرد عادة، كان حياة مستعارة، وعندما ستتركه، ستعود إليك حياتك الحقيقية، غير أنك قد تأخرت في الإقلاع عنه، ستسقط عليك حياتك الحقيقية كنيزك!.