بين وهم السلطة وحقيقة القرار

كل تغييرٍ يُنتج نفس الأزمات بأسماء جديدة!
عبدالله البيتي
May 12, 2025

بين وهم السلطة وحقيقة القرار

كل تغييرٍ يُنتج نفس الأزمات بأسماء جديدة!
عبدالله البيتي
May 12, 2025

في توقيتٍ يبدو محسوبًا بدقةٍ وسط سلسلةٍ من التحولات غير المعلنة جاءت استقالةُ رئيس الوزراء اليمني أحمد عوض بن مبارك في 3 مايو 2025 ليس كحدثٍ إداريٍّ عابرٍ، بل كمؤشرٍ جديدٍ على أزمةٍ هيكليةٍ تتجاوز الأفراد إلى جوهر فكرة الحكم ذاتها. لم تكن الاستقالة مجرد تعبيرٍ عن إحباطٍ أو تقييدٍ للصلاحيات بل نافذةً تُطلُّ منها أسئلةٌ مصيريةٌ: مَن يمسك بخيوط القرار السياسي في اليمن؟ وكيف يُدار؟ ومن أين تُصدر التوجيهات؟

على مدى سنواتٍ دارت الدولة اليمنية في فلكِ قوىً متشابكة لا تلتقي بالضرورة مع مصالح الشعب. يتقاسَم النفوذَ لاعبون خفيون وتُدار دواليب الحكم من خارج المؤسسات بل ومن خارج الحدود أحيانًا. الاستقالة إذن لم تكن خاتمةً لمرحلةٍ بل بدايةً لتفكيك مسلَّماتٍ طالما عُوملت كحقائقٍ ثابتةٍ، وانفجارٌ صامتٌ لأسئلةِ السيادةِ في بلدٍ أنهكته التّدخلات الخارجية منذ أكثر من عقد.  

السلطة بين أنقاض الدولة

منذ تعيينه في 5 فبراير 2024 سعى بن مبارك إلى تجاوز الدَّور التَّقليدي لرئيسِ وزراء ذي صلاحيات محدودة. حاول تحويل منصبه من موقعٍ تنفيذيٍّ إلى مركزِ تأثير في صنعِ القرار السياسي، لكن طموحه اصطدم بواقعٍ لا يُجيز الاستقلالية. المشهد اليمني اليوم لا تحكمه نصوص دستورية بل تفاهمات خلف الكواليس وموازين قوىً إقليمية ترفض أيّ دورٍ خارج إطار هيمنتها.  

الرجل الذي حملَ خبرةً دبلوماسيةً حافلةً بالتّحديات وجدَ نفسهُ يحاول إحياء فكرة القيادة في نظامٍ يفتقر إلى مقوماتِ السِّيادة. اصطدمت مبادراته الإصلاحية وجهود مكافحة الفساد وتعديلاته المتعثرة ليس فقط بمقاومةٍ محليةٍ ولكن برؤيةٍ إقليميةٍ ترى اليمن ساحةً لتقاسم النفوذ، لا مساحةً لإعادة بناء الدولة.  

ولم يكن مستغربًا أن تأتي استقالته تتويجًا لتراكماتٍ لا تُحتمل. صيغتُها الهادئة في خطاب الاستقالة كشفت بجلاءٍ عمق الخراب البنيوي: "لم أُمنح فرصةَ ممارسة صلاحياتي وفق الدّستور" جملةٌ تختزل مأساة دولةٍ أُفرغت من مضمونها، وحكومةٍ وُجدت لتُنفِّذ لا لتقرر، تحت سقفٍ منخفضٍ لا يسمح إلا بأدوارٍ ثانويةٍ في مسرح السّياسة الأوسع.  

صناعة القرار في الظل 

لم تكن الاستقالة مفاجأةً للنخبة إذ سبقها صمتٌ مطبقٌ وإشاعاتٌ مُغرَضة عن خلافاتٍ غير قابلةٍ للحلّ، بينما تسرّبت أخبار عن ترتيباتٍ بديلةٍ. كما أنَّ سرعة قبول الاستقالة وغياب أيّ محاولةٍ للاحتفاظ بالرجل أكدت أنها كانت مخرجًا مُتفقًا عليه و(إزاحةً ناعمةً) له لا احتجاجًا فرديًا. في اليمن لم يعد القرار نتاج صراعٍ داخلي بل انعكاسًا لتوافقاتٍ تخطّطها عواصم إقليمية. 

اللعبة تُدار ببراعة: يُقدَّم كل جديد على أنه (حل) بينما هو في الجوهر إعادة تدوير لنفس الأزمات بأسماءٍ مختلفةٍ. وهكذا تتحول العملية السياسية إلى سلسلة لا تنتهي من التغييرات الشكلية التي تستهلك طاقة الشعب في انتظار التغيير الحقيقي الذي لا يأتي أبدًا

المشكلة إذن ليست في شخصٍ قرر المغادرة بل في آلية صنع القرار ذاتها. فالقرارات تُبت في عواصم خارجية ثم تُنفذ عبر مؤسساتٍ محليةٍ فقدت شرعيتها، وتحولت إلى واجهاتٍ فارغة. في هذه البيئة تصبح استقالةُ مسؤولٍ سيادي مجرد تحديثٍ في خريطة النفوذ لا تغييرًا في منهجية الحكم. والكارثة أن ما يبدو للبعض تحولًا جذريًا ليس سوى إعادة تدويرٍ لأزمةِ حكمٍ في بلدٍ لم يعد للسلطةِ فيه معنى إلا ما يرسمه الآخرون.  

تتجلى المأساة اليمنية في تحوّل صناعة القرار إلى عمليةٍ خارجيةِ المنشأ والتغليف. فما يُقدَّم على أنه (توافقات وطنية) هو في الحقيقة نتاج حساباتٍ إقليميةٍ تتعامل مع اليمن كرقعةِ شطرنجٍ لا كدولةٍ ذات سيادة. هذه الآلية المشوهة تنتج نظام حكمٍ هجينًا، قِشرته مؤسسات محلية لكن قلبه يخفق بإملاءات خارجية. 

الأخطر أن هذه الصيغة تُنتجُ طبقةً سياسيةً بلا مشروع وطني، تعيد إنتاج تبعيتها عبر تبرير الوصاية الخارجية كضرورة واقعية. وهكذا تدور العجلة في حلقة مفرغة: كلما تعمّق التدخل ضعفت المؤسسات، وكلما ضعفت المؤسسات زادت الحاجة للتدخل!

تغيير الوجوه: إعادة إنتاج الأزمة 

تعيين سالم بن بريك (وزير المالية السابق) خلفًا لبن مبارك لم يُدهش المراقبين، الرجل رغم كفاءته التقنية يُعتبر امتدادًا للنفوذ الإماراتي وله روابطُ بمدارس القرار السعودي. بتعيينه تعود معادلة الهيمنة الإقليمية إلى الواجهة: رئيس وزراء يُصنع وفق موازين القوى الخارجية لا وفق احتياجات الداخل. 

هذا التعيين لا يعكس رغبةً في الإصلاح بل إصرارًا على إدارة الأزمة بأقل تكلفة. فبن بريك بخبرته المالية قد يُهدئ الأوضاع مؤقتًا لكنه لن يغيّر قواعد اللعبة. فالأزمات اليمنية أعمق من أن تُحلّ بتغيير الأشخاص في نظامٍ يفتقرُ إلى مركز قرارٍ مستقل. 

إذن فالتعيين الجديد ليس سوى حلقة في سلسلة طويلة من (الإصلاحات المسرحية) التي تهدف إلى تلميع الواجهة دون المساس بالهيكل الفاسد. ففي النظام اليمني المُهترئ لم يعد تغيير الشخصيات سوى أداةً لإضفاءِ الشّرعية الزائفة على استمرار الوضع القائم. 

وبالتّالي فإنّ اللعبة تُدار ببراعة: يُقدَّم كل جديد على أنه (حل) بينما هو في الجوهر إعادة تدوير لنفس الأزمات بأسماءٍ مختلفةٍ. وهكذا تتحول العملية السياسية إلى سلسلة لا تنتهي من التغييرات الشكلية التي تستهلك طاقة الشعب في انتظار التغيير الحقيقي الذي لا يأتي أبدًا.

القيادة في مواجهة الانهيار

أعادت استقالة بن مبارك فتح ملف إخفاق مجلس القيادة الرئاسي (المُشكّل في 7 أبريل 2022) الذي تحوّل من أداةٍ لمجابهةِ الحوثيين إلى ساحةٍ لتصارع الولاءات. الصراع الخفي بين رئيس المجلس رشاد العليمي (المدعوم سعوديًا) وبن مبارك شلّ العمل الحكومي وكشف عن إدارةٍ هشّةٍ لا تستند إلى مرجعيةٍ دستوريةٍ بل إلى أوامر تُنقل عبر وسطاء غير رسميين.  

في هذا المناخ يتراجع دور الكفاءة وتتعمق الفجوة بين الدولة والمواطن. فالتغييرات لا تلامس جوهر معاناته: غلاءً، فقرًا، انهيار خدمات، وغياب أفق سياسي. والسلطة بغياب قرارها المستقل تتحوّل إلى واجهةٍ تُدار بالوكالةِ مما يعمّق الانهيار ويُعيد إنتاج الأزمات.  

ما تعيشه اليمن اليوم ليس مجرد أزمة حكم بل انهيارٌ لمفهومِ الدولة الحديثة ذاتها. مجلس القيادة الرئاسي -الذي كان يفترض به أن يكون نواةً للشرعية- تحول إلى مجرد غطاءٍ لصراعات النفوذ، حيث تُوزع المناصب بحسابات الولاءات الخارجية لا الكفاءات.

ما كشفته الاستقالة ليس مجرد أزمةَ حكمٍ عابرةٍ بل انكشافٌ صارخٌ لـ (لعنة الجغرافيا) التي تحوّل اليمن إلى رهانٍ إقليميٍّ دائم. فالدولة التي يفترض بها أن تكون حاضنةً للسيادةِ أصبحت ساحةً لتصفيةِ حسابات الآخرين. حتى الاستقالات لم تعد قرارًا وطنيًا خالصًا بل جزءًا من مسارٍ تفاوضيٍّ تُحدّد معالمه في عواصمٍ لا تعترف بحدود.

هذه المفارقة تكشف المعضلة الجوهرية: كيف يمكن لمؤسساتٍ مفرغةٍ من السيادةِ أن تحقّق الاستقرار؟ الإجابة المؤلمة تكمن في أن اليمن أصبح يدور في حلقةٍ مفرغةٍ. كل تغييرٍ إداريٍّ يُنتج نفس الأزمات بأسماء جديدة، بينما تبقى السلطة الحقيقية حبيسةَ صراعاتٍ لا يملك اليمنيون فيها لا قرارًا ولا مصيرًا.

الاستقالة.. نهاية أم بداية؟

ما حدث ليس مجرد تغييرٍ في المناصب بل انعكاسٌ لانهيار نظامٍ سياسيٍّ يُدار من الخارج. كل محاولة لتصوير الأمر كخلافٍ إداريّ تتجاهل التناقض الجوهري: دولةٌ بلا سيادة، وحكومةٌ بلا سلطة، ومؤسساتٌ بلا تأثير.  

ومن يظن أن رحيل بن مبارك سيُعيد الانسجام يُخطئ الفهم. فالأزمة في بنية النظام لا في الأفراد. تغيير الوجوه ليس حلًا طالما بقي القرارُ رهينة إرادات خارجية في ظلّ غياب الرؤية الوطنية. الاستقالة كشفت فراغًا أعمق: غياب الشرعية، تلاشي الإرادة، وتحوّل السلطة إلى أداةٍ طيعةٍ في يد آخرين.  

ما كشفته الاستقالة ليس مجرد أزمةَ حكمٍ عابرةٍ بل انكشافٌ صارخٌ لـ (لعنة الجغرافيا) التي تحوّل اليمن إلى رهانٍ إقليميٍّ دائم. فالدولة التي يفترض بها أن تكون حاضنةً للسيادةِ أصبحت ساحةً لتصفيةِ حسابات الآخرين. حتى الاستقالات لم تعد قرارًا وطنيًا خالصًا بل جزءًا من مسارٍ تفاوضيٍّ تُحدّد معالمه في عواصمٍ لا تعترف بحدود. 

السؤال الأعمق: كيف يمكن بناء شرعيةٍ سياسيةٍ في ظل نظامٍ يُولَد ميتًا، تُخلع حكوماته قبل أن تُختبر قدراتها، وتُفرض عليه قيودٌ تمنعه حتى من الفشل بكرامة؟ هنا تتحول الاستقالة من فعلٍ سياسيٍّ إلى مجرد إعلانٍ عن إفلاسٍ متراكمٍ لمشروع الدولة ذاتها.

في اليمن اليوم لا تُقاس الأزمات بعدد المسؤولين، بل بمدى سيطرة الداخل على قراره. وكلما تعمّق التدخل الخارجي ضاعت فرص الحل. الاستقالة ليست سوى فصلٍ جديدٍ من سرديةٍ عنوانها: دولة بلا قرار، سلطةً بلا معنى، ووطنٌ يُسحق تحت أقدام المصالح. 

فإذا كانت السلطة مجرد وظيفةٍ شكليةٍ تُدار بالتوجيه لا بالتفويض فإن شرعيتها تنهار من الداخل ويصبح الوطن ساحةً للنفوذ، والمواطن مجرد متفرجٍ على صراعٍ لا نهاية له.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English