في أثر "تقية الطويلية"

عن مجتمع يحب الغناء ويحتقر أهله!
جهاد جار الله
June 20, 2025

في أثر "تقية الطويلية"

عن مجتمع يحب الغناء ويحتقر أهله!
جهاد جار الله
June 20, 2025
الصورة بعدسة عبدالرحمن الغابري

كيف للطبيب ألا يتفاجأ وهي تستمر في فعل ذلك؟ يتقرب منها فيسألها: "ماذا تفعلين يا تقية؟" تجيب: "أغني". أليس هذا ما وضعكِ على فراش المرض لأربعة أعوام متتالية؟ أم أنكِ قد اتخذتِ من الغناء تمرينًا متطرفًا لاحتمال الألم؟

حدث الأمر أثناء غنائها في أحد المنازل حين أخذ جسدها بالتورم، مستدرجًا السم من مكان خفي. تقول: "لأخي دور في هذا. لعل أحدهم قد وشى بي عنده". لا تبدو غاضبة إزاء بوحها بغدره. لعل الزمن قد رتق ذلك الشرخ الذي عذّبها طويلًا، أو أن اقترابها من الموت مرارًا أعدّها لتمنح فاجعتها السماح، كمجرد ذكرى عابرة.

لم يكن يُفزعها تخلُّص جسدها من كسائه المتكرر نتيجة المرض. بدت، رغم بشاعة الأمر، كمن تتهيأ لتغدو كائنًا جديدًا، أعدل وأصلب. يمازحها أحدهم فيقول: "ستصبحين بيضاء إذا استمر جسدك في فعل ذلك"، غير أنها ما كانت لتكترث لهذه النبوءة، فيما قد تُبهج غيرها من الفتيات. لم يكن يعنيها من جسدها سوى قدرته على تحرير الصوت، حمل الصحن، وترقيص الأصابع عليه.

أستمع إلى تقية الطويلية وهي تتحدث في مقابلة تلفزيونية نادرة عن تلك الحادثة، وأفكر: لماذا أرادت الغناء إلى هذا الحد؟

حين نهتها والدتها عن الغناء في الحمام خشية أذى الشياطين لها، وبالرغم من أنها لم تفهم ما قد يزعج الشياطين في غنائها، انزوت بأغانيها نحو الطرقات، فتعمدت إطالة الطريق كلما ذهبت لتلبية إحدى حاجات البيت، لتغني بصوت عالٍ ذاك الذي وصل يومًا إلى مسامع الحارثي، فهتف: "لهذه البنت مستقبل"

إمساك المعنى

يميل الكثير منا إلى تجاهل فضاضة الحياة حين تسألنا عن المعنى: ما الذي نريده منها؟ فنمضي في دروب سبق تنسيقها، ليس لأننا دائمًا ما نكسل عن هذا، بل لأنه - وعلى ما يبدو - ليس للجميع امتياز اكتشاف ما يصله بالحياة، ما يدفعه إليها. على عكس ذلك، قلّةٍ يُوهبون الإجابة بيسر، وكأن كائنًا سماويًا قد وُكِّل بخطّ رسالتهم على الصدور. وقد كانت تقية أحدهم، إذ عرفت في الثانية عشرة ما الذي تريد إنفاق أيامها عليه: "أشتي أغني"، قرار قادم من مكان أقدم من الطفولة، وأسبق من المستقبل.

لم تكتفِ بإدراك غايتها وحسب، بل بدأت في تصديقها، جاهزةً بالغناء في أزقة المدينة. وهي تعلم قسوة ما قد تُسبّبه هذه الرغبة لفتاة من صنعاء، لكن وكما يقول فرانكل: "من يمتلك سببًا ليعيش من أجله، فإنه يستطيع غالبًا أن يتحمّل بأي طريقة وبأي حال".

حين نهتها والدتها عن الغناء في الحمام خشية أذى الشياطين لها، وبالرغم من أنها لم تفهم ما قد يزعج الشياطين في غنائها، انزوت بأغانيها نحو الطرقات، فتعمدت إطالة الطريق كلما ذهبت لتلبية إحدى حاجات البيت، لتغني بصوت عالٍ ذاك الذي وصل يومًا إلى مسامع الحارثي، فهتف: "لهذه البنت مستقبل". الأكيد أن تقية لم تُوهب قدرة صوتية استثنائية، لكنها استمرت في لفت المسامع حولها؛ من متذوقين للفن ومهتمين. والظن أن الصوت وحده لم يكن يدفعهم لذلك، بل إنهم أرادوا أن يروا تلك الصغيرة التي هربت من الموت لتغني. لقد رأوا فيها الشجاعة التي رغبوا في امتلاكها، فما كان لهم إلا أن يُذعنوا لها؛ للفتاة التي لبّت نداء المغامرة.

الأم التي فتحت الباب

"صوتش شوعة.. لم قد يودّ الناس الاستماع لك؟" ظلت والدتها تخبرها بذلك، وفي اليوم الذي عادت فيه مملوءة بنقود أكرم بها أحد أبناء الإمام حُسن غنائها، قالت لها: "رضي عليش". لم تكن الأم تعتقد حقًا رداءة صوت الابنة، لكنها كانت امرأة خائفة، أو بالأحرى، لقد كانت مجرد أم. فرغم تهديدات الأخ لمنع رفرفة تقية، إلا أن الباب كان دائمًا ما يبقى مواربًا بطريقة تبدو غير متعمّدة كي يُتاح للصغيرة أن تتسلل وتغني خارج الأقفاص.

في الثامنة، رحلت تقية لتشارك أخاها تكاليف الحياة بعد أن فقدت والدها. أثناء ذلك، راقبت الأم عن كثب جهودها المخلصة لمنح عائلتها حياة أكثر رأفة. فما كان لها إلا أن تستمر في تمهيد الطريق لها خلسة، رغم ترددها الدائم في ذلك. لقد عاشت الأم صراعًا في تناقضات مجتمع يحب الغناء ويحتقر أهله، وهي - فوق كل ذلك - فتاة. كان عليها أن تختار: حماية ابنتها من الحلم أو إطلاقها نحوه.

تنهر الأم فتاتها عن الغناء بصوت عالٍ، تقول لها إن صوتها يزعج الجيران، ولكن حين تتعرض تقية للتسمم أثناء غنائها، تقفز الأم من النافذة: "لقد خرجت من الطاقة ظنًّا أنه الباب لهول صدمتها.. لم تُصب بأذى، لقد وقفت فورًا وأخذت تقول لي: أنتي بخير؟".

هي امرأة تملك حلمًا، وهو رجل يقعد المجتمع على ظهره فلا يقوى على الاستقامة. كلما غنّت تقية، رفسوه، فامتلأت كرامته بالكدمات. لعله أحب غناءها وأرادها أن تغني، ولكن الاعتراف بذلك كان سيكلفه ما يفوق احتماله من القلق والوحدة

حين تقابل الأغاني الخوف

في المرة الأولى حينما غنّت في حارة طلحة، كانت مرتبكة، عاجزة عن ضبط ارتعاشة يديها. أمسكت بصديقتها ودعتها لأن تُقوِّم أداءها إذا ما انحرفت عن اللحن. لم نعرف اسم تلك الصديقة، وربما لن نعرفه، ولكن تخيّلها وهي تستمع بانتباه لغناء تقية بينما تملي عليها الملاحظات حتى تصل معها إلى الأداء المناسب، يوحي بالاطمئنان؛ للرفيقة التي تمسك بيد البطلة في أشد لحظاتها اهتزازًا. تلك المرة هزمت تقية الخوف.

يفجع الأخ باختيار شقيقته. حينما تُظهر رغبتها في الغناء، يترصّد لها الشر. تأخذ تقية في التسلل متنقلة بين المنازل لتمارس الحياة بغنائها، فيتبعها أينما ذهبت. تكرر دائمًا: "أخي عيقتلني". لا يوجد حل آخر. هي امرأة تملك حلمًا، وهو رجل يقعد المجتمع على ظهره فلا يقوى على الاستقامة. كلما غنّت تقية، رفسوه، فامتلأت كرامته بالكدمات. لعله أحب غناءها وأرادها أن تغني، ولكن الاعتراف بذلك كان سيكلفه ما يفوق احتماله من القلق والوحدة. يُهددها مرارًا بالقتل، وكأنه يتوسّلها أن تعتقه من لوم الناس له؛ أولئك الذين يصفقون لها ويضربون بذات الكفوف على وجنتيه. ولكن كيف تعتقه وفي ذلك قيدها الأبدي؟

لا يتوقف عن ترصّدها إلا حين تحتمي منه بزوجة الرئيس الحمدي وهي في دارها بعد أن ذهبت لتغني لها. تقول: "أخي باب الباب.. لو أخرج لا يقتلني". يُسجن الأخ بعدها لثلاثة أيام، ثم يُجبر على التوقيع على تعهد بعدم التعرّض لها، وهنا يغيب الأخ كلحافٍ وحيدٍ دفعت به الريح الباردة بعيدًا لثلاثين سنة.

حين يتأكد الأخ من اقتراب رحيله، يطلب رؤيتها لمرة أخيرة. تقول: "الله يسامحه"، وكأنها لا تلومه لعدائه بل لشوقها الذي فعل بقلبها كما فعل السم بجسدها الضئيل.

قبل ما يقارب 21 عامًا توقفت تقية عن الغناء. بنبرة حزينة تقول: "ما عاد بين أغني حتى في البيت". أفكر في ذاك الشغف المتلهب للغناء طوال تلك السنوات، وأتساءل بفضول لا يبدو أنه سيُشفى: لماذا توقفتِ يا تقية عن الغناء باكرًا؟ غير أنها لن تجيب.

غنّت من كانت "تشتي" تغني

يُعرض عليها قصبة، قطعة أرض، مقابل تسجيل أسطوانة، فتقول غاضبة: "أبيع صوتي بذرة تراب؟". لقد قدّرت تقية الغناء لدرجة جعلته غير قابل للتسعير. تقول: "أعطوني في أول مرة نصف قرش. لم يكن يهمني. كنت أخبرهم دائمًا: دعوني أغني لكم ببلاش. أريد فقط أن أغني".

بعد أن خمد الصراع مع شقيقها، أخذت تقية تغني في أماكن شتى. وصلت إلى أوروبا وأمريكا كملكة للغناء الشعبي اليمني بعد أن تعاونت مع أهم فناني عصرها وشعرائه من اليمنيين. تقول: "ما كنت أحس أني فنانة إلا حين أطلع الطيارة". بالرغم من أن رغبتها قد وُلدت على هذه الأرض، إلا أنها أحبّت الابتعاد عنها، التحليق فوق أحكام مجتمعها وذكرياتها القاسية. في مكان تكون فيه فنانة بلا خوف وبلا تنازلات.

لقد وهبت هذه السيدة الصحن المعدني الأصم القدرة على الخطاب، ومنحت الفن اليمني شيئًا من الخلود. وضعت تقية الطويلية حياتها على المحك لتصنع من صوتها المكافح الشغوف بوابة لأصوات بقية النساء اليمنيات بكامل المودة، كما كانت تقول: "كنت أفرح لما تكون به مرّة تغني جنبي".

قبل ما يقارب 21 عامًا توقفت تقية عن الغناء. بنبرة حزينة تقول: "ما عاد بين أغني حتى في البيت". أفكر في ذاك الشغف المتلهب للغناء طوال تلك السنوات، وأتساءل بفضول لا يبدو أنه سيُشفى: لماذا توقفتِ يا تقية عن الغناء باكرًا؟ غير أنها لن تجيب. لن أعرف أبدًا السبب؛ لأنها قد رحلت منذ أيام، غادرتنا دون جلبة، حاملة كل القصص، تاركة بعض الأغاني.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English