في حضرموت لا يبدو أن شيئًا يمضي إلى نهايته الطبيعية. كل شيء يراوح مكانه معلّقًا في منتصف الطريق: من الاستقرار إلى التنمية، ومن الحسم السياسي إلى مجرد الفهم الواضح لما يجري. فلا هي أزمةً عابرةً، ولا هي مرحلةً انتقاليةً؛ بل حالة مزمنة من القلق والتّوجس، يصوغ ملامحها الغموض، وتُثقلها تعقيدات النفوذ، وتعدد اللاعبين، وتشظي المشاريع.
لا يمكن فصل المشهد الحضرمي عن السياق اليمني العام، لكن ما يطبع وضع حضرموت بطابعه الخاص هو انفتاحها على عدد كبير من اللاعبين، وتحولها إلى ساحةٍ تتقاطع فيها المصالح المحلية والإقليمية والدولية. ففي هذا المشهد لا تبرز جهة واحدة تحتكر الصراع، ولا يبرز فاعل محدد يقوده، بل هو واقعٌ مضطربٌ تتداخل فيه مشاريع غير مكتملة، وطموحات متنافرة، وحسابات تُرسم خارج الجغرافيا وتُفرض على الداخل.
حضرموت بتضاريسها المترامية، ومواردها الطبيعية الغنية، وساحلها الطويل على بحر العرب، تحوّلت إلى ساحةٍ مفتوحةٍ للتجاذبات. لا يكاد يُفرّق اليوم بين مسؤول نشأَ على أرضها وآخر وفد من خارجها، فالجميع بات جزءًا من لعبة شدّ الحبال على القرارين السياسي والأمني فيها. وفيما تُعقد صفقات النفوذ خلف الأبواب المغلقة يظل المواطن الحضرمي عالقًا بين تهميش الداخل ومراوغة الخارج.
بين التّحديات والمحددات
من المفارقات القاسية أن ينخرط بعض أبناء حضرموت في دوامة الصراع، إما بدافع الطموح أحيانًا، أو بدافع التكيّف مع معادلة لا تعرف الرحمة. وبينما تنشغل النُّخب بتقاسم الولاءات وانتظار دعم الخارج، تتآكل الثقة الشعبية وتتوارى الأولويات خلفَ حساباتٍ ظرفيةٍ، ويترسخ الشّعور بأن مصير المحافظة يُرسم بعيدًا عن إرادة أهلها.
لم تكن السلطة المحلية -باعتبارها الواجهة الرسمية للإدارة- في يومٍ من الأيام في موقع يُحسد عليه. فهي محمّلة بإرثٍ ثقيلٍ من التّحديات المؤسسية والخدمية، ومحاصَرة في الوقت ذاته بين استحقاقات الواقع المحلي وضغوط قوى النفوذ. ورغم محاولات بعض القيادات الحضور والفعل، إلا أن هامش القرار ظلَ محدودًا، وغالبًا ما يُرسم خارج حدود المحافظة، ويُدار عبر قنوات تفتقر إلى الشفافية.
في محطاتٍ كثيرةٍ بدت القيادة وكأنها تُفضّل التموضع خلف أحد المحاور الإقليمية، بدلًا من خوض مغامرة بناء موقف مستقل وخاص، حتى لو كلفها ذلك تآكل شرعيتها محليًا.
شهدت حضرموت في مراحل متفرقة محاولات لتحسين الأوضاع الأمنية والخدمية، وبرزت بعض الإنجازات في قطاعات حيوية مختلفة. غير أن غياب الإرادة السيادية وضيق هامش القرار حوّلا هذه الجهود إلى محاولاتٍ جزئيةٍ ومحطاتٍ متقطعةٍ سرعانَ ما تتراجع عند أول منعطف واختبار سياسي أو أمني.
إن تباين الأداء بين مديرية وأخرى وتذبذب فاعلية السلطة المحلية نالا من قدرتها على بلورة إرادة موحدة، وجعلاها عرضةً لسهامِ الانتقادات من شارعٍ يزداد شعوره بالخيبة واليأس. وفي ظل هذا الواقع يبدو الحديث عن مشروعٍ سياسيٍّ جامعٍ أقرب إلى حلمٍ مؤجل، أو مطلب لا يجد طريقه إلى التنفيذ.
الحاجة إلى صوت جامع
ما يزيد المشهد تعقيدًا هو عجز القيادة عن بلورة خطاب سياسي جامع، يحتضن التّنوع الحضرمي، ويطمئن الداخل، ويؤسس لموقفٍ وطنيٍّ مستقلٍ. وفي محطاتٍ كثيرةٍ بدت القيادة وكأنها تُفضّل التموضع خلف أحد المحاور الإقليمية، بدلًا من خوض مغامرة بناء موقف مستقل وخاص، حتى لو كلفها ذلك تآكل شرعيتها محليًا.
تحتاج حضرموت في هذه اللحظة الفارقة إلى مشروعٍ سياسيّ لا ينطلق من المظلومية وحدها، بل من رؤيةٍ واضحةٍ تستلهم تجربة هذه الأرض وتاريخها الطويل في الإدارة والتجارة والتمدّن. إن بناء خطاب سياسي جامع ليس ترفًا، بل ضرورةً تاريخيةً لإعادة تشكيل الهوية السياسية للمحافظة، بوصفها فاعلًا لا تابعًا، وصاحب مصلحة لا أداة في يد الآخرين.
ولا يُمكن لهذا الخطاب أن يُبنى في الفراغ. بل يحتاج إلى حوارٍ داخليٍ واسعٍ، وإلى نُخبٍ تفكّر خارج الاصطفافات، وتضع مصلحة حضرموت فوق الاعتبارات الفئوية أو الجهوية أو الحزبية، مع إعادة الاعتبار لصوتِ الشارع والتفاعل مع مطالبه، لا احتوائها أو تجاهلها.
تنمية مؤجلة في أرض غنية
تمتلك حضرموت ما لا تمتلكه معظم المحافظات اليمنية: نفط، معادن، موقع استراتيجي، ساحل طويل، وعمق اجتماعي وتجاري ممتد. لكنها رغم ذلك تعاني من تنميةٍ هشّةٍ، وفرص اقتصادية ضائعة، وواقع خدمي لا يعكس الإمكانات.
لقد كانت حضرموت رافدًا اقتصاديًا مهمًا لليمن، لكن مواردها لم تترجم إلى بنيةٍ اقتصاديةٍ مستدامةٍ. كثير من ثرواتها تسرّبت بفعل الصراع أو بفعل غياب السياسات الاقتصادية الرشيدة. بل إن غياب الإدارة المحلية الفعّالة حوّل هذه الثروات إلى عِبْءٍ، بدلًا من أن تكون رافعة تنموية.
ما تحتاجه حضرموت ليس فقط تمويلًا، بل إدارةً رشيدةً للموارد، وتخطيطًا استراتيجيًا بعيد المدى، واستثمارًا في الإنسان. فالأرض وحدها لا تصنع التنمية، إن لم تترافق مع إدارة تملك الإرادة والقدرة، وتحظى بدعمٍ مجتمعيٍّ ومؤسسيٍّ يعزز فرص النّجاح والاستدامة.
المصالح قبل الحلول
منذ عقود ظلت حضرموت في الهامش السياسي رغم مركزيتها الاقتصادية والجغرافية. ومنذ الستينيات حين دخلت في خضمّ التغيير الجذري والعنيف في الجنوب، ثم في وحدةٍ غير متوازنة مع الشمال كانت المحافظة الغنية بثرواتها فقيرةً بحصتها من القرار.
هذا التهميش البنيوي والانقسام المزمن بين مكوناتها جعلا منها ساحةً مغريةً للتدخلات الإقليمية. السعودية والإمارات -كلٌ لأسبابه- وجدا في حضرموت موقعًا مثاليًا للتموضع، ونقطة انطلاق نحو مشاريعٍ استراتيجيةٍ عابرة لليمن. ومعهما تتطلع قوى دولية عدّة إلى موانئها ومنافذها ومواردها.
حضرموت تدفع اليوم ثمن فراغها السياسي، وانقسام نخبها، وصمت مثقفيها. تدفعه من أمنها، من تنميتها، ومن كرامة أبنائها الذين يهاجرون بحثًا عن وطن خارج وطنهم.
وهكذا بينما تتكثف التدخلات تضيق فرص الحلول الوطنية، وتتآكل إمكانية استعادة القرار من يد الخارج. لقد تحوّلت حضرموت إلى خريطة تتحرك على طاولة الآخرين، بدل أن تكون فاعلًا يصوغ موقعه بيده، ويعيد تموضعه بما يضمن مصالحه، ويحمي قراره.
وبينما يستمر حضور البعثات الدولية والبرامج الأممية في تقديم تدخلات إغاثية أو تنموية محدودة، يبقى السؤال الكبير معلّقًا: من يملك القرار السيادي في حضرموت؟ ومن له الحق في رسم مستقبلها؟
هل تُعيد حضرموت تعريف ذاتها؟
والخلاصة أنّ حضرموت تدفع اليوم ثمن فراغها السياسي، وانقسام نخبها، وصمت مثقفيها. تدفعه من أمنها، من تنميتها، ومن كرامة أبنائها الذين يهاجرون بحثًا عن وطن خارج وطنهم.
ومع ذلك لا يزال في الإمكان استدراك اللحظة. فهذه الأرض التي أنجبت علماء وتجارًا ومثقفين قادرةً على استعادة موقعها إن امتلكت نخبها الشجاعة لصياغة موقفٍ موحدٍ. التاريخ لا يرحم من يتأخر عن لحظته. وإن لم تتدارك حضرموت زمام المبادرة، فقد تُكتب في دفاتر الزمن كأرضٍ أكلت أبناءها، لا لأنهم خانوا، بل لأنهم لم يتفقوا على حبها.