حَرْب غريبة ومنسية

أسماء وَجِيه في "رِحْلَة وسط الحرب الأهلية في اليمن"
ربيع ردمان
June 1, 2025

حَرْب غريبة ومنسية

أسماء وَجِيه في "رِحْلَة وسط الحرب الأهلية في اليمن"
ربيع ردمان
June 1, 2025

     نعيش في عَالَمٍ يحتشد بالأخبار عن حروب وأحداث وتطورات فكرية وعلمية هائلة يصعب رصدها ومتابعتها كما يتعذر استيعاب تفاصيلها على وفرة ما بحوزتنا من وسائل التسجيل والحفظ والنقل، لكن الكاميرا بنوعيها الفوتوغرافي والرقمي تظل واحدةً من أكثر الوسائل فاعلية في استيعاب تفاصيل عالمنا وتوثيق إيقاعه السريع. فالصورة رديف مثالي للكتابة يتميز بطاقةٍ استيعابية وسرعةٍ في اقْتِناص المَشَاهِد والمواقف واللحظات التي سرعان ما تتلاشى ضمن دورة الزمن الهادرة. ومن الميادين التي استأثرتْ بالصورة وبرزت فيها أهميتها ميدان الحروب والنزاعات؛ وذلك لإحكامها في توثيق مشاهد الصراع والجرائم الناجمة عنه، ورصد ما يخلقه من مآسٍ في حياة البشر. 

غلاف الكتاب

    يبدو أن هذه الميزات قد أَغْرَتْ أسماء وجيه على الانتقال في عملها الصحفي من كتابة التقارير إلى الوقوف خلف الكاميرا واحتراف التصوير. جرى هذا التَّحوّل بعد سفرها إلى العراق عام 2003 لتغطية الأحداث، وهناك أُتيح لها الاحتكاك بمصورين محترفين من الغرب والشرق الأوسط وشجَّعها بصفةٍ خاصة وجود صحفيات يمارسن التصوير الصحفي بحماسة واقتدار.

ما لفت انتباهها في شوارع صنعاء رؤية عناصر قوات الحوثي "وكثير منهم مجرد فتيةٍ صغار، يجوبون شوارع المدينة مرتدين مزيجاً من السترات العسكرية والمعاوز اليمنية التقليدية". لم يَطُل بقاؤها في صنعاء فسرعان ما طلب منها الحوثيون مغادرة مناطقهم على وجه السرعة.

حرب اليمن المنسية 

وجيه مُصوِّرة صحافية مصرية حاصلة على ليسانس أدب إنجليزي من جامعة عين شمس، تمتلك خبرةً تزيد على عقدين من الزمان في تغطية النزاعات في منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا. عملتْ كمراسلةٍ مستقلة في العراق لمدة ثلاث سنوات بعد سقوط بغداد، ثم التحقتْ بوكالة رويترز للأنباء لمدة ثماني سنوات أُرْسِلَتْ خلالها كمصورةٍ إلى أفغانستان والعراق وغزة وليبيا. وفي عام 2016 أصبحت اليمن وجهتها حين تحوَّل النزاع فيها إلى حربٍ أهلية. 

    تمارس أسماء وجيه العمل الميداني وفي الوقت نفسه تواصل عرض قصصها عن المناطق التي قامت بتغطيتها وإتاحتها لجمهور مختلف نوعاً ما عن جمهور راهن الأحداث، جمهور يهتم برؤية القضية ضمن إطار أوسع يتيح تأمل مختلف جوانبها وتفاصيل المشهد بكليته. فخلال عامين متواليين 2018 و2019 أقامت معرضين للصور في القاهرة عن أدوار المرأة الكردية التي تحتل موقعها في ساحة الحرب كمقاتل شجاع وتُسهم في تطبيع الحياة الاجتماعية كقُطْب لا غنى عنه. 

    بين عامي 2016 و2022 زارتْ وجيه اليمن مرّاتٍ عدة عايشتْ خلالها الصراع عن كَثَبٍ وكانت تتابع باستمرار وسائل الإعلام العالمية فتبيَّن لها أنَّ حرب اليمن حربٌ "منْسِيَّة" وليس هناك من يلتفت إلى مصائب شعبها. لذلك ارتأتْ أن تُقدِّم قصصها عن اليمن بشكلٍ مغاير في طريقة العرض والجمهور وذلك بضمها بين دفتي كتاب نشرته بالإنجليزية آواخر عام 2024 في المملكة المتحدة عن دار نشر Helion & Company تحت عنوان "حَرْب لا تنقضي: رِحْلَة وسط الحرب الأهلية في اليمن" "Unfinished War: A Journey through Civil War in Yemen"، ويتكون الكتاب من 138 صفحة تتضمن خريطةً ملونةً ومئة وستاً وخمسين صورة فوتوغرافية ملونة.  

وجوه صنعاء المتوارية

حين أخذتْ أحداثُ الربيع العربي تتوالى كانت وجيه تعمل مصورةً في وكالة رويترز فوجدت نفسها متحمِّسة لتغطية الأحداث وأبلغت مسؤولها المباشر أنها: "مستعدةٌ للذهاب إلى أيّ مكان". كانت تود الذهاب إلى اليمن أو البحرين، لكنْ أولوية رويترز كانت ليبيا: "كنتُ من أوائل الصحفيين القلائل الذين قدَّموا تقارير من الجانب الليبي بعد حكم القذافي. واليمن هو المكان الذي كنتُ أرغب دائماً في الذهاب إليه، ولكن كان هناك بالفعل عدد كافٍ من الصحفيين".

   تهيأتْ لها الفرصة بعد أن تَرَكَتْ العمل في رويترز وقتها كانت اليمن تتدحرج إلى هاوية الحرب الأهلية. أرادتْ وجيه أن تكون صنعاء أولى محطاتها وسرعان ما لمست ضيق الحوثيين بالصحفيين، لكنها قد تعلَّمتْ من مهنة الصحافة أن تستغل أي فرصة للتصوير: "ففي بعض الأحيان يُتَاحُ لك التصوير ساعةً واحدة هنا، ثم أخرى هناك، قبل أن يَطْلُب منك الأشخاصُ مغادرة المكان". 

    لذلك اتجهتْ إلى استكشاف وجوه المدينة المتوارية خلف غبار الحرب، وبدت لها مدينة صنعاء القديمة أكثر وجوه صنعاء إشراقاً بعمارتها التقليدية وتاريخها المطوي في زواريب حاراتها ومبانيها المتراصة بشكلٍ يُبْهج الناظر حين يُطِلُّ عليها من مكانٍ عالٍ. 

   ومما لفت انتباهها في شوارع صنعاء رؤية عناصر قوات الحوثي "وكثير منهم مجرد فتيةٍ صغار، يجوبون شوارع المدينة مرتدين مزيجاً من السترات العسكرية والمعاوز اليمنية التقليدية". لم يَطُل بقاؤها في صنعاء فسرعان ما طلب منها الحوثيون مغادرة مناطقهم على وجه السرعة فأعادتْ برمجة رحلتها في المناطق الموالية للحكومة الشرعية.

يقع ساحل تهامة في غرب اليمن، وهي أكثر المناطق تأثرا بالألغام التي زرعها الحوثيون بشكل واسع وعشوائي، وأكثر ما يؤرق سكانها هو الألغام التي تترصدهم على طول الساحل فتزهق أرواح البعض وتترك أجساد المصابين أسيرة العجز والإعاقة.

مفترقات الحياة والموت

 جاءت وجيه إلى اليمن لتغطية أحداث الحرب الأهلية، وضمن هذه المهمة انجذبت بشدة إلى التعرف إلى طبيعة البلد وما يختزنه من ميراث حضاري وثقافي يتجلى في المباني والمواقع التاريخية ويكشف عنه سلوك الناس وعاداتهم في الكلام والطعام واللباس وتقاليد الضيافة والزواج. أخذت تستكشف هذه الجوانب إلى جوار انشغالها بفهم الكيفية التي يُبَرمج بها المواطنون حياتهم اليومية في ظل أوضاع الحرب المتوترة وأحياناً وسط الاشتباكات والقذائف التائهة والغادرة التي تقع على رؤوس الأبرياء. 

وفضلا عن أوقات الرعب يعايشها السكان أثناء الاشتباكات والقصف، فإن أبرز اللحظات المشحونة بالتوتر والخوف تلك التي تقع عند مفترقات الحياة والموت كإسعاف الحالات المَرَضَية الحرجة والجَرْحَى في طريقٍ اشتباك أو على مَرْمَى قنَّاصة أو تم قَطْعُها، ويظل التوتر والخوف في تصاعد حتى بعد الوصول إلى أقرب مستشفى فكثيراً ما ينتقل المُسْعِفون من مستشفى إلى آخر لأن أغلب المستشفيات تعاني من نقصٍ حاد في الكوادر والمستلزمات الطبية.

    تقترن بهذه الصعوبات مشكلة الألغام التي أفردتْ لها وجيه مساحة ضمن قصصها، وفي ذلك تقول: "لم أركز على المجاعة الناجمة عن الحرب في اليمن، بل وجدت قصصاً أكثر إلحاحاً ... مثل الألغام الأرضية التي زرعتها قوات الحوثيين". وضمن هذا الحديث تسترجع ذكرى قائد عسكري من أبناء تهامة صادفته في الساحل الغربي ثم "انفجر فيه لغم أرضي وأرداه قتيلاً بعد أيامٍ قليلة من لقائي به".

    يقع ساحل تهامة في غرب اليمن، وهي أكثر المناطق تأثرا بالألغام التي زرعها الحوثيون بشكل واسع وعشوائي، وأكثر ما يؤرق سكانها هو الألغام التي تترصدهم على طول الساحل فتزهق أرواح البعض وتترك أجساد المصابين أسيرة العجز والإعاقة.

حرب تثير الغرابة

    من المرجَّح أن يُصَادِق القارئ اليمني على اختيار المؤلفة للعنوان الرئيسي لكتابها: "حَرْب لا تنقضي"، وربما قد يبدو لقارئ لا يعرف حقيقة الوضع عنواناً غائماً ويفتقر إلى الوضوح. ومَرَد ذلك كلمة "Unfinished" وتعني "غير منتهية/ لم تكتمل بعد/ لا تنقضي"، فهمود المواجهات على جبهاتها الرئيسية في السنوات الأخيرة وانصراف الإعلام الأجنبي عن ذكر هذه الحرب قد يحمل على الاعتقاد أن الحرب توقفت. 

    لكن الاشتباكات على المواقع المتاخمة في تناوب دائم بين اشتعال وخُمُود فكلّ طرفٍ يترقَّب ويده على الزِّناد، فالحرب عملياً لا تزال قائمةً وتشتد ضراوةً على مستويات أخرى كالحرب الاقتصادية والملاحقات الأمنية وخطورة التنقل بين مناطق النفوذ، وهذه الضراوة لا تقع إلا على رأس المواطن العادي فتُضَيِّق عليه الخناق إلى جانب ما يكابده من انعدام الموارد وجائحة المجاعة. 

    ولعل من الجدير بالذكر وصف المؤلفة لهذه الحرب بأنها لا تخلو من مظاهر الغرابة وأبرزها "أن لا أحد من الطرفين يتغلب على الآخر". ويظهر أن الطرفين أو على الأقل أحدهما غير مهتم أو غير جاد في إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر، لكن الواضح أن الجميع استمرأ هذا الوضع "فكل الأطراف تسعى إلى الحصول على شيء من هذه الحرب، سواء أكان النفط أو الموانئ؛ الأمر كله يتعلق بالسيطرة. ولا علاقة له بالدِّين".

يبدو واضحاً أن ذخيرة الكتاب البصرية لا تسعى فقط إلى التذكير بمأساة الإنسان اليمني من تطاول هذه الحرب، وإنما تحاول في الوقت نفسه أن تبرز جوانب من صلابته في مواجهة التحديات اليومية وشغفه بالحياة والحرية.

    تكشف محتويات الكتاب عن اهتمام المصورة بالتركيز على التقاط صور عفوية تجسّد حياة الناس على نحو ما هم عليه في ممارسة نشاطهم اليومي المعتاد. وعلى الرغم من أن معظم السكان أمسوا محرومين من احتياجاتهم الأساسية المتمثلة في الغذاء والماء والكهرباء إلا أنهم يظهرون أشداء يكافحون بقوة قد تبدو عليهم علامات التذمر لكنهم يُقبلون على الحياة بدأبٍ ولا يمنع البعض أنفسهم من ارتياد الحدائق وزيارة المواقع الأثرية كلما كان بالإمكان فعل ذلك.

    يجيء كتاب "حرب لا تنقضي" للتذكير بحرب منسية في وقتٍ ينشغل فيه العالم والإعلام الغربي على وجه الخصوص بحرب أوكرانيا وإسرائيل ويغض طرفه عن ضحايا حرب الأخيرة والحروب المشتعلة في مناطق أخرى. أكثر من 150 صورة تمثل سِجلّاً كثيفاً ومتنوعاً يروي بلغةٍ بصرية بالغة الرهافة قصص شعبٍ يعيش فترة اضطراب معقدة تتناهبه جماعاتٌ وأطراف داخلية وخارجية لا تكترث بتدهور أوضاعه بل تعمل على عرقلة أي بوادر حَلّ تكالُباً منها على تثمير مصالحها ومراكمة مكاسبها. 

    إن استخدام اللغة البصرية كأداة رئيسية في هذا الكتاب يضفي عليه طابعاً توثيقاً ويمنحه في الآن ذاته فرصة أفضل لتوصيل موضوعه بسلاسة وبطريقة بالغة التأثير فالصورة ذات جاذبية وبلاغة خاصة في التوصيل تفوق أحياناً بيان الكلمة وسطوة نفوذها. ولا شك أن اختيار المؤلفة الإنجليزية لغةً لنشر الكتاب وإطاراً للغته البصرية يضمن نطاق تداول واسعاً وآفاقاً أكثر رحابة للتعريف بكارثة الحرب وويلاتها التي يعاني منها الشعب اليمني. 

    يبدو واضحاً أن ذخيرة الكتاب البصرية لا تسعى فقط إلى التذكير بمأساة الإنسان اليمني من تطاول هذه الحرب، وإنما تحاول في الوقت نفسه أن تبرز جوانب من صلابته في مواجهة التحديات اليومية وشغفه بالحياة والحرية.

منصة خيوط

•••
ربيع ردمان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English