اليمن على طريق الحرير

هل ستدفع اليمن المزيد من استقرارها كثمن لموقعها الجغرافي؟
علي ميّاس
March 10, 2020

اليمن على طريق الحرير

هل ستدفع اليمن المزيد من استقرارها كثمن لموقعها الجغرافي؟
علي ميّاس
March 10, 2020

بعد أن تخطى العالم مربع الثنائية القطبية المتناحرة، وثبت الولايات المتحدة الأمريكية نحو ترتيب أوضاع العالم بما يتماشى مع ترسيخ زعامتها على النظام الدولي، يبدو أن الدول الصاعدة لم تستطبْ النظام العالمي أحادي القطبية، والذي أضحى مجيَّرًا لخدمة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها فقط. وفي وضع دولي تميّزه الفوضى ويحكمه العامل الجيوسياسي، تجاهد الصين عبر استراتيجية منظمة وطويلة الأجل لبلوغ نظام كوكبي متعدد الأقطاب. إلا أن ثمة فارقًا هذه المرة طبقًا لحسابات القوة؛ فالصين كقوة تعديلية لديها إمكانيات اقتصادية جبارة وتعمل على بناء قوة عسكرية مؤثرة.

ويقدم ميرشايمر، برفسور العلاقات الدولية، تفسيرًا ذا حجية حول الصعود الصيني؛ إذ يرى أن الصين عبر نموها المستمر تحاول فرض هيمنتها على القارة الآسيوية بذات الطريقة التي سيطرت بها الولايات المتحدة على الجزء الغربي من العالم.

استهلت الصين صعودها إلى الساحة الدولية بعد أن اعترتهاحمّى اقتصادية، ألهبتها دعوة دينغ شياو بينغ إلى تبني "نظام اقتصاد السوقالاشتراكي" ضمن مبدأ "الباب المفتوح" الذي أطلقه في استراتيجيتهالمعروفة بـ"الإصلاح والانفتاح" والتي هدفت إلى استقطاب رؤوس الأموالالأجنبية المخصصة للاستثمار. وتقوم فكرة شياو على أن المشاركة الفاعلة في الاقتصادالعالمي يمثل الطريق الأمثل للازدهار والتنمية، وذلك بخلاف نهج التنمية الذاتيةبالمفهوم الماوي الذي ركز على استراتيجية "القفزة الكبرى إلى الأمام".

وعلى الرغم من أن الأدبيات والمبادئ والمفاهيم الراهنةللاستراتيجية الصينية المحددة لسلوكها المتخطي للحدود تتسم بالحذر الشديد والتواضعوالمثالية، إلا أنها تحدد بوضوح هوية الصين وحدود مصالحها القومية، وتؤطر إلى حدما طبيعة سلوكها الخارجي. ومع ذلك، فإن المراقب المتفحص لشؤون الخارجية الصينيةيُدرك تمامًا أن صعود الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ إلى سدة الحكم كان سببًارئيسًا في تحول توجهاتها الدولية، فقد طرأ خلال عهده تطورًا مشهودًا في طبيعةسياستها الخارجية. لقد ساهم بجهوده الحثيثة في وضع مداميك الاستراتيجية"المُبادِرة"، أي أنه حض على توسيع التحركات الصينية الى ما وراءسياساتها التقليدية، وتبني وضع استراتيجي مغاير يستند على أطروحة عدم الاكتفاءبمراقبة المجريات الدولية بل امتلاك زمام المبادرة. من هنا أطلق مبادرة"الطريق والحزام" التي يصفها مراقبون دوليون بالأكثر أهمية على صعيدالسياسة الخارجية الصينية منذ وصولها كقوة ذات مصالح عالمية. بالإضافة إلى أنالرئيس الصيني قام بتدشين وتفعيل آليات وتكتلات دولية تُعَدُّ الصين محورها كـ(منظمةشنغهاي، ومجموعة دول البركس، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية.. إلخ)،وأقر زيادة الإنفاق القومي على أدوات وأساليب القوى الناعمة من أجل الترويج للفكروالثقافة الصينية.

على مسار تنفيذ استراتيجية الطريق والحزام تمتلك الصين شواغل ذات طبيعة أمنية صِرفة، فبعد أن اتخذت خطوات فعلية لفرض هيمنة كاملة على بحر الصين الجنوبي، يبدو أن ثمة جدية في التوسع المائي باتجاه المحيط الهندي

أفصح الرئيس الصيني شي جين بينغ عن مبادرة "حزامواحد طريق واحد" في خريف عام 2013، إلا أن إطلاقها رسميًا كان في مارس/آذار2015 من قبل حكومة بيجين، والتي تعهدت بإنفاق 124 مليار دولار لمخططات طريقالحرير. وتتأسس استراتيجية الطريق والحزام على خمسة محاور أساسية: تنسيق السياسات،وترابط الطرقات، وتواصل الأعمال، وتداول العملات، وتفاهم العقليات. تنحو هذهالمفاهيم نحو تجسيد قواسم مشتركة بين الصين وشركائها بغرض تعزيز فرص التعاونوتبادل المصالح. وتكتسي هذه الرؤى أهمية أكبر نظرًا لأن دولة قوية كالصين تسندها وتعززإجراءات تنفيذها بموارد مادية ضخمة، وهذا يدل على أن الصين عازمة على المضي نحولعب دور أكثر فاعلية يواكب تطلعاتها القارية والعالمية عبر تفعيل الأدواتالاقتصادية والمالية.

وعلى مسار تنفيذ استراتيجية الطريق والحزام تمتلك الصين شواغل ذات طبيعة أمنية صِرفة، فبعد أن اتخذت خطوات فعلية لفرض هيمنة كاملة على بحر الصين الجنوبي، يبدو أن ثمة جدية في التوسع المائي باتجاه المحيط الهندي تحديدًا. إن ظهورها البحري البارز هناك يُثبت أنها باتت تضطلع بممارسة مهام أمنية غرضها توفير الحماية اللازمة لخطوط الشحن البحري. وهذا يدعم رؤية تحول الصين من استراتيجية "مراقبة البحر" إلى استراتيجية "إدارة البحر". ويؤكده أيضا قيام الصين في ديسمبر من عام 2019 بمناورات عسكرية بحرية مشتركة مع وروسيا وإيران في المحيط الهندي وقبالة سواحل عمان، ما يعني أن الصين عازمة على مزاحمة الولايات المتحدة بالقيام بواجبات أمنية حيال خطوط الشحن، وهي خطوة عملية يمكن أن تؤدي بدورها إلى وجود أمني صيني أكبر في المياه الإقليمية وجغرافية منطقة الشرق الأوسط.

تلتقي اليمن بالصين عند محطات اقتصادية وسياسية مشتركة عديدة، فالبَلَدان يؤمنان بتوجهات عابرة للحدود متماثلة إلى حد ما، تقوم على سيادة الدولة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والحفاظ على وحدة الأراضي، وتبادل المنافع، والمطالبة ببناء نظام دولي عادل.

وإذا ما دنونا نحو منطقة الشرق الأوسط، فإن الاستراتيجية الصينية الراهنة تعتبر المنطقة عمقًا جيو-ستراتيجيًّا مرتبطًا بأمن الطاقة، بالإضافة إلى أن الصين تعتبر أكبر شريك تجاري ومستثمر خارجي للعديد من دول المنطقة. ويبدو أن تأمين خطوط الشحن في منطقة الشرق الأوسط بات عبئًا يؤرق الصين. وقد برز ذلك خلال الحرب التجارية الصينية الأمريكية مؤخرًا، حيث لوحت الاخيرة أن بوسعها تهديد أمن الطاقة الصيني. وبالرغم من ذلك يغلب على السلوك الصيني في المنطقة التوخي الشديد، فيما من المرجح أن يخلق الوجود الاقتصادي المتنامي للصين مصالح تجبرها على مشاركة أمنية أوسع مع دول المنطقة في العقود القادمة. الشاهد أن وزارة الدفاع الوطني الصينية نشرت حوالي 1000 جندي في قاعدة أوبوك اللوجستية، في جيبوتي، للقيام بمهام أمنية ومكافحة القرصنة. بحلول يوليو 2019، أرسلت الصين 32 أسطولًا إلى المياه الصومالية المجاورة لتوفير الأمن في البحر الأحمر وبحر العرب.

تلتقي اليمن بالصين عند محطات اقتصادية وسياسية مشتركة عديدة، فالبَلَدان يؤمنان بتوجهات عابرة للحدود متماثلة إلى حد ما، تقوم على سيادة الدولة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والحفاظ على وحدة الأراضي، وتبادل المنافع، والمطالبة ببناء نظام دولي عادل. كما أن لدى الصين طموحًا اقتصاديًّا تشكل الدول النامية ساحته الرئيسة. وينصب التركيز الصيني على اليمن نظرًا لأهمية موقعها الجغرافي المشاطئ لطريق الحرير البحري، فاليمن تقع في الركن الغربي لشبه الجزيرة العربية، وتطل عبر سواحلها الممتدة من بحر العرب حتى البحر الأحمر على أحد أهم مسارات الملاحة الدولية. ويمكن تلخيص حزمة المصالح الجيو-اقتصادية التي تمثل ديناميات تقود الصين نحو مزيد من التقارب مع اليمن على النحو التالي:

تعاظمت الأهمية الجيو-استراتيجية لمضيق باب المندب عالميًا بالتوازي مع تزايد نشاط الملاحة الدولية عبره، وبالتحديد حينما تحولت الصين إلى "ورشة العالم" بعد استحواذها على حصة سوقية وازنة في حجم التبادلات التجارية العالمية.

  • ميناء عدن: يحظى ميناء عدن بميزة جغرافية ذات مكانة جيو-استراتيجية مهمة بالنسبة لطريق الحرير البحري، وبإمكان الميناء أن يكون محطة ترانزيت تقع في منتصف طريق الحرير الممتد من شرق آسيا وحتى غرب أفريقيا وأوروبا، وفي مقارنة تبرهن أهمية الموقع الجغرافي لميناء عدن، فإنُ الميناء على سبيل المثال يمتلك خصائص مكانية مميزة بالمقارنة مع مواقع موانئ دولة الإمارات، حيث تمر عبرها ما يقارب 60 في المئة من تجارة الصين الأوروبية والأفريقية.
  • مضيق باب المندب: يربط المضيق البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب، وتتوسطه جزيرة "ميون" اليمنية، ويتيح عرض القناة الغربية من المضيق -والتي تبلغ 25 كم ويصل عمقها الى 310م- العبور لشتى الناقلات بمختلف حمولاتها. لقد تعاظمت الأهمية الجيو-استراتيجية لمضيق باب المندب عالميًا بالتوازي مع تزايد نشاط الملاحة الدولية عبره، وبالتحديد حينما تحولت الصين إلى "ورشة العالم" بعد استحواذها على حصة سوقية وازنة في حجم التبادلات التجارية العالمية، وأضحت بالمقابل معظم البلدان في أوروبا وأفريقيا والأمريكيتين أكبر الأسواق المستهلكة للمنتجات والسلع الصينية، كما ضاعفت الطفرة الاقتصادية الصينية حاجتها للمواد الخام، والمقدر أن 21 ألف قطعة بحرية محملة بالبضائع ومواد الخام الأولية تعبر مضيق باب المندب سنويًا. ويخلق هذا النشاط البحري في هذا المضيق الحيوي حاجة قصوى لدى الصين لتأمين حركة الملاحة الدولية فيه.

لقد كان من اللافت استقبال الحكومة اليمنية مبادرة الطريق والحزام بإيجابية منذ وقت مبكر، إذ بادر الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى زيارة الصين في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، وجاء قرار عقد شراكة مع الحكومة الصينية لتطوير ميناء عدن بعد إلغاء تعاقد شركة موانئ دبي العالمية التي كانت تستأجر ميناء عدن الاستراتيجي، وطرحت الحكومة اليمنية خطة تطوير القدرة الاستيعابية للميناء الذي ظل طوال فترة إدارة الشركة الإمارتية مهجورًا، فأقر الجانب الصيني تخصيص ما يزيد عن نص مليار دولار لتنمية الميناء، في خطوة كان سيترتب على نجاحها تحقيق مكاسب استراتيجية، وكذلك تحرير السياسة الخارجية اليمنية من التبعية.

مع ترنح اليمن في دوامة الحرب الدائرة، عُلق العمل بموجب الاتفاقية الموقعة مع الصين، ويبدو أن حساسية الموقع الجيوسياسي-اقتصادي الذي تحتله اليمن عزز من هشاشة الوضع السياسي فيها. فعلى سبيل المثال اتضح أن دخول دولة الإمارات على خط الأزمة اليمنية كان من بين عناصر أجندتها إعادة فرض الهيمنة على ميناء عدن الاستراتيجي. وتخشى الإمارات من قيام الصين بتطوير الميناء كون ذلك قد يهدد وضع دبي كمركز تجاري إقليمي، لأسباب ليس أقلها أن الإمارات تتطلع إلى أن تصبح البوابة الرئيسة في المنطقة. قوضت الإمارات عمل الحكومة المعترف بها دوليًا في عدن عبر وكلائها المحليين وحالت دون امتلاكها قرارًا سياديًّا على الميناء. تضع هذه المعطيات الحكومة اليمنية أمام خيارات صعبة، إلا أنها ظلت متمسكة بخيار الشراكة التنموية مع الصين رغم الكلف الباهظة التي تدفعها، ووقعت في أبريل/ نيسان 2019 مذكرة انضمامها إلى طريق الحرير ضمن أعمال القمة الثانية لطرق الحرير. وعلى الحكومة مواصلة السير في هذا النهج حتى ما بعد النزاع الحالي، إذ تمتلك الحكومة خيار تعزيز الشراكة عبر تكليف الشركات الصينية بمشاريع إعادة الإعمار، إضافة إلى إعادة العمل بموجب اتفاقية تأهيل ميناء عدن والتعاون المشترك لحماية طريق الملاحة الدولية عبر مضيق باب المندب.

بوجيز العبارة، تعاني الدولة اليمنية من ركاكة وضعف شلت قدرتها على مواجهة القيود التي تكبل تحركاتها الدولية وتصادر قرارها السيادي الحامل لمصالحها الوطنية. ومما لا شك فيه أنه لن تتحقق أهداف اليمن الاستراتيجية العليا عبر شراكتها التنموية مع الصين وضمن مبادرة "الطريق والحزام"، إلا بإرساء الاستقرار، وبناء دولة مؤسسات متماسكة قادرة على توظيف حتمية موقعها الجغرافي مع الحفاظ على كيانها الموحد.

الصورة لـ عبدالرحمن الغابري.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English