الجريمة المتفشية وحسابات الساسة

لماذا يُستهدف "التاجر" اليمني في الولايات المتحدة الأمريكية؟
د. أمين نويصر
May 8, 2023

الجريمة المتفشية وحسابات الساسة

لماذا يُستهدف "التاجر" اليمني في الولايات المتحدة الأمريكية؟
د. أمين نويصر
May 8, 2023

إقرار بالدور

لا أحد يجهل أو يجحد الدور الحيوي والإنساني الذي اضطلع ويضطلع به المهاجرون اليمنيون في الولايات المتحدة، وخاصة رجال الأعمال (التجار)، ويتجلى ذلك واضحًا من خلال دعمهم اللامحدود لأسرهم ومجتمعاتهم المحلية بالداخل اليمني خلال ثماني سنوات من الحرب، التي توقفت بها حركة الحياة والأعمال وتفشت فيها البطالة وانقطعت المعاشات على مستوى كل الساحة اليمنية (في الريف والمدن)، وهو الدعم المشهود سواء كان عبر التحويلات أو التبرعات النقدية أو العينية بل وتشييدهم للبنيات الأساسية والخدمات الاجتماعية في مناطقهم، وكذا تبنيهم للمشاريع الخيرية المختلفة التي عمّت اليمن في ظلّ غياب الدولة.

هل التاجر هو المشكلة؟

لا يجانبني الصواب القول بأن المهاجرين اليمنيين قد أصبحوا الآن جزءًا متناميًا نسبيًّا من نسيج فسيفساء المجتمع الأمريكي المتنوع الذين يعيشون فيه، سواء كانوا أفرادًا أو أسرًا وهم ذوو مستويات تعليمية متوسطة إن لم تكن متواضعة وموارد محدودة، إذ يعمل أغلبهم بالتجارة ويتعرّضون لأعمال إجرامية أحيانًا من بعض العناصر الخارجة عن القانون، ولكن اللافت للنظر أولًا هو إصرار البعض على أنّ اليمنيّين التجّار وحدهم المتسبب في حدوث أعمال القتل والنهب والتخريب والعبث بمتاجرهم ومقرات أعمالهم التي تطالها الاعتداءات، والأغرب من ذلك ثانيًا أن يُرجع البعض السببَ إلى التجار أنفسهم الذين اختاروا مناطق متاجرهم في مناطق خطرة، وكأنهم كانوا يمتلكون أكثر من خيار، وعلى رأسها الإمكانيات المالية ومرونة التنقل، علمًا أنّ معظم اليمنيين لا يملكون إلّا القليل من رأس المال للمحلات الصغيرة، والتي يطغى على أغلبها نظام المشاركة غير القابل للتطوير، أو خاضع للتوثيق القانوني، والقائم على عهود الثقة المشوبة بالحذر، بسبب سرعة تقاسم الأرباح على أساس شهري أو فصلي، ونادرًا ما يكون سنويًّا، والأدهى من ذلك -وهي ثالثة الأثافي- اتهام التجار لبعضهم بأنّهم يتاجرون بالمحرمات والتي هي قانونية أساسًا في المجتمع الأمريكي.

هذه الاعتداءات الإجرامية لا تقتصر في استهدافها على التجار أو أصحاب المحلات اليمنيين، وإنّما على معظم أبناء الجاليات الأخرى كالهنود واللاتينيين وبعض الأمريكيين أيضًا الذين يعملون في متاجر مماثلة.

والحقيقة أنّ هذه الجدلية الأخيرة تضمر في أحشائها بُعدًا دينيًّا، وكأن من لا يتاجرون بها قد نجوا بأنفسهم، وهم بعيدون عن أعمال السلب والنهب بالإكراه والقتل، ولهذا ينصحون بالابتعاد عنها، ويعظون باجتنابها، غير أنّ الواعظين أنفسهم يقعون ضحية القتل والسلب بين آونة وأخرى، لا سيما أنّهم أيضًا يتعاملون بالنقود ويخزنونها، وهي لذاتها المطمع الأساسي للخارجين عن القانون، لأنّ المعتدي لا يسأل عن الجنسية أو الدين، ولا يهمه لون الضحية. 

ومع ذلك، وعلى الرغم من أنّ هذه السلع -ومن زاوية اقتصادية بحتة- هي عبارة عن سلع تتداول قانونيًّا، ما دام أنّ هناك طلبًا عليها في بلد تسود فيه حرية التجارة والمنافسة، فللتاجر حق الاختيار، لأنه هو لا غيره من يقرر ولنفسه، السلعَ التي ينبغي المتاجرة بها، لا سيما أنّ الهدف من التجارة هو الربح، فطالما أنّ التاجر يخضع للقانون ويسير على نهجه في تجارته ولا يخالفه، ويدفع بأمانة الضرائب، فهو في مأمن من المساءلة عند التوسع وتطوير أعماله، علمًا أنّ المشرِّع الأمريكي لم يجرِّم المتاجرة بتلك السلع، فإن لم يبِعها التاجر هذا فسيبيعها التاجر المنافس الآخر، سواء كان الأمريكي أو المكسيكي أو الهندي أو الصيني أو غيرهم كتجار يهدفون إلى الربح.

وفي الاقتصاد، هناك حقيقة مفادها أنّه في عالم الأعمال لا فرق بين دولار يتحصل من بيع الدخان أو مشتقاته، وبين دولار آخر من بيع سلعة الحليب أو مشتقاتها.

من هو المستهدف؟

تمهيدًا للإجابة عن هذا السؤال، يمكن القول بأنه تغلب على متاجر اليمنيين ومحطاتهم صغر أحجامها، وأحيانًا خطورة مواقعها، كما يلاحظ تنافسهم فيما بينهم، وتقارب متاجرهم بالمدن، بالإضافة إلى شكل آخر، وهو أنّ عدد العاملين في معظم محلاتهم أقل من المطلوب لتقليص التكاليف وزيادة أو تعظيم الأرباح، وأنّ بعض المحلات تعمل على مدى الأربع والعشرين ساعة، ومنها من لا يغلق أبوابه إلّا متأخرًا في مناطق غير آمنة أو نائية، فيسهل الانفراد بهم والاعتداء عليهم، ممّا يوقع بهم -خاصة في ظلّ قصور التوعية بأصول ومهارات التعامل الآمن- في حالات مواجهة مواقف الأوضاع الخطرة، على الرغم من وجود كاميرات المراقبة في أغلب أماكنهم.  

وعلى كل حال، فإنّ هذه الاعتداءات الإجرامية لا تقتصر في استهدافها على التجار أو أصحاب المحلات اليمنيين، وإنّما على معظم أبناء الجاليات الأخرى كالهنود واللاتينيين وبعض الأمريكيين أيضًا الذين يعملون في متاجر مماثلة، ولكن ما يتم هنا هو التركيز على ما يحدث لليمنيين فقط لعلوّ صوتهم بين أبناء الجالية، بينما لا يستطيع اليمنيّون الاطلاع على أخبار وضحايا الاعتداءات على أبناء الجاليات الأخرى، وإن سمعوا بها لا يعمّمونها كمعلومة، كونها قد لا تعنيهم بل إنّهم لا يقرؤون مواقع وصحف الآخرين لضعف معرفتهم باللغة الإنجليزية، ولا يفهمون لغتهم لمحدودية علاقاتهم بالجاليات الأخرى.

إنّ ما يؤرق المجتمع التجاري اليمني اليوم هو تلك الأعمال الإجرامية المنفلتة التي تستهدف بعضهم، والتي ينبغي الوقوف عليها وبمسؤولية، وهي ليست متمثلة بالانفلات الأمني فحسب، ولكن بالتراخي الأمني الملموس من باب أولى، والذي وقع المجتمع التجاري، ومنه اليمني، في العديد من المدن ضحية له.

والحقيقة أنّ هذه الحوادث ليست حديثة العهد، وكانت تحدث دائمًا في مختلف المدن، وخاصة الكبرى منها، كنيويورك وشيكاغو وأوكلاند وسان فرانسيسكو وديترويت وبالعديد من الولايات التي استوطنها اليمنيون. وللإيضاح؛ كانت تلك الحوادث من حيث تكرار وقوعها متناسبة مع عدد المحلات، إلّا أنّ الفارق الآن هو زيادة أعداد المحلات التجارية بصورة ملفتة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، أغلب محلات بيع الدخان ومشتقاته في بعض الولايات الكبرى يمتلكها اليمنيون، والأكثر من ذلك لم يكن بالسهولة سابقًا التعرف على أي حادثة إلّا بعد أيام -إن لم تكن أسابيع- من وقوعها.

وعلى العكس من ذلك، في الوقت الراهن بالذات، تصل الأخبار وبسرعة فائقة، وهو عامل قوة لانتشار بثّ خبر القتل والسطو والاقتحامات فوريًّا حال وقوعها، وذلك بفعل التطور السريع في وسائل الإعلام الجماهيري وبرامج التواصل الاجتماعي.

المشكلة الاقتصادية والجريمة

إنّ إدراكنا لما يحدث من نتائج وخيمة ترتبت على عشوائية العنف الفردي تجاه المحال التجارية، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يلهينا عن تصويب البحث في خلفية المشكلة الاجتماعية لبعض أفراد أو فئات المجتمع أو السكان من أجل تفهمها والتعرف عن كثب على سلوكها وطريقة تفكيرها، وخاصة تلك الشريحة التي أفضت بدورها إلى تفاقم هذه الأعمال الإجرامية، والتي دائمًا ما تقض مضاجع المجتمع الأمريكي السريع التطور، وما صاحب ظاهرة تطوره وتخلف شرائح مجتمعية منه بحد ذاتها ممّن لم يواكبوا إيقاع التقدم، فتُركوا بالهامش خلف تلك التطورات لأسباب اجتماعية أكثر منها تاريخية متجذرة متجددة ومتظافرة في تشابك علاقاتها.

إنّ المشكلة الاجتماعية والشعور بالدونية والتهميش، إضافة إلى البطالة المتفشية بين أوساط بعض فئات المجتمع التي تعيش في بيئة استهلاكية رأسمالية قائمة على الفردية المطلقة والنهم الاستهلاكي المفرط في ظلّ فقرهم واتكاليتهم المعتمدة على برامج المساعدات الحكومية الغذائية، يولد لدى هذه الفئة الشعور بالحرمان، وما يرافقه من نزعات إجرامية مصاحبة للإحباط الفاقد للأمل بين بعض أفراد فئات تلك الأقليات، والتي كانت وراء الجرائم المتزايدة المقترفة باستخدام مختلف الأساليب، خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية، أو نقص مساعدات الدولة والولاية، أو مع اقتراب المناسبات أو الأعياد المتزامنة مع انعدام أو شحة دخولها الفردية، وهي فئة محدودة تسعى وبأي وسيلة كانت، للإبقاء على مستوى اقتصادي مناسب، وإشباع احتياجاتها الاستهلاكية بأي طريقة كانت، وبمعنى آخر فمشكلتها الاقتصادية أنّ لها حاجات وسلعًا متعددة ومتجددة، ولا تمتلك الموارد التي يمكن بها إشباع تلك الحاجات، ولا تجد حلًّا لتوفير اقتنائها سوى طرق أبواب الجريمة المسلحة واقترافها ليلًا أو جهارًا نهارًا، وهذا السلوك ينبع من العقلية الضيقة الخيارات التي ولقصر نظرها، ترى وبفعل تدني مستوى تعليمها بأنّ الغير قد أخذ وظائفها عنوة، وأصبحوا يعيشون على حساب سعادتها، أو لاعتقادها بأن تعاستها هي بسبب نجاح الآخرين، وهي حجج واهية لا تستند إلى المنطق والتي ينظر المجتمع الأمريكي إليها بضرورة التصدي لها لتغيير ذلك السلوك وقيام السلطات بإيجاد حلول جذرية، تتمثل في كيفية احتواء هذه الشريحة في النظام التعليمي وتأهيلها وضمان عدم تسربها منه ومن ثم إدماجها في سوق العمل الأمريكي بالرفع من مستواها التعليمي والتدريبي والمعيشي من خلال قيام الدولة الأمريكية بمسؤولياتها، عبر التركيز على التعليم وتقديم المساعدات والحوافز الباعثة للأمل وإتاحة الفرص من أجل معالجة ورفع مظلمة الغبن التاريخي لتلك الشرائح المجتمعية، وهي تحتاج إلى برامج مكثفة موجهة وهادفة متوسطة المدى.

الجريمة والتراخي الأمني والكسب السياسي

إنّ ما يؤرق المجتمع التجاري اليمني اليوم هو تلك الأعمال الإجرامية المنفلتة التي تستهدف بعضهم، والتي ينبغي الوقوف عليها وبمسؤولية، وهي ليست متمثلة بالانفلات الأمني فحسب، ولكن بالتراخي الأمني الملموس من باب أولى، والذي وقع المجتمع التجاري، ومنه اليمني، في العديد من المدن ضحية له بفعل الصراع القائم بين أجهزة الشرطة التي قلعت أنيابها بفعل تقليص ميزانيات تشغليها، وليؤثر ذلك على كفاءة أداء مهامها تحت غطاء حملة احتجاجات (حياة السود مهمة) أو غيرها من حجج الضيم الاجتماعي أو العنصرية النائمة التي تصحو أحيانًا، وبين السياسيين الذين يرون بضرورة تصحيح الغبن الاجتماعي التاريخي للأقليات المهمشة من شرائح المجتمع الأمريكي، لهدف الكسب السياسي على حساب تقليص صلاحيات الشرطة؛ ممّا أدّى إلى تراخي جهازها الأمني والإبطاء في تجاوبها للردع عند وقوع الجريمة، وما ترتب عليه من التفشي النسبي للجريمة، وهذا هو الخلل الرئيسي الذي يوجد حاليًّا في معظم المدن الرئيسة الأمريكية، وهناك حاجة ماسّة لتصحيحه والقضاء على تعارض المصالح بالعودة إلى دعم جهاز الشرطة في كل المناطق التي قلصت فيها صلاحياتهم وميزانياتهم كون الشرطة هي خط المواجهة الأول لمكافحة الجريمة؛ فالشرطة تريد أن تقوم بدورها المنوط بدون مساءلة والسياسيون يسعون إلى إعادة انتخابهم، والتجار يهدفون إلى تعظيم أرباحهم وحماية أعمالهم، وهذا بحد ذاته لن يتأتى إلا من خلال التنسيق والضغط على السياسيين لتصحيح هذا الخلل الأمني، والالتقاء في منتصف الطريق لحلحلة متعارضات المصالح المتقاطعة للأطراف، بما يضمن تمكين الشرطة من أداء مهامها وانتخاب السياسيين وحماية التجار بتوفير البيئة الآمنة ومنع الحوادث الإجرامية والتصدي لها، أو على الأقل المساهمة في تفاديها عبر تسيير الدوريات والمراقبة وتبني تكنولوجيا الإنذار المبكر قبل حصولها.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English