صرخة بالقرب من الكارثة

جهات كثيرة تترصّد الجوعى في كل زاوية
د. أحمد سنان
February 23, 2024

صرخة بالقرب من الكارثة

جهات كثيرة تترصّد الجوعى في كل زاوية
د. أحمد سنان
February 23, 2024
الصورة لـ: حمزة مصطفى

في يناير/ كانون الثاني الماضي، قضى طفل بريطاني جوعًا بجوار جثة والده الذي يُعتقَد بأنه توفِّي بسبب نوبة قلبية. هذه الحادثة تحولت إلى صدمة أصابت الرأي العام البريطاني، ووجّهت الاتهامات لجهات عدة بالإهمال في أداء الواجب. اتُّهِمت الشرطة، واتُّهِمت الخدمات الاجتماعية، وأُحِيلت ملابسات الحادثة للقضاء الذي ينتظر نتائج التحقيق.

هكذا تتصرف مؤسسات الدولة؛ هناك مسؤولية ملقاة على شخص أو جهة ولم يقم بها، الطبيعي هنا أن يتحمل مسؤولية تقصيره وإهماله، لأنّ المسؤولية تقتضي المساءلة، أي وجود ذلك الشخص في ذلك الموقع لم يكن مكافأة بل تكليفًا، له مميزات كما له متطلبات وواجبات. ويبدو أنّ هذه القضية ستظل تؤرق وسائل الإعلام والرأي العام فترة طويلة، وربما تُطوِّل تداعياتها الحملات الانتخابية المقبلة.

مثل هذه الأمور في مجتمعنا تعتبر عادية جدًّا، وربما تحدث يوميًّا؛ يموت أشخاص من الجوع على قارعة الطريق وفي بيوتهم دون أن يشعر بهم أحد. وهي تحدث لا محالة في الأوضاع الطبيعية حينما يظن البعض أن الأمور مستقرة. عندنا لا توجد جهة مخولة قانونًا بتحسس أحوال الناس، ولكن توجد جهات كثيرة تترصدهم في كل زاوية.

في يناير/ كانون الثاني الفارط، تُوفِّيَت واحدة من أكاديميات جامعة عدن، في شقتها بالمعلا. لم يعرف أحد بالواقعة إلا بعد أن انبعثت رائحة الموت من الشقة. الجامعة لم تفتقد المحاضِرةَ التي أفنت ثلاثين عامًا من عمرها في ردهات وقاعات كلية التربية في عدن. الجامعة لم تقصر بحقّها طبعًا؛ فقد بعثت ببرقية عزاء!

يقال إنّ وضعية جثة الدكتورة طاهرة عيسى، تدل على أنها كانت تحاول الاستنجاد بجيرانها ولم تفلح. الجيران أنفسهم لم يشعروا بأي مسؤولية حيال جارتهم، وهي مسؤولية دينية وأخلاقية وإنسانية، قال رسول الله: "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيوَرِّثه"، تلك أمة قد خلت بقِيَمها، ويبدو أننا فقدناها دون رجعة. 

يأتي المشكل الاقتصادي كحصاد مرّ لفكرة الحرب الخاطفة التي تمدّدت زمنيًّا لتقترب من العقد، وانسلت خيوطها من بين أصابع التحالف، في لحظة تداخلت فيها كل الأجندات المحلية والإقليمية مع أجندات التحالف -التي لم تعد خفية- لتشكّل كرة متدحرجة من الأزمات المتولدة عن تناقضات النوايا والأهداف.

تبدو المسألة عادية في ظروف الحياة المدنية المعاصرة في كثير من الدول. لكن لدينا تجاوزَ الأمر هذه الحالات العادية عُرفًا، نحو تملص من ينصّب نفسه (في محل رفع الدولة)، من أبسط مسؤولياته الدستورية تجاه الموطن (بصرف النظر عن أصله وجنسه وملتحده ومنطقته وسلالته ومكانته). 

ذات صيف قائظ، تُوفِّيَ رجل متقاعد في أحد الطوابير وهو ينتظر أن تصرف له حسنة نهاية عمره الذي أفناه في خدمة دولة افتراضية لا تعتبره إلا رقمًا بين أرقام لا حصر لها، مرت الفاجعة مرور الكرام في شهر الصيام. لم يحتج إلا القليل بصوت خافت لا يكاد يسمعه أحد. قيل إنّ رئيس الحكومة لم يعلم بالحادث في حينه وإلا لكان وجّه بسجن كل المتسببين بتأخير رواتب الناس، ولكان قدّم استقالته وطاقمه شعورًا منه بهول الفاجعة، لكن، يا للأسف، لقد أصيب ليلتها بالتخمة بعد وجبة دسمة مرهقة، ولم يستطع ممارسة مهامه، وحفظ الله الحكومة من غضبه.

قبل أيام قلائل، قُتلت طفلة جائعة بانقلاب حاوية قمامة فوق جسدها الميت أصلًا، لربما شعرت الحاوية بالعطف على الطفلة ومستقبلها من مساوئ الجوع الذي لا يرحم، أو ربما أرادت أن تفضح زيف ادعاء (كل) السلطات وتناقض خطابها مع أفعالها حيال سهرها لخدمة المجتمع واحتياجاته والطفولة أولًا. لا يوجد تحقيق في الواقعة ولم تهتز لأحد شعرة. نحن شعب لا صاحب له.

كارثة الحصاد المُرّ 

الجوع ينهش الجميع إلا من تسعدهم السلطات بسَعةِ عطائها. تنعدم الرواتب أو تتأخر، وتضمحل قيمتها وتتلاشى أسباب البقاء من دون أن يفكر أيُّ ذي منصب بالكيفية التي بقيَ فيها الناس على قيد الحياة.

بعد صلاة الظهر، كنا نتهيَّأ لصلاة الجنازة، حينها هبَّ رجلٌ من الصف الأخير صارخًا بأعلى صوتٍ لديه، بأنه مستعد للتنازل عن أطفاله الأربعة لمن يستطيع أن يتكفل بإطعامهم، لم يعد بوسعه أن يطعمهم أو أن يوفر العلاج لأمهم التي تعاني مرضًا خبيثًا. هل من الممكن أن يدفع العوز بالإنسان للتخلي عن أبنائه؟ نعم، ممكن ذلك، عندما تتسلط عليه الذلة والمهانة ويكتمل المثلث بالفقر.

مؤخرًا، نُشِرت إحصائيات مخيفة للغاية عن أعداد المنتحرين في بعض مناطق البلاد، مؤشرات ظاهرة الانتحار مرتفعة في جميع مناطق البلاد، حتى ولو تم تجاهلها. والسبب الكامن والأكثر شيوعًا لهذه الظاهرة هو فقدان سبل العيش والأمل بتوفر فرصه على المدى القريب. بعض القوى تعزو حالات الانتحار في الغرب إلى غياب الوازع الديني، أما في حالتنا فقد ابتلعت ألسنتها؛ لأنها هي بالذات تمثّل سببًا رئيسيًّا لما يحدث.

الغرفة التجارية في عدن، هي الوحيدة من بين كل المؤسسات التي صرخت من سوء الحالة التي وصلت إليها البلاد. وهي الوحيدة التي خاطبت الفاعل الحقيقي لما يجري -التحالف- ولهذا لم تتوجّه بالخطاب للسلطات هنا وهناك. ذكرت غرفة تجارة عدن، قطبَي التحالف بأن هذا الشعب "أشقاؤكم"، ولذلك "تطلعكم" في محل تذكير، على الحالة التي صنعتموها بأيديكم المتمثلة بـ"تردٍّ مستمرّ للأوضاع المعيشية والاقتصادية الناتجة عن زيادة معدلات التضخم المتصاعد بنسب كبيرة، في مقابل التدهور المستمر في أسعار العملة".

تدهور العملة يبرز كوجه واحد لكائن خرافي متعدد الوجوه، يعبث بحياة الناس، تأتي الحرب كأكبر الوجوه "كلاحةً" في المشهد بالنسبة لنا، والأكثر خيبة بكل عناوينها بالنسبة للتحالف. 

ثم يأتي المشكل الاقتصادي كحصاد مُرّ لفكرة الحرب الخاطفة التي تمدّدت زمنيًّا لتقترب من العقد، وانسلّت خيوطها من بين أصابع التحالف، في لحظة تداخلت فيها كل الأجندات المحلية والإقليمية مع أجندات التحالف -التي لم تعد خفيّة-لتشكّل كرة متدحرجة من الأزمات المتولدة عن تناقضات النوايا والأهداف. 

يتبخر الدولار في مزادات دون أن يحقّق ما يعُلن عنه من أهداف، فبعد أول مزاد للعام الحالي فقدت العملة المحلية 20% من قيمتها، وهناك توجه لمزاد جديد سيلتهم 60 مليون دولار، وحتى لو تحقق تحسن طفيف، فإنه لن يدوم طويلًا؛ لا يمكن لـ(410 ملايين دولار) أن تنقذ ميزانية دولة.

قُرأت رسالة الغرفة التجارية إلى القيادات السعودية والإماراتية بطرق مختلفة، حسب زاوية الرؤية التي يقف عليها أصحاب تلك القراءات؛ بعضهم رأى فيها استنجاد وتوسل للدولتين بمعالجة الأمر المبني للمجهول الذي تشكّلَ في البلاد عقب تدخلهما العسكري، بينما قرأها بعضٌ آخر على أنها شكوى مريرة ضد لوبي الفساد المتأصل الذي عجز عن إنجاز أقل القليل، خاصة في الملف الاقتصادي، وظلّ الاقتصاد يتجه نحو الكارثة. تقول الرسالة بصورة لا لبس فيها: "إننا في الغرفة التجارية والصناعية، إذ نتابع بحزن وألم كبيرَين ما آلت إليه الأوضاع وما لحق بالمواطنين من فقر وجوع وبؤس، وصل للحد الذي لم يعد معه معظم السكان قادرين على تأمين حاجتهم من الغذاء، واقتصار الكثير من الأسر على وجبة واحدة في اليوم، لا تكاد تسد الرمق"، وباعتبار أصحاب رؤوس الأموال أكثر دراية بما يمكن أن يقود إليه تدهور الحياة الاقتصادية من تداعيات، فهم يعبرون عن مشاعر "القلق لتبعات الوضع الحالي، الذي سيقود حتمًا للكثير من الكوارث والاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، التي باتت وشيكة وبدأت بعضها تلوح في الأفق، وهو تطور خطير لا يمكن التنبؤ بتبعاته وانعكاساته". وهذه العبارة الأخيرة هي لبّ الرسالة، أما البقية فهي جمل فارغة بالنظر إلى المغزى الفعلي للخطاب، وهنا تتجلى الدعوة للسعودية والإمارات بإصلاح ما أُفسد قبل فوات الأوان.

أين تذهب النقود؟

بصراحة الرسالة تعتبر من وجهة نظرنا، صحيفة اتهام واضحة بالفشل الذريع في إدارة الملف الاقتصادي، الذي تصدّت له كلٌّ من السعودية والإمارات، يماثل تمامًا الفشل العسكري والأمني. والسؤال الذي يغري المتابع بطرحه يكمن في: "لماذا لم تتمكن الدولتان من البرهنة للمواطن أنّ حضورهما في البلاد يشكّل بديلًا أفضل له؟ هل كان تناقض أهداف الدولتين سببًا في تولد تلك الحالة؟ أو أنّ الأمر كان مقصودًا منذ البداية بخلق وضع مضطرب من جميع النواحي ما يجعل الاستقرار مطلبًا مستحيلًا بما يمكّن الدولتين من تحقيق أهداف خاصة بعيدًا عن أعين الناس المنشغلة بهمها اليومي؟".

تتدهور قيمة العملة يوميًّا (كأنه أمر ممنهج)، ويفتقد البنك المركزي للسيولة النقدية بالعملة المحلية على الرغم من الطبعات المهولة على المكشوف. هنالك حلقة مفقودة تضلّ النقودُ فيها طريقَها إلى البنك المركزي؛ أين تذهب النقود؟ لا يستطيع البنك ولا السلطات مجتمعة الإجابة على السؤال.

يتبخر الدولار في مزادات دون أن يحقّق ما يُعلن عنه من أهداف، فبعد أول مزاد للعام الحالي، فقدَت العملة المحلية 20% من قيمتها، وهناك توجه لمزاد جديد سيلتهم 60 مليون دولار، وحتى لو تحقّقَ تحسُّن طفيف، فإنه لن يدوم طويلًا؛ لا يمكن لـ(410 ملايين دولار) أن تنقذ ميزانية دولة. من جهة أخرى، يتفاقم تلف العملة القديمة وشحها يوميًّا، وربما تفقد قدرتها الاستعمالية قريبًا مع غياب البدائل المنطقية القادرة على إسناد الاقتصاد المتهالك. 

إنّ المؤشرات السعرية هي الفيصل في تحديد قيمة العملة، فلن يستفيد المواطن من ثبات العملة في ظل حركة متسارعة في المؤشر السعري. فإذا تحسن مؤشر الريال أمام الدولار أو أي عملة أخرى، بينما لم تستقر الأسعار، فإن ذلك المؤشر زائف بالضرورة. من الآخِر: ردم أو حفر بعض البيارات، وطلاء بعض الجدران ليس له علاقة بإعادة الإعمار أو إنعاش الاقتصاد.

•••
د. أحمد سنان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English