انقسام الاقتصاد اليمني وطرق المواجهة

تأثيرات الحرب والاقليم والتنازعات الدولية على بلد هش!
أ. د. محمد علي قحطان
June 1, 2023

انقسام الاقتصاد اليمني وطرق المواجهة

تأثيرات الحرب والاقليم والتنازعات الدولية على بلد هش!
أ. د. محمد علي قحطان
June 1, 2023

لوحظ في الآونة الأخيرة، وجود اضطرابٍ حادّ في سعر صرف الدولار والريال السعودي مقابل الريال اليمني، وكذا تعميق الانقسام للنشاط الاقتصادي بين صنعاء وعدن؛ الأمر الذي انعكس على الوضع الاقتصادي بصور عدة، منها: ارتفاع أسعار السلع والخدمات أكثر ممّا هي مرتفعة، وتراجع النشاط الاقتصادي في عموم البلاد شماله وجنوبه، وبالتالي تراجُع الطلب الاستهلاكي، والمزيد من الركود والتدهور الاقتصادي، وكذا المزيد من تعاظم التدهور للأوضاع الإنسانية للمواطنين اليمنيّين، ويتجه الوضع في الاقتصاد اليمني لتعميق الانقسام. ويتساءل الكثير من المختصين ورجال المال والأعمال والمواطنين والقنوات الإعلامية عن أسباب هذا الانقسام واستمرار تعاظمه.

للإجابة على ذلك، يمكن القول بأنّ هناك أسبابًا ومظاهرَ عديدة، نوضح أهمّها بما يلي:

أولًا: استمرار الحرب

لقد تجاوزت فترة الحرب ثماني سنوات، وكلما اشتدّ القتال والصراع، انعكس بالمزيد من التدهور الاقتصادي والوضع الإنساني، كما أنّه مع طول فترة الحرب زاد جشع تجار الحروب لجمع المزيد من الفوائد التي تعود عليهم مع استمرار الحرب؛ وبالتالي تصاعدت الأوضاع بتوسيع مساحة الصراع لتشمل الجانب الاقتصادي والمتاجرة بالأوضاع الإنسانية التي تصنّف بالأسوأ على مستوى المعمورة. ومِن بين مظاهر هذا التصعيد، ما يلي:

1- انقسام الجهاز المصرفي؛ حيث أدّت الحرب لفترة طويلة -ولا تزال مستمرة- إلى تشكُّل فرعين رئيسيين للبنك المركزي؛ الأول في صنعاء، والآخر في عدن، وتبع هذا الانقسام انقسام للجهاز المصرفي اليمني بين صنعاء وعدن، وكذا انقسام في العملة الوطنية (الريال اليمني)؛ الأمر الذي عزّز الانقسام في السوق النقدية بصورة بليغة، حيث صارت الطبعة القديمة مقبولة للتداول في مناطق نفوذ سلطة صنعاء، ومنع التداول بالطبعة الجديدة، وصارت الطبعة الجديدة التي استحدثتها السلطة السياسية المعترف بها دوليًّا والمتخذة من عدن مقرًّا لها، عملةً للتداول في مناطق نفوذ سلطة عدن، وغابت عنها تمامًا الأوراق النقدية القديمة. وقد أدّى ذلك إلى ظهور سياستين نقديتين: إحداهما تدار من صنعاء، والأخرى تدار من عدن؛ وبالتالي فرضت سلطة صنعاء سعرًا سوقيًّا موحدًا للريال اليمني بطبعته القديمة عند سقف 600 ريال للدولار الواحد في بداية الانقسام. ومع مرور الوقت، والرقابة التي يفرضها بنك مركزي صنعاء على السوق النقدية وتراجع الكتلة النقدية للطبعة القديمة بسبب تهالكها وعدم إمكانية طبع أوراق جديدة بديلًا عن المتهالكة؛ أدّى ذلك إلى ندرة في السيولة النقدية في صنعاء، وبالتالي تراجعت أسعار صرف العملات الأجنبية إلى مبلغ 530 ريالًا يمنيًّا بطبعته القديمة للدولار الواحد في الوقت الحالي. بينما استمرّ الريال اليمني بطبعته الجديدة بالتذبذب صعودًا وهبوطًا، ويواصل هبوط قيمته أمام العملات الأجنبية ليتجاوز سعر صرف الدولار الأمريكي حاليًّا مبلغ 1300 ريال تقريبًا، وهو في حالة تذبذب بالارتفاع والانخفاض بصورة سريعة أدّت إلى إرباك السوق النقدية، وتراجع حادّ في النشاط الاقتصادي، واستمرار التدهور في الوضعين الاقتصادي والإنساني، وصعوبة التبادل التجاري والتحويلات النقدية بين مناطق نفوذ سلطة صنعاء ومناطق نفوذ سلطة عدن. 

وأدّى ذلك إلى تعميق الانقسام في الجهاز المصرفي. وصار واقعيًّا في البلد جهازان مصرفيّان.

2- انقسام الجهاز المالي للدولة؛ حيث أدّت الحرب إلى توقف إنتاج وتصدير النفط والغاز خلال السنتين الأولى والثانية من بداية الحرب. الأمر الذي أدّى إلى استنزاف احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية المقدرة بحوالي (5.2) مليار دولار أمريكي في بداية الحرب عام 2015، وكذا أرصدة البنك من العملة الوطنية، بما فيها أرصدة أذون الخزانة الخاصة بالبنوك التجارية، وبالتالي فقد أدّى ذلك إلى تجميد عمل البنوك وأرصدة المودعين، واشتدّ الصراع على بقية الموارد العامة للدولة، وظهور الانقسام والتباين في السياسات المالية بين كلٍّ من صنعاء وعدن؛ الأمر الذي أوصل الوضع إلى وجود سياستين ماليّتين في إطار الدولة. فقد عملت حكومة صنعاء على انتهاج سياسات وإجراءات مالية معينة لمواجهة نفقات إدارة الحرب وبوسائل شتى، بعضها قانونية والبعض الآخر مخالفة للقانون. بينما تعمّقت مظاهر الفساد ونهب الموارد المالية الخاصة بالدولة في الطرف الآخر (حكومة عدن) والمناطق التابعة لها.

 وبناء على هذا الوضع، فقد تعزّز انقسام الجهاز المالي للدولة، إذ سيطرت سلطة صنعاء على كافة الأوعية الإيرادية في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وبقيت الأخرى تحت سيطرة سلطة عدن والمناطق التابعة لها. 

عندما بدأت حكومة عدن بإعادة تصدير النفط، وتستعد لإعادة تصدير الغاز، وأدّى ذلك إلى تحسين في وضع ميزانية حكومة عدن، وبدأ التفكير بتعميم دفع رواتب موظفي القطاع العام، في كافة محافظات البلاد شمالًا وجنوبًا- تم ضرب ميناء تصدير النفط في حضرموت من قبل الحركة الحوثية.

وعندما بدأت حكومة عدن بإعادة تصدير النفط، وتستعد لإعادة تصدير الغاز، وأدّى ذلك إلى تحسين في وضع ميزانية حكومة عدن، وبدأ التفكير بتعميم دفع رواتب موظفي القطاع العام في كافة محافظات البلاد شمالًا وجنوبًا- تم ضرب ميناء تصدير النفط في حضرموت من قبل الحركة الحوثية، وقد كان من المتوقع أن تبدأ مسيرة جديدة لتحسين الوضع الاقتصادي والتحرر التدريجي من الارتهان للخارج، فحصل العكس من ذلك. إذ توقف نشاط إنتاج وتصدير الكميات المحدودة من النفط، وزاد ارتهان حكومة عدن لدول الإقليم طلبًا للمساعدة، مع توسيع حادّ لفجوة الانقسام بين صنعاء وعدن في الشأن الاقتصادي.

ثانيًا: التدخل الإقليمي

من المعروف أن هناك صراعًا إقليميًّا حادّا بين تيارين دينيين: أحدهما بزعامة إيران، والآخر بزعامة السعودية. وهناك أجندات متضاربة لكلا التيارين؛ الأمر الذي أدّى إلى تحويل اليمن إلى ما يشبه حلبة صراع بين فريقين، أبرز ملامحه ارتباط الحركة الحوثية بإيران، والطرف الآخر المناوئ للحركة ضم العديد من دول الإقليم سُمّيت بدول التحالف العربي الداعمة للشرعية بزعامة السعودية والإمارات بهدف معلن، وهو استعادة الدولة باعتبار أنّ إيران دعمت الحركة الحوثية في انقلاب عسكري استولت بموجبه على العاصمة صنعاء. 

وأدّى ذلك إلى تعزيز الانقسام للقوى اليمنية على مختلف الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولأنّ موضوعنا الشأن الاقتصادي، نلخص آثار هذا العامل في الانقسام الاقتصادي بإيجاز، بما يلي: شوهد خلال سنوات الحرب تدفقٌ كبير للمساعدات الاقتصادية بصور دعم عسكري ومالي وتعزيز القدرات العامة، وتركز الدعم الإيراني لسلطة صنعاء، بينما تركز دعم دول التحالف بقيادة السعودية والإمارات لسلطة عدن والأطراف الأخرى المناوئة للحركة الحوثية. ومع مرور الوقت، صار كلُّ طرف يشدّ الموالين له ناحيته من خلال ما يقدّمه من الدعم. الأمر الذي عزّز الانقسام في مختلف الجوانب، من بينها الشأن الاقتصادي. وأدّى ذلك ليس إلى تعزيز الانقسام الاقتصادي بين سلطتين، بل ونشأت تعقيدات أخرى تشكّل معوقات هامّة أمام إعادة توحيد القدرات اليمنية، بما فيها الموارد الطبيعية ومختلف مقومات التنمية الاقتصادية. وصار الاقتصاد اليمني يتجه نحو تعزيز الانقسام ومرهونًا لإرادات الدول الإقليمية بتوجهاتها المختلفة.

هناك انقسام في اقتصاد الدولة، وهناك عوامل عدة توسع هذا الانقسام، الأمر الذي يعزّز استمرار الحرب ويهدّد بتقسيم اليمن لشطرين أو أكثر.

مع بروز الصين كأعظم اقتصاد عالمي يتصدر في نموه الاقتصادي والتجاري كافة دول العالم، وكذا الحرب الروسية الأوكرانية بما تحمله من أجندات، تشير إلى تشكُّل عالم جديد متعدِّد الأقطاب بدلًا عن هيمنة القطب الواحد الذي تتزعمه أمريكا- لوحظ توسعٌ حادّ في الصراع الدولي، من أبرز ملامحه التكتلات الاقتصادية العالمية الناشئة، منها: دول الـ(بريكس)، ومنظمة شنغهاي، وغيرها، بمقابل التكتلات التقليدية المعروفة كتكتل الدول الغربية بقيادة أمريكا، والتكتل الاقتصادي الأوروبي، وغيرها. 

الأمر الذي أدّى إلى اشتداد حدة التنافس بأشكال مختلفة، من بينها السعي لتوسيع النفوذ الاقتصادي مع دول المنطقة. ونظرًا لأنّ اليمن واقعة تحت تأثير كلا الجانبين (الصيني الروسي من جهة إيران، والأمريكي الغربي من جهة السعودية ودول عربية أخرى)، يأتي التأثير على تعزيز انقسام اليمن بروابط مختلفة، منها الجانب الاقتصادي.

وبناء على ما أوضحناه من أسباب ومظاهر للانقسام في الاقتصاد اليمني، نستخلص بأنّ هناك انقسامًا في اقتصاد الدولة، وهناك عوامل عدة توسع هذا الانقسام، الأمر الذي يعزّز استمرار الحرب، ويهدّد بتقسيم اليمن لشطرين أو أكثر، فكما يبدو، يظهر أمامنا سيناريوهان: الأول فرض أمر واقع من الانقسام للجانب الاقتصادي للدولة؛ وبالتالي إعادة تقسيم اليمن لشطرين كما كانت قبل الوحدة، والآخر هو استمرار تعميق الانقسامات لأكثر من شطرين؛ وبالتالي صعوبة وقف القتال وعدم تحقيق السلام.

وبناء على ذلك؛ نرى بأن أمام البلد مخاطر حقيقية تستدعي من كافة أطراف الصراع تحكيم العقل والمنطق، والمبادرة لوضع نهاية للانقسامات الماثلة والعودة لطاولة الحوار بمسؤولية تاريخية وطنية، ومواجهة التحديات الماثلة، سواء الدولية أو الإقليمية وكذا المحلية. حيث يبدو واضحًا بأن الحل للقضية اليمنية لن يأتي من الخارج بالنظر إلى ما أشرنا إليه من أجندات متضاربة إقليمية ودولية، وتجاهل ذلك يعني هلاك الكل، ولن يبقى في اليمن سوى الأطلال والمآسي والجوع والتخلف بكل مظاهره وأشكاله، وسيبقى المواطن اليمني مشردًا مسلوب الكرامة والإنسانية إلى ما شاء الله. 

وبرأينا أنّ المواجهة الحقيقية الممكنة للمخاطر الماثلة تبدأ من الجانب الاقتصادي والإنساني، وذلك بالعمل بما يلي:

  1. الإسراع بتوقيع الهدنة المقترحة برعاية أممية؛ بحيث تتوقف أوجه المواجهات العسكرية بصورة تامة. 

2 – التعامل بقدر كبير من المسؤولية في القضايا الاقتصادية والإنسانية، والتي منها ما تم الاتفاق عليه في صنعاء بحضور وفد سعودي وآخر عماني، ويمكن توسيعه ليشمل مواجهة الانقسام في الجانب الاقتصادي بشقية المالي والمصرفي، بحيث يتم ما يلي:

- فتح جميع المعابر الدولية والطرق الداخلية بين المحافظات، بما في ذلك فك الحصار عن تعز. 

- توحيد البنك المركزي اليمني وتحييده تمامًا عن التدخل السياسي، وذلك من خلال آلية تلبي المصلحة الوطنية، يتم التوافق عليها بإشراف دولي، مع أهمية تفعيل كافة وظائف الجهاز المصرفي، وتركه يعمل بحُرية، طبقًا لأصول العمل المصرفي، ولما هو في خدمة الاقتصاد اليمني، تحت إشراف البنك المركزي. 

- من المهم أيضًا أن يشمل الاتفاق توحيد جهاز المالية العامة للدولة، وتأمين تدفق كافة الموارد المالية للدولة لفروع البنك المركزي بالمحافظات، بحيث تصمم آلية محددة تؤدّي إلى تدفق الأموال العامة للدولة من كافة المصادر للبنك المركزي وفروعه في المحافظات، وبنفس الوقت تنظم آليات نفقات مؤسسات الدولة المحلية والمركزية، بما في ذلك الرواتب والأجور، وذلك من خلال دمج جهازي السلطة المالية في كلٍّ من صنعاء وعدن.

وإذا ما تحقّق ذلك، فسيكون من الممكن لأطراف الصراع السياسي والعسكري برعاية دولية، الجلوس على طاولة حوار مكثّف حول إعادة بناء الدولة بالشكل المناسب، استنادًا لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني لعام 2013.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English