اليمنيون واستدعاء الهوية

المناسبات الوطنية ذاكرة عصية على الإلغاء
محمد الدحان
November 13, 2023

اليمنيون واستدعاء الهوية

المناسبات الوطنية ذاكرة عصية على الإلغاء
محمد الدحان
November 13, 2023
.

يستغل الكثير من اليمنيين أفراحهم ومناسباتهم الخاصة فرصة للتعبير عن عمق ولائهم الوطني، ومدى الاعتزاز بهويتهم الجامعة، التي تحفظ التنوع الثقافي والهويات الجزئية داخل إطار وطني واحد، فمنذ بدء الحرب قبل تسعة أعوام، تنامت مظاهر الكرنفالات الوطنية في الأفراح والمناسبات بشكل غير مسبوق.

يأتي ذلك بالرغم من الصعود المتسارع لأصوات انعزالية كثيرة، تحاول التقليل من الهوية الوطنية الواحدة، مستغلة السخط العام من الواقع المعيشي الصعب.

ويلاحظ مؤخرًا تزايد الاحتفالات لدى غالبية شرائح المجتمع اليمني، فتنوّعت ما بين مناسبات شخصية وعامة، وجميعها توحي بنزوح جماعي من الواقع والاحتماء بالماضي كنوع من الاحتجاج العام على الواقع المفروض، كعادة المجتمعات المسحوقة للحنين للماضي حين تشعر بأن وجودها مستباح، وبلا أي ضمان، فالهروب ليس تنازلًا بل بحثًا عن أي أمل للعودة، والشعور بالأمان في واقع بائس، كل ما فيه مستهلك ولا يبعث التجدد في روح المجتمع.

الشاب طارق الجمرة، حديث التخرج من جامعة صنعاء، الدفعة الـ(20) التي أنشدت أوبريتًا وطنيًّا في حفل تخرجها في 2020، يقول لـ"خيوط"، إنّ دافعهم في البداية لاختيار فكرة الأوبريت عن الأغاني الفنية، هو الاختلاف عما هو سائد واختيار الأعمال الوطنية، لأن غالبية الاحتفالات السابقة لم تنتبه لذلك، فشعورهم بقيمة اللحظة (لحظة تخرجهم) دفعهم للغناء الوطني، وليس كردّ فعل سياسي مباشر، بل احتياج ذاتي وجماعي ضد حالة التجريف والإلغاء.

تصاعدت أصوات انعزالية عديدة منذ بداية العقد المنصرم، تتجاوز الانتماء الوطني، والهوية الوطنية الواحدة، ولا تعترف بالتنوع الثقافي للمجتمع داخل كيان يمني خالص يضمن للجميع حقوقهم تحت إطار وطني واحد بلا أي إقصاء أو تهميش.

وفق تفسير طارق الجمرة، فإنّ لجوء غالبية اليمنيين للتغني بالوطن في المناسبات العامة والخاصة هو نتيجة افتقادهم وحرمانهم من الشعور بالانتماء الوطني، والحصول على جرعة تفاؤلية تمكّنهم من مجابهة الواقع الصعب، فلا حاجة لهم بالتغني بالوطن إذا كان يمنحهم الاحتواء الذاتي والجماعي لكل فئات المجتمع وبلا أي انقسامات.

الاستلهام في واقع ملغوم

لا يبحث الفرد عادة عمّا يُقلق أفراحه وسعادته بأمور جماعية، وهَمّ مجتمعي عام، فالفرح بالنسبة للفرد، فرصة للحصول على السعادة الذاتية والهروب من الواقع المحبط المفروض، خصوصًا الواقع اليمني المأساوي، فبشاعة الحرب ليست السبب الوحيد لتفكك المجتمع وانقسامه. بل ارتداداتها وتأثيراتها التي تصل إلى التضييق ورفض الآخر، دفعت الكثير لاستغلال مناسباتهم وأفراحهم لتكون فرصة للتعبير عن رفضهم لذلك، خصوصًا الأساليب الرامية إلى إضعاف الهوية الوطنية والشعور بالانتماء، فهدم هوية أيّ وطن يبدأ عادة بهدم وتخريب الذاكرة الجمعية وتبديد تاريخ الرموز وإسهاماتها في الحياة العامة. 

يقول نجران الجبري، الذي اتخذ من 26 سبتمبر موعدًا للاحتفال بزفافه، لـ"خيوط"، إنه رغم استيائه من جعل الرموز الوطنية في متناول الجميع من خلال عرضها الدائم في المناسبات لعظمة ما تمثله، فإن الضرورة تسقط المحجوب، فمحاولات إضعاف الهوية الوطنية والتقليل من رموزها، جعلت من تلك المناسبات فرصة البسطاء للاحتفاء بها والاستلهام من ماضيهم، حتى يتمكنوا من مجابهة الواقع، والإبقاء على آمال النجاة، فاحتفالاتهم تلك نابعة من حبهم وولائهم الوطني، ولا تنم عن أي انتماءات سياسية ضيقة بل بإحساسهم بأهمية أن يكون لهم وطن واحد فوق كل حزب وطائفة وسلالة.

يضيف الجبري أنّ اختياره لهذه المناسبة بالتحديد، ينبع من إحساسه بمسؤولية الحفاظ على مبادئ هذه المناسبة، واستشعاره مخاطر التنازل عنها، ورغبته بأن يعرف الجيل الصاعد الذي نشأ في ظل الحرب والصراع، بقيمتها وعظمة تضحيات رموزها، ويسمع النشيد الوطني الذي غاب عن إذاعات المدارس والبرامج التلفزيونية والإذاعية، وأن يشعروا بأهمية الاحتفال بهذه الذكرى الخالدة، حتى يتكرس فيهم الشعور بالولاء الوطني المتجاوز لكل شعارات التفرقة الطائفية والمناطقية.

تضارب في المشاعر

تصاعدت أصوات ثقافية وسياسية عديدة منذ بداية العقد المنصرم، تتجاوز الانتماء الوطني، والهوية الوطنية الواحدة، ولا تعترف بتنوع المجتمع، تضمن فيه الفئات والشرائح حقوقها بغيرِ ما إقصاءٍ أو تهميش. 

وبالرغم من الاحتماء السياسي للجماعات المختلفة بالشعارات الوطنية التي تصل إلى درجة المزايدة والاتجار، وتنويم المجتمع بخطابات قاداتها التي تتخفى بثياب طائفية ناعمة، فإن اليمنيين أدركوا خطورة الواقع المنقسم ما بين التضييق في الشمال والطمس في الجنوب.

يؤكّد أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء، عادل الشرجبي، لـ"خيوط"، إنّ حالة الاستنفار العامة، والتخوف الجمعي من الانقسام، ينم عن إيمان المجتمع بأهمية الكيان الواحد لشعب يحمل ثقافات مختلفة، فليس الأمر هروبًا من الواقع فقط، بل استظلال تحت راية واحدة، خاض المجتمع معها تجربة مميزة رغم عيوبها.

فالهوية كما يعرفها الشرجبي، ليست فقط الانتماء الثقافي أو الفكري أو الديني، بل تشمل الانتماء المناطقي والقبَلي، فأي تجاوز لأي هوية على أخرى هو إنكار لوجود الهوية الوطنية الجامعة، فالتجاوز هو انقسام معلن مهما تكن الاختلافات.

ويضيف أنّ مظاهر التغني وترديد النشيد الوطني في المناسبات الشخصية، هو إيمان جمعي بقيمة الهوية الوطنية، لكنه لا يعزز الولاء لها، فالفرد حين لا يلامس حقوقه من الدولة، يشعر بالاعتزاز الوطني والولاء الحقيقي، وحين تعجز الدولة عن منحه أبسط حقوقه، كعلاجه مثلًا أو إنصافه يلجأ لقبيلته أو جماعته لتسانده، وهنا تتفتح ثغرة لتلاشي الشعور الوطني، ويبدأ السخط العام، فوجود الدولة هو ما يعزز الولاء، أما الاحتفالات والغناء فتنعش المشاعر فقط، وتُحيي الأمل. ورغم ذلك، يبقى الغناء والاعتزاز مظهرًا جميلًا مقاومًا لمحاولات إضعاف الهوية الوطنية مقابل صعود الهويات والثقافات التجزيئية والدينية.

•••
محمد الدحان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English