ليس من الإنصافِ قراءةُ واقعِ الإعلامِ الرياضيِّ العربيِّ دون التوقفِ أمامَ الفجوةِ الصارخةِ بينَ المركزِ والأطرافِ، ففي حينَ تتكدّسُ العدساتُ في العواصمِ الكبرى وتُبنى المنصاتُ على مقاساتِ الأسماءِ اللامعةِ تظلُّ زوايا كثيرةٌ في الخريطةِ بلا ضوءٍ، بلا تغطيةٍ، وأحيانًا بلا ذاكرةٍ
وفي هذا السياقِ تحديدًا تبرزُ حكايةُ صائنٍ صالحٍ الهنديِّ لا بوصفِهِ مجردَ مصوّرٍ شابٍّ من حضرموتَ، بل كتجربةٍ حيّةٍ تعكسُ كفاحًا مهنيًّا في بيئةٍ غيرِ مهيّأةٍ، ومحاولةٍ فرديةٍ لصناعةِ المعنى وسطَ فراغٍ مؤسسيٍّ مزمنٍ.
فهو لم يتخرجْ من معاهدَ متخصصةٍ، ولم تُفتحْ له الأبوابُ الكبرى بل جاءَ من مدينةٍ تُصارعُ التهميشَ، ومحافظةٍ تسعى جاهدَةً لإسماعِ صوتِها وسطَ ضجيجِ المرحلةِ ومع ذلك حملتْ كاميرتُه ما هو أبعدُ من الصورةِ إذ حملتْ موقفًا ورؤيةً.
لقد التقطَ الواقعَ من زواياه المُهملةِ، ووقفَ في قلبِ الملاعبِ الترابيةِ كشاهدٍ يحاولُ الإمساكَ بالزمنِ قبلَ أن يتبدّدَ ومن هنا فإنّ قصتَه لا تندرجُ ضمنَ إنجازٍ شخصيٍّ فحسبُ، بل تتجاوزُ ذلك لتُصبحَ نموذجًا لحضورِ حضرموتَ واليمنِ - ولو عبرَ العدسةِ– في مشهدٍ طالما غابَ عنه تمثيلُهم الحقيقيُّ.
ولأنّ لكلِّ زمنٍ عدستَه، شاءت الأقدارُ أن تنتقلَ كاميرا صائنٍ من مدينةِ سيئونَ إلى دوري روشنَ السعوديِّ للمحترفين (RSL) أحدِ أبرزِ المسابقاتِ الخليجيةِ ومن هذه النقلةِ بدأتْ فصولٌ جديدةٌ تُكتبُ لا عن مصوّرٍ فقط، بل عن قدرةِ الصورةِ على أن تختصرَ تاريخًا، وتستعيدَ جغرافيا، وتمنحَ المهمَّشَ اعترافًا مستحقًّا.
إنها ليستْ سيرةً ذاتيةً بالمعنى التقليديِّ، بل إضاءةً على تجربةٍ تفرضُ سؤالًا أبعدَ مدى: لماذا يُولدُ الضوءُ غالبًا في العتمةِ؟
البدايات واللحظة الفارقة
لم تكن كاميرا صائنٍ مجردَ أداةِ تصويرٍ وإنما صوتًا يقولُ ما عجزتِ الصورةُ التقليديّةُ عن قولِه. انطلقتْ من أرضٍ لا تعرفُ إلّا المعاناةَ، من ملاعبِ سيئونَ الترابيّةِ حيث لا استوديوهاتٍ معدّةٍ، ولا بساطَ أحمرَ يُمهّدُ الطريقَ، هناك في الزوايا المعتمةِ التي لا تصلُها كاميراتُ البثِّ كانت العدسةُ تلتقطُ الفرحَ الشحيحَ وسطَ جمهورٍ متعطّشٍ وبهجةً تُنتزعُ انتزاعًا من بينِ رُكامِ الإهمالِ.
وُلد صائنٌ في سيئونَ، في 23 أبريل/ نيسان 1988 منتميًا إلى بيئةٍ تعرفُ الفقرَ والتهميشَ، لكنها في المقابلِ تعرفُ الشغفَ أيضًا، بل وتُبدعُ فيه. وقد حصلَ على درجةِ البكالوريوسِ في اللغةِ الإنجليزيةِ من جامعةِ حضرموتَ، غيرَ أن القلبَ كان معلّقًا بكرةِ القدمِ فقد مارسَها لاعبًا ضمنَ الفرقِ الشعبيّةِ، قبلَ أن يتحوّلَ من رَكضِ الكرةِ إلى ملاحقةِ اللقطةِ، وهي نقلةٌ جاءت نتيجةَ شعورٍ داخليٍّ بأنّ الصورةَ قد تكونُ السبيلَ الوحيدَ للبقاءِ في قلبِ اللعبةِ.
وعن تلك اللحظةِ الفارقةِ يروي صائنٌ قائلًا: "كانت البدايةُ في سيئونَ تحديدًا في سبتمبر/ أيلول 2014 حين أمسكتُ بالكاميرا لأوّلِ مرةٍ، أمّا التصويرُ الرياضيُّ فقد بدأتُه في ديسمبر/ كانون الأول من العامِ نفسِه حين اكتشفتُ أنّ متعةَ الركضِ خلفَ الهدفِ يمكنُ أن تتحوّلَ إلى متعةِ الإمساكِ بلحظةِ تسجيلِه".
حين يتأمّلُ صائنٌ تجربتَه يبدو كمن يُلخّصُ معادلةً معقّدة، لكنه يفعلُ ذلك ببساطةٍ وهو يقولُ: "كنتُ جزءًا من اللعبةِ، أعرفُ تفاصيلَها الدقيقةَ وأشعرُ باللحظةِ الحاسمةِ قبلَ أن تقعَ، كان لديَّ إحساسٌ داخليٌّ يُوجّهني لالتقاطِ المشهدِ في توقيتِه المثاليِّ، وكأنّ الزمنَ يبطئُ من حركتِه أمامَ عينيّ". بهذا التصوّرِ تتّضحُ ملامحُ ما يدفعُه للاستمرارِ: شغفٌ أصيلٌ، ثمّ رغبةٌ في التوثيقِ، فصراعٌ صامتٌ مع واقعٍ لا يمنحُ شيئًا إلّا ليأخذَ مقابلَه أضعافًا.
وربّما منحتِ الحياةُ نفسُها لهذا الشغفِ وجهًا آخرَ، فالتجربةُ القاسيةُ التي مرَّ بها حينَ فقدَ ابنتَه (رجاءَ) ذاتَ السبعِ سنواتٍ في حادثٍ أليمٍ، ثمّ ولادةُ ابنِه (عبدِ القادرِ) بعدَ ذلك شكّلتْ داخلَه شعورًا مزدوجًا بينَ: ألمِ الفقدِ، وأملٍ يولدُ من رَحِمِ المعاناةِ
كان صائنٌ منذ البدايات واعيًا تمامًا بأنَّ الحلمَ ثمنُهُ باهظ، وأنَّ الصورةَ التي تُحفر في الذاكرة لا تُنتزعُ فقط بأدواتٍ متطوّرة بل بإيمانٍ راسخٍ يحملُ في طيّاتهِ حياةً كاملةً تستحقُّ التوثيق، حتى وإن كانت تلك الحياة تنبض في أفقر ملاعبِ سيئون.
تحديات الواقع، وصبر الذّات
حينَ بدأتْ رِحلةُ صائنٍ لم يكن يَحمِلُ من أدواتِ التصويرِ سوى كاميرا رقميّةً بعدسةٍ مدمجةٍ، من تلك التي لا تلتقِطُ الضوءَ بقدْرِ ما تلتقِطُ الإصرارَ. وفي حضرموتَ لم يكنِ الأمرُ سهلًا على شابٍّ في بداياتِهِ أن يقتحمَ هذا المجالَ، لا سيّما في ظلِّ محدوديّةِ الإمكانيّاتِ، وانعدامِ التمويلِ، وضعفِ البنيةِ الإعلاميّةِ.
لِذا كانَ عليهِ أن يعملَ في الصباحِ مُدرِّسًا للُغةِ الإنجليزيّةِ بأجرٍ تعاقديٍّ، ثم يتنقّلَ في المساءِ بين فعاليّاتٍ رياضيّةٍ، يحملُ كاميرتَه مدفوعًا بالشّغفِ وحدَه. وإلى جانبِ ذلكَ مارسَ التصميمَ الجرافيكيَّ لا حُبًّا فيه وإنّما ليُؤمِّنَ الحَدَّ الأدنى من كرامةِ العيشِ.
كان صائنٌ منذ البدايات واعيًا تمامًا بأنَّ الحلمَ ثمنُهُ باهظ، وأنَّ الصورةَ التي تُحفر في الذاكرة لا تُنتزعُ فقط بأدواتٍ متطوّرة بل بإيمانٍ راسخٍ يحملُ في طيّاتهِ حياةً كاملةً تستحقُّ التوثيق، حتى وإن كانت تلك الحياة تنبض في أفقر ملاعبِ سيئون.
ومن هذا الإدراك العميق لم يقتصرْ طموحه على التصوير الرياضي فحسب، بل وسّع آفاقه متنقّلًا بين عوالم الفوتوغراف والفيديو، باحثًا عن فسحةٍ جديدةٍ تفتح له آفاقًا مختلفة وعن فرصةٍ قد تنبثقُ من زاويةٍ غير مألوفة.
ومع أنَّ الإنسانَ لا يمضي وحيدًا دومًا، فقد وجدَ صائنٌ وسط هشاشةِ المؤسّساتِ في مجتمعِه المحلّيِّ سندًا رمزيًّا يُشجّعه على الاستمرارِ. كما كانت صفحتُه على منصّةِ (فيسبوك) التي سرعانَ ما امتلأتْ بأصدقاءَ كُثُرٍ منبرَه الأوّلَ ونافذتَه التي صدّقتْ موهبتَه. كان تفاعلُ الناسِ بمثابةِ تصفيقٍ بديلٍ، ذاكَ الذي يُسمَعُ في القلبِ لا في الملاعبِ.
وفي الوقتِ نفسِه شكّلتْ لجنةُ الفِرَقِ الشعبيّةِ في سيئون حاضنتَه الأولى، توجّهُ له الدعواتِ وتمنحُه الثقةَ. كما منحَه الإعلامُ الرياضيُّ في وادي حضرموتَ وصحرائِه بطاقةَ تعريفٍ –صغيرةٌ في حجمِها، لكنّها كبيرةٌ في معناها– اعترافٌ بأنَّ هذا الشابَّ أصبحَ جزءًا من المشهدِ.
ولأنَّ المألوفَ في كثيرٍ من المجتمعاتِ هو الارتيابُ من المِهَنِ الإبداعيّةِ، لم يكن من السهلِ على أسرتِه تقبّلُ ما يفعلُ في البدايةِ، إذ نظروا إليه بوصفِه عملًا لا يليقُ، ولا يُطعِمُ خُبزًا. غير أنَّ الزمنَ ومعه إنجازاتُ صائنٍ المُبهِرةُ غيّرَ هذه النظرةَ شيئًا فشيئًا، حتى أصبحَ للعدسةِ لاحقًا مكانٌ على طاولةِ التّقديرِ.
وبما أنَّ البيئةَ كثيرًا ما تكونُ جزءًا من الأزمةِ، لم يُخفِ صائنٌ مشاعرَه إذ قالَ بصراحةٍ: "نعم، شعرتُ مرارًا أنَّ الواقعَ المحلّيَّ قد يُعيقُني، وقد يدفعُني إلى التخلّي عن الحلمِ".
ففي حضرموتَ حيث يعملُ المصوّرُ بجهده الذاتيِّ، ويوثّقُ الفعاليّةَ تلو الأُخرى بلا مقابلٍ، يصبحُ الاستمرارُ نوعًا من البطولةِ الصامتةِ. إذ كيف لك أن تبقى واقفًا حين تُطلَبُ منك الجودةُ ولا يُقدَّمُ لك شيءٌ في المقابلِ؟ كيف تواصلُ وأنت تُدرِكُ أنَّ ما تصنعُه قد لا يُقدَّرُ، لا ماليًّا ولا حتى معنويًّا؟
ومع ذلكَ لم يتوقّفْ؛ لأنَّه ببساطةٍ لم يكن يُطارِدُ الصورةَ فقط، بل كان يسعى إلى ما هو أعمقُ: اعترافٌ بوجودِه، وبوجودِ جيلٍ كاملٍ يرفضُ أن يُختصَرَ اسمُه في لائحةِ المُهمَّشين.
كانت نقطةُ تحوّلٍ كبرى ليس فقط على المستوى المهنيِّ بل الشخصيِّ أيضًا. كنت أحمل في داخلي هذا الطموح، ورغم محدوديّةِ مواردي ومعدّاتي كنت مؤمنًا أن الموهبةَ والتوفيقَ الإلهيَّ قادران على اختراقِ الحواجزِ، وهذا فعلًا ما حدث معي
التّحول الكبير، وأضواء الاحتراف
في حياةِ كلِّ مُبدِعٍ لحظةٌ فاصلةٌ لا تأتي عادةً على هيئةِ احتفالٍ ولا تُعلنُ بصخبٍ، بل تتسللُ في صمتٍ. ولصائن كانت تلك اللحظةُ تحملُ اسمًا واحدًا: دوري روشن السعودي للمحترفين (RSL)، لم يأتِ ذلك التّحولُ من بابٍ واسعٍ ولا عبر دعوةٍ رسميّةٍ تحملُ الأختامَ، بل جاءَ كما تأتي التحولاتُ الكبرى في حياةِ البسطاءِ: عبر رسالةِ (واتساب).
حينها كان صائن في المملكة العربية السعودية عندما بعثَ إليهِ أحدُ الأصدقاء –الذي لا يزال يذكرهُ بكلِّ تقديرٍ وامتنانٍ– إعلانًا نشرته شركةٌ تعمل في مجال التصوير الرياضيّ. لم يكن الإعلانُ يعدُّ بأحلامٍ ورديّةٍ، بل كان واضحًا في شروطِه: كاميرا وعدساتٌ خاصّةٌ، خبرةٌ موثّقةٌ، وإجادةٌ للمونتاجِ.
في بيئةٍ احترافيّةٍ كهذه ربما يتردّدُ كثيرون، غير أن صائنَ الذي حملَ كاميرتَه كما لو كانت قدرَه جمعَ نماذجَ من أرشيفِه الطّويل في ملاعبِ حضرموتَ التُّرابيّةِ. لم تكن صورًا باهظةَ التقنيةِ، لكنّها كانت غنيّةً بما هو أعمقُ: الصّدقُ، العناءُ، والانتماءُ للّعبةِ من قلبِها الشعبيِّ.
هكذا أرسلها ثم انتظر، وبعدَ أيّامٍ جاء الردُّ: تواصلت معه الشركة، لم يكن العرضُ مغريًّا ماليًّا إلّا أنّه فتح له أبوابَ الملاعبِ السعودية، ومنحه ما حلم به طويلًا: أن يصبحَ جزءًا من روايةٍ أكبر، وأن ينتمي إلى مشهدٍ احترافيٍّ طالما رآه من بعيدٍ.
ومع أنّه لم يبدأ مباشرةً في دوري روشن، إلّا أن البدايةَ جاءت من خلال شركة Portworld التي رافقت نادي الشباب السعودي في تدريباته ومبارياته. هناك كان صائن خلفَ الكواليسِ: يُصوّرُ، يُمنتجُ، يُلخّصُ، ويبني بعدسته سيرةً جديدةً.
يقول عن تلك المرحلة: "كانت نقطةُ تحوّلٍ كبرى ليس فقط على المستوى المهنيِّ بل الشخصيِّ أيضًا. كنت أحمل في داخلي هذا الطموح، ورغم محدوديّةِ مواردي ومعدّاتي كنت مؤمنًا أن الموهبةَ والتوفيقَ الإلهيَّ قادران على اختراقِ الحواجزِ، وهذا فعلًا ما حدث معي".
حدثَ ذلك في فبراير/شباط 2025 لحظة التحاقه الرسميّ بطاقم دوري روشن، ومنذ تلك اللحظة تغيّر كلُّ شيءٍ. وحين يُسأل عن الفوارق بين ما كان عليه في حضرموت وما أصبح عليه في الملاعب السعودية يبتسم بصمتٍ يشبه الاعترافَ المُرَّ والمفرحَ في آنٍ. الفرقُ –كما يصفه– كان هائلًا: من الزخم الإعلامي إلى سرعة نقل الحدث، ومن الاحترافيّةِ العاليةِ في المعداتِ وفِرقِ العملِ إلى ثقافةِ الصورةِ نفسها التي لم تعد تُتركُ للارتجالِ.
لم يُخفِ كذلك شعورهُ بالخجلِ في البدايات حين رأى نفسه محاطًا بعدساتٍ ضخمةٍ وكاميراتٍ لم يكن قد رأى مثلها من قبل. لكنّه رغم ذلك لم يتراجع بل قدّم أفضلَ ما لديه؛ لأنّه يمتلك الحسَّ والبصيرةَ والقدرةَ على قراءةِ الملعبِ بعدسةِ العينِ والقلبِ معًا.
لذلك لم يكن مستغربًا أن تنتشر أعمالُه لاحقًا على صفحاتِ نادي الشباب السعودي، ويشاهدها آلافُ المتابعين دون أن يعرفوا أن من التقطها شابٌّ من حضرموت كانت بداياتُه في ملاعبٍ تُروى بالمطرِ لا بالدعمِ.
لقد فشلتِ السياسةُ في توحيدِنا، فوَحّدتْنا الرياضةُ. تلك الصورةُ كانت رسالةً حضاريّةً عن اليمنِ الذي يُحبُّ الحياةَ، عن حضرموتَ التي تُقاومُ بالتشجيعِ، عن شعبٍ يستخرجُ الفرحَ من بينِ الرُّكامِ". بل يذهبُ أبعدَ من ذلك حين يعترفُ بصدقٍ: "في تلك اللحظةِ، أدركتُ أنّ التصويرَ رسالةٌ ومسارُ حياةٍ
عدسة تصوغ المعنى
لم يكن التصويرُ الرياضيُّ في أيِّ وقتٍ مجرّدَ مهنةٍ بالنسبةِ لصائنٍ، بل رآهُ مسؤوليةً فنيةً وإنسانيةً، تسبقُ فكرةَ التوثيقِ التي تنتهي بصافرةِ حكمٍ. فالصورةُ كما يراها تجسيدٌ لحالةٍ عامةٍ تبعثُ برسالةٍ صامتةٍ إلى جمهورٍ قد لا تجمعهُ السياسةُ ولا اللغةُ بقدرِ ما توحّدهُ كرةُ القدمِ.
وفي هذا السياقِ يقول بصوتٍ أقربَ إلى التأمّلِ منه إلى الجوابِ: "الصورةُ تحملُ في طيّاتها أكثرَ من هدفٍ وانتصار. أحيانًا تكونُ رسالةَ سلامٍ تُظهرُ كيف يمكنُ للشغفِ أن يصنعَ وحدةً عابرةً للجغرافيا والانقساماتِ، يتشاركُ الناسُ فرحةً لا تحتاجُ إلى شرحٍ، لكن الصورةَ وحدها تقولُ كلَّ شيءٍ".
انطلاقًا من هذا الفهمِ كانت معادلةُ التوازنِ لديه قائمةً دائمًا بين الجانبِ التقنيّ –من حيثُ وضوحِ العدسةِ، توقيتِ الالتقاطِ، توزيعِ الضوءِ، وزاويةِ المشهدِ– وبين الإحساسِ العميقِ باللحظةِ، ذلك الإحساسُ الذي لا تلتقطهُ الكاميراتُ وحدها، بل تُمسكهُ روحُ المصوّرِ حين يكونُ جزءًا من الحدثِ، لا مجرّدَ عابرٍ فيه.
ففي مباراةٍ واحدةٍ يختصرُ صائنُ عشراتِ التفاصيلِ: لاعبٌ يحتفلُ، مدرّبٌ يصرخُ، مشجّعٌ يبكي، وآخرُ يضحكُ. لحظاتٌ تُشكّلُ فسيفساءَ من الإنسانيّةِ، يعرف تمامًا كيف يرتّبُها في صورٍ لا تُنسى. وكلُّ هذا –كما يؤكد– ليس ترفًا بل ضرورةً في بلدٍ مثل اليمنِ حيث لحظاتُ الفرحِ نادرةٌ، وما إن تُلتقط حتى تتحوّل إلى شكلٍ من أشكالِ المقاومةِ في وجهِ الحزنِ العامِّ.
وفي قلبِ هذه التجربةِ الأثيرةِ لا يغيبُ الوعيُ بالهويّةِ. فحين يدخلُ صائنٌ إلى ملعبٍ سعوديٍّ أو يُكلَّفَ بتغطيةِ فريقٍ كبيرٍ لا يخلعُ انتماءَه عند البابِ بل يشعرُ في كلِّ لقطةٍ أن عليه أن يمثلَ حضرموتَ واليمنَ بالصورةِ التي تعكسُ احترافيّةَ المصوّرِ اليمنيِّ، وقدرته على إثباتِ ذاتِه وسط تحدياتٍ لا تُعدّ ولا تُحصى.
ويقول في هذا الصددِ: "حين أكونُ خلفَ الكاميرا في دوري روشن أشعرُ أنني لا أمثّلُ نفسي فقط. أُمثّلُ حضرموتَ وكلَّ أبناءِ بلدي الذين يعرفون كيف يحوّلون الفرصةَ الصغيرةَ إلى قصةِ نجاحٍ".
ولعلَّ هذا الحديثَ وإن بدا شخصيًّا في ظاهرهِ إلا أنّه في جوهرهِ يتصلُ بسؤالٍ أكبرَ: ماذا تحتاجُ حضرموتُ – واليمنُ عمومًا – لتكونَ بيئةً حاضنةً للمواهبِ؟ وهنا لا يتردّدُ صائنٌ في الإجابةِ: "نحتاجُ إلى بنيةٍ تحتيةٍ حقيقيةٍ، إلى ملاعبَ، إلى مؤسساتٍ تؤمنُ بالمواهبِ، إلى دعمٍ مادّيٍّ ومعنويٍّ؛ لأنّ أغلبَ ما نفعلهِ اليومَ يتمّ بمجهودٍ ذاتيٍّ وبأقلِّ الإمكانيّاتِ".
ففي تجربتِه – كما في كثيرٍ من التجاربِ اليمنيّةِ – يتبدّى التناقضُ الصارخُ: موهبةٌ بلا مواردَ، شغفٌ بلا منصّةٍ، وأحلامٌ كبيرةٌ تعيشُ في ظلِّ واقعٍ ضيّقٍ.
كانت صورةً واحدةً لكنها حملتِ اليمنَ بكلّ أوجاعِهِ وأحلامِهِ في إطارٍ: خمسون ألفَ مُتفرِّجٍ، في ملعبٍ غيرِ مُكتملٍ، بلا كراسيَّ، بلا أضواءَ، وفي بلدٍ تتقطّع أوصالُه بفعلِ الحربِ، لكنهم جاؤوا ليقولوا إنّ كُرةَ القَدَمِ ما زالت تجمعُهم، وإنّ الصورةَ قادرةٌ على تقديمِ روايةٍ بديلةٍ عمّا تُروِّجُه نشراتُ الأخبارِ.
صورة تتكلم للعالم
لم يكن حُلْمُ صائنِ الهندي أن يُصوِّر لأجلِ التوثيقِ فحسب بل أن يكونَ شاهدًا على لحظةٍ يلتقي فيها الواقعُ بالطُّموحِ، وأن يُمنَحَ للصورةِ ما للكلمةِ من أَثَرٍ بل ربّما أكثر. ومن خلالِ التجرِبةِ التي خاضَها في دوري رَوْشَنِ السُّعوديِّ للمُحترفينَ انفتحت أمامَه آفاقٌ جديدةٌ تجاوزت حدودَ الملعبِ المحلِّيِّ بل وتعدّت حتى الإطارَ الإقليميَّ لتُحلِّقَ نحو العالميّةِ.
وهو يستحضرُ ما مضى ويُحدِّقُ فيما هو آتٍ يقولُ: "أطمحُ أن أكونَ يومًا جزءًا من طاقمِ تصويرِ البطولاتِ العالميّةِ، وفي مقدّمتِها كأسُ العالمِ. لقد كان حلمي أن أُشاركَ في نسخةِ قطر 2022، وقد تقدّمتُ فعليًّا، لكن الفرصةَ لم تُكتَبْ لي. ومع ذلك أُواصلُ العملَ على هذا الحُلْمِ، لأنَّ الصورةَ صارت لغةً عالميّةً لا تحتاجُ إلى ترجمةٍ".
انطلاقًا من هذه القناعةِ يُوجِّهُ صائنٌ رسالتَهُ إلى الشبابِ اليمنيِّ، والحضرميِّ بشكلٍ خاصٍّ ممّن يمتلكون موهبةً بصريّةً لكنهم ما زالوا متردّدين أو غيرَ قادرين على العبورِ ويقولُ بنبرةٍ لا تخلو من الخبرةِ والنصيحةِ: "الفُرَصُ موجودةٌ، لكن علينا أن نكونَ جاهزينَ ونصنعَ لأنفسِنا حضورًا. لقد بدأتُ بنفسي أنشأتُ حساباتي وأعملُ الآن على مشروعِ كتابٍ بعنوان (كُرَةٌ يمنيّةٌ عالميّةٌ)، أُدوِّنُ فيه قصّتي وصُوَري، وأسعى لتطويرِهِ باستمرارٍ".
لكن إنْ كانت الكلماتُ تبني الرؤيةَ فإنّ هناك صورةً واحدةً اختصرتْ حكايةَ صائنٍ وجعلتْها تُلامسُ العالمَ. ففي نهائيِّ كأسِ حضرموتَ بنُسختِهِ السابعةِ التُقطتْ صورةٌ في الملعبِ الأولمبيِّ بسيئونَ تجاوزت حدودَ المكانِ واللحظةِ. كانت صورةً واحدةً لكنها حملتِ اليمنَ بكلّ أوجاعِهِ وأحلامِهِ في إطارٍ: خمسون ألفَ مُتفرِّجٍ، في ملعبٍ غيرِ مُكتملٍ، بلا كراسيَّ، بلا أضواءَ، وفي بلدٍ تتقطّع أوصالُه بفعلِ الحربِ، لكنهم جاؤوا ليقولوا إنّ كُرةَ القَدَمِ ما زالت تجمعُهم، وإنّ الصورةَ قادرةٌ على تقديمِ روايةٍ بديلةٍ عمّا تُروِّجُه نشراتُ الأخبارِ.
وقد كَتَبَ عن هذه الصورةِ العالَمُ وتحدّثتْ عنها منصّاتٌ عربيّةٌ وأجنبيّةٌ حتى وصلت إلى شبكةِ CNN Sport وعندما يُسألُ صائنٌ عن هذه الصورةِ يبتسمُ ويقولُ: "لقد فشلتِ السياسةُ في توحيدِنا، فوَحّدتْنا الرياضةُ. تلك الصورةُ كانت رسالةً حضاريّةً عن اليمنِ الذي يُحبُّ الحياةَ، عن حضرموتَ التي تُقاومُ بالتشجيعِ، عن شعبٍ يستخرجُ الفرحَ من بينِ الرُّكامِ". بل يذهبُ أبعدَ من ذلك حين يعترفُ بصدقٍ: "في تلك اللحظةِ، أدركتُ أنّ التصويرَ رسالةٌ ومسارُ حياةٍ".
وهكذا لا يُختَمُ حوارُ صائنِ الهنديِّ بالكلماتِ، بل بلقطةٍ مفتوحةٍ على الاحتمالاتِ، فيها من الأملِ ما يكفي لملءِ ملاعبَ، وفيها من الصَّمْتِ ما لا يُفَسِّرُه إلا الضوءُ.