أين مملكة سبأ؟

(نجيب محفوظ) والنَّصّ اليمنيّ المهمّش
د. حاتم الصكر
November 5, 2022

أين مملكة سبأ؟

(نجيب محفوظ) والنَّصّ اليمنيّ المهمّش
د. حاتم الصكر
November 5, 2022

(ثلاثة أيام في اليمن) نصٌّ كتبه نجيب محفوظ إثر زيارة لليمن الجمهوري، وهي واحدة من ثلاث سفرات قصيرة قام بها خارج مصر طوال عقود حياته التسعة، ولكن ذلك النص لم يحظَ بما يستحق، فظلّ -كحال اليمن على الخارطة- مهمشًا رغم أهميته، لا على مستوى التوثيق؛ فثمّة كتابات كثيرة حول الثورة اليمنية وقيام الجمهورية، ولكن بالاحتكام إلى محتوى ذلك النص الذي يجمع بين المذكرات واليوميات والوصف الدقيق للمكان، وما ينطوي عليه اليمن من مشاهد طبيعية وحياتية، والخيال السردي الذي أضفى عليه متعة وجاذبية حدت ببعض القراءات إلى عدّهِ قصةً قصيرة، وهو شهادة على تلك الأيام التي سجَّل فيها انطباعاته عن بلد يخرج إلى الحياة، ويستردّ تاريخه الذي سيكون مناسبة دائمة للتفكير بما آلَ إليه حاضره، حتى ليصح في مقام نسيان ماضي اليمن والالتهاء بتعاسة واقعه، قول المعري:

         كم أردنا ذاك الزمانَ بمدحٍ ** فشُغلنا بذمِّ هذا الزمانِ

وكأي كاتب يربأ بفنّه عن التقرير المباشر والتسجيل المرجعي؛ قام نجيب محفوظ بتأطير نصّه بالسرد، بإسناد حدث الرحلة التي حصلت كواقعة خارجية إلى شخصين يتناوبان مهمة الحكي في النص، هما: (الأديب) و(الجندي) يكمل كلٌّ منهما الآخر، فالأديب هو نجيب محفوظ سارد مجريات الرحلة من القاهرة إلى الإسكندرية ثم بالباخرة إلى ميناء الحُديدة في اليمن التي سيطيرون منها بطائرة عسكرية إلى صنعاء، ويقابلون مسؤوليها وثوّارها وشبابها وأدبائها، ويرون مآثرها وآثارها، وينتقلون بالطائرة إلى تعز التي سيوغل نجيب محفوظ في وصف جمال طبيعتها وارتفاع جبالها؛ ليهجو الحرب ضمنيًّا، لأنّها تأخذ الإنسان من هذه المعجزات البصرية وجماليات الحياة إلى الموت أو التشرّد والبؤس، فهي تسرق الجندي الشاب من خطيبته وأمه وأصدقائه ويوميات حياته المدنية؛ فيصطدم بها وهو الذي لم يرَها إلا في الأفلام، كما يقول مستكملًا الصورة الخيالية للحرب، حيث ذهب نجيب محفوظ مع مجموعة من الكتّاب والصحفيين، ليروا الجنود المصريين الذين كانوا يساعدون إخوتهم في اليمن للخروج من نفق واقعهم وتحريرهم من الخرافة والتخلف والجهل. وكذلك لينفعلوا بالحرب. وبفكاهته المعروفة يداعب نجيب محفوظ خوف أصدقائه من خطورة الرحلة إلى أرض تلتهب بالقتال ولم تستقر فيها الأحوال بعد، فيورد تساؤل أحدهم: "ولماذا لا ننفعل ونحن في القاهرة؟"، حين عرف أنّ الغرض من رحلتهم هو الانفعال بالحرب، وردّ أحد زملائه بالقول: "وهؤلاء الجنود أليسوا بشرًا؟"، فيجيبه: "ولكنهم جنود". ومن هؤلاء الجنود يختار نجيب محفوظ شخصية الجندي الشاب الذي يقوم برحلة موازية من مصر إلى اليمن، ولكن كمقاتل في سلاح المظلات، ويكشف نجيب محفوظ في هذا النصّ حقيقة الحرب، في حوار بين زملاء الرحلة: 

  • الحرب. إنّها الحرب. 
  •  أقدم حرفة في الوجود.
  • لكنها نشبت هذه المرة في سبيل التحرير والحرية.
  • إنّها الحرب. وهي، ككل حدث خطير، تدفعنا إلى مواجهة لغز الوجود وجهًا لوجه.

وها هي نذرها تعود اليوم، حيث تسير اليمن صوب مجهول يتجاذب مصيرها ومستقبلها؛ لتهتزّ لوحة اليمن الجميل وتفاصيلها المدهشة المتحدية حتى للفنّ وقدرته على استيعابها- كشهادة: كثيرًا ما كنت أردّد شعوري بحرج الفنّان اليمني وهو يحاول أن يباري نسخة الطبيعة وينقلها في أعماله، فهي أشدّ إعجازًا في جمالها وتنوعها.

يستبق نجيب محفوظ في نصّه المزدوج –شهادةً وسردًا- اللحظة الفاصلة في وجود اليمن، ويجعلنا نسأل مع الجندي الشاب:

"أين مملكة سبأ؟"، وبدون اهتمام يجيبه زميله سائلًا: "أنحن ذاهبون إلى الميدان؟"، وبين سؤال الزميل وسؤال جندي النص، أو بين وجود مملكة سبأ وميدان الحرب، تتأرجح حقيقة اليمن في هذه اللحظة التي يتهدّد فيها الماضي والحاضر، كما يتهدّد المستقبل.

مدن يمنية كثيرة يمرّ بها جندي النصّ والأديب، وتفاصيل لا يمكن للخيال وحده أن يؤثّث بها النص، بل الرصد البصري المباشر، ولكن الأفكار التي يثيرها تعكس أمرين:

  •  مأزق الأديب في كون مضطرب محتشد بالموت عدلًا وظلمًا، بحسب انتماء الضحايا، ومسؤولية التعبير عن هذه الحقيقة فنيًّا.
  • وتأملات نجيب محفوظ فيما تمحوه الحروب من معالم الحضارة وتحجبها عن المعاينة؛ فقد ضاع السؤال عن مملكة سبأ وسطَ السؤال عن ميدان القتال. ولكن بناء الحياة لا يكون بالحرب. تلك حكمة يخرج بها نجيب محفوظ في خاتمة النص، حيث يمتزج صوت الجندي والأديب، ويشتركان في مهمة الكتابة:
  • هل جربت مواجهة الموت؟
  • الحياة كلها كفاح، وليس الجندي وحده الذي يكافح.

وسط هذه التداعيات ترد لوحات منتقاة من جمال طبيعة اليمن المتنوعة التي تشعل حماسة زملاء الرحلة؛ فيصرخ أحدهم بأنّها "سويسرا.. لبنان.. حلم الخيال"، ولكنّها اليومَ لا ترشدك إلى حيث كانت مملكة سبأ التي منحت البشرية مثالًا للرقي، حدّ الرضا بحكم امرأة لا يزال كثيرٌ من مشرّعي عصرنا لا يعتقدون بأهليتها للحكم!

أين مملكة سبأ؟ وحلم الخيال؟

سؤال ضاع في ظلام المدن وصمت طرقاتها وخوف أهلها من قادم الأيام ومجهولها...

•••
د. حاتم الصكر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English