الدولة المستحيلة في اليمن

العصبية تزداد توحشًا في مواجهتها
د. أحمد سنان
March 30, 2024

الدولة المستحيلة في اليمن

العصبية تزداد توحشًا في مواجهتها
د. أحمد سنان
March 30, 2024
.

إنّ القارئ لابن خلدون، اليومَ، لا يسَعه إلا أن يفغر فاه دهشةً ورعبًا؛ أمّا الدهشة فتأتي من عمق تحليله لطبيعة القبيلة في وحشيتها وفي خمولها وخوفها، وأما الرعب ففي أنّنا الآن ونحن نقرأ تحليله لا نجد إلا فارقًا ضئيلًا في العصبيات بين ما كان في عهده وما هو كائن اليومَ، اللهم إلا من حيث تغيُّر وسائل العيش وسبلها.

ينقل لنا ابن خلدون رؤى فلسفية عن ماهية الدولة والكيفية الافتراضية لها؛ فعن الموبذان بهرام بن بهرام وهو ينصح الملك: "أيها المَلِك! إن الْمُلك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرب وجعل له قيمًا وهو الملك".

ويأتي بما يشابهه من كلام أنوشروان: "الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العمال، وإصلاح العمال باستقامة الوزراء، ورأس الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه واقتداره على تأديبها حتى يملكها ولا تملكه".

وفي معرض مناقشته لما نقل عن "الكتاب المنسوب لأرسطو في السياسة المتداول بين الناس"، فيوجد "جزء صالح منه، إلا أنه غير مستوفٍ ولا معطى حقه من البراهين ومختلط بغيره، وقد أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات التي نقلناها عن الموبذان وأنوشروان وجعلها في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها هو قوله: العالم بستان، سياجه الدولة، الدولة سلطان تحيا به السنة، السنة سياسة يسوسها المَلِك. المُلْكُ نظامٌ يعضده الجند، الجند أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيد يكنفهم العدل، العدل مألوف وبه قوام العالم، العالم بستان، ثم ترجع إلى أول الكلام. فهذه ثماني كلمات حكمية سياسية ارتبط بعضُها ببعض وارتدت أعجازها على صدورها".

إذن، هذه هي العناصر الأهم في بناء أيّ دولة في عصر ابن خلدون، والعصور التي عاش فيها أرسطو والموبذان وأنوشروان، وهي تقريبًا تمثلت الدولة ببدائيتها على التوالي في التطور.

لكن في ظل وضع يتساوق فيه ضعف الدولة مع ضعف احتمال وحدة العصبيات المتناقضة في عصبية كبرى واحدة يفترضها ابن خلدون، فإنّ كل عصبية تسعى لقضم ما تستطيع لنفسها على حساب الدولة المتهالكة. وما دمنا نفترض في عصرنا هذا أنّ العصبيات لم تعُد محتكرة في شخص القبيلة بل قد تكون في شخص الطائفة أو الجماعة، فإن أي عصبية إذا تمكنت من التغلب في محيطها "طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها".

والمُلك برأي ابن خلدون -أو السلطة بلغة العصر الراهن- هي "الغاية التي تجري إليها العصبية"، وبالعصبية وفقًا لمنظوره "تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه"، ذلك أنّ "الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون متغلبًا عليهم بتلك العصبية وإلا لم تتم قدرته على ذلك، وهذا التغلب هو الملك، وهو أمر زائد على الرئاسة؛ لأنّ الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع، وليس لـه عليهم قهر في أحكامه، وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر".

فقدان عصبية الدولة

حالة العصبية هذه بالذات، هي ما نعايشه أمس واليوم بصور مختلفة، وربما متناقضة، من حيث المسلك، ولكنها متناغمة جوهريًّا من حيث الهدف والغاية.

يمكن إيراد أمثلة لا تحصى عن مظاهر هذه العصبية منذ اليوم الأول لظهور الحركة الثورية والتحررية في اليمن وحتى اليوم، وهي بدلًا من أن تتوارى لصالح استقرار الدولة، إذا بها تزيد توحشًا في مواجهة الأخيرة. عندما تتجرأ القبيلة أو المنطقة أو الجماعة باعتبارها عصبيات محمولة بمصالح لا تنتهي، لتفرض رؤيتها على (الملك) الحاكم، فهي تعمل ذلك لإحساسها بأن الوهن يعتري هذا الحاكم؛ إما بسبب فساده وإخفاقه أو بسبب فساد عماله الذين أثقلوا عليه ولم يعد بمقدوره السيطرة عليهم.

وإذا تأكّد إحساس القبيلة أو المنطقة أو الجماعة، فلن تكف عن مطالبها؛ ذلك لأن "صاحب العصبية إذا بلغَ رتبةً، طلب ما فوقها". وما فوقها في الحالة الراهنة هي السلطة، وهي رتبة السيادة على الآخرين؛ لأنه بواسطتها يجد "السبيل إلى التغلب والقهر"، و"القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة، فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها، تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى...".

لكن في ظلّ وضع يتساوق فيه ضعف الدولة مع ضعف احتمال وحدة العصبيات المتناقضة في عصبية كبرى واحدة يفترضها ابن خلدون، فإن كل عصبية تسعى لقضم ما تستطيع لنفسها على حساب الدولة المتهالكة. وما دمنا نفترض في عصرنا هذا أنّ العصبيات لم تعُد محتكرة في شخص القبيلة بل قد تكون في شخص الطائفة أو الجماعة، فإن أي عصبية إذا تمكنت من التغلب في محيطها "طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها، فإن كافأتها أو مانعتها كانوا أقتالًا وأنظارًا، ولكل واحدة منهما التغلب على حوزتها وقومها"، وهذا "شأن القبائل والأمم المتفرقة في العالم". صعوبة المسألة اليومَ، تكمن في أنّ العصبيات الراهنة وإن تمكنت من الغلبة على خصومها، فإنها لن تسير وفق القانون الخلدوني القاضي بالتحامها بالعصبيات المغلوبة لتشكل وحدة واحدة، بل على العكس، فإنها بدلًا من ذلك تزيدها إذلالًا في كل مرة تزداد هي قوة.

وهي في الوقت الذي تنتصر فيه وتضاعف قوتها، تطلب "غاية من التغلب والتحكم أعلى من الغاية الأولى وأبعد، وهكذا دائمًا حتى تكافئ بقوتها قوة الدولة، فإن أدركت الدولة في هرمها ولم يكن لها ممانع من أولياء الدولة وأهل العصبيات، استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها، وصار الملك أجمع لها". 

ولكن بحسب ابن خلدون، "إن انتهت قوتها ولم يقارن ذلك هرم الدولة، وإنما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات انتظمتها الدولة في أوليائها تستظهر بها على ما يعنُّ من مقاصدها"، في الحال التي نعيشها، من المستحيل حدوث ذلك، والأقرب للظنّ أنّ العصبيات هي التي ستمحي ما بقي من مظاهر للدولة.

السعي الحثيث للعصبيات لمحو مفهوم الدولة، ليس وفقًا للمعايير العصرية، بل وللمعايير البدائية، يبرز جليًّا في تصرفات محددة وملموسة. لقد أصبحت هذه العصبيات تقدم نفسها نقيضًا فوق الدولة من خلال تعميم أعرافها ومسلكياتها، وليس فقط على واحدة من أهم رموز المدنية في المنطقة، لتحيلها إلى نموذج لامتهان المدينة ومكانتها وتحويلها إلى مجرد تابع إلى النقطة التي تتقدم العصبية المدينة وتصبح دليلها للمستقبل الآتي من الماضي.

غيرُ مقبولٍ لأي دولة تكمن عصبيتها في مؤسساتها القضائية وأدوات الإكراه وهرمية المسؤولية، أن تقبل بأن تقتحم قبيلة أو جماعة أو عُصبة عرينها، مهما كانت المبررات ولا تقبل أن تحتكم لرغبات العصبيات الخارجية وأعرافها مهما كانت مثاليتها، أو حتى عدالتها أن تحلّ بديلًا عن القانون والقاضي.

عندما تتحول العصبيات إلى جهة تحكيم في هيكل الدولة، فإنّ هذه الدولة تكون قد فقدت مبرر وجودها؛ لأنّ وجودها دون هيبتها يجعل العدم أفضل الخيارات، خاصة لأولئك الذين اعتادوا العيش في ظل عصبية الدولة. وعصبية الدولة المعاصرة هي العدل المستقر في الميزان المنصوب. ولا يمكن تصور دولة معاصرة بدون ذلك الميزان مهما مالت كفته، فعندما تفقد الدولة ميزانها لا بدّ أن يأتي صاحب عصبية بميزانه المحمول على نصب وهمي وكفة ممهورة بالعدم.

تغادر القبيلة مرابعها البعيدة لغزو المدينة، وتفرض قناعتها وأعرافها حتى على ما يفترض أنه مؤسسة محكومة بنصوص مكتوبة، وتصير المدينة نفسها إلى مجرد قرية في قبضة شيخها المستحكم على كل رقبة. أنت بالتأكيد تشهد أن الدولة فقدت عصبيتها (القانون والقضاء والجند وغيرها)؛ لأنّها صارت إلى المذلة، وانقادت لعصبيات أخرى، "ذلك أنّ المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها"، فإذا تيقنّا من حدوث ذلك فقد عجزت الدولة "عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزًا عن المقاومة والمطالبة". 

الحاضرة المعنية وهي مثال للحياة المدنية لعصور بحكم تركيبتها السكانية المتنوعة والمختلطة، حيث لا يجتمع الناس على عصبية الدم والقربى، ولكن على عصبية العيش المشترك والانتظام المؤسسي لشؤون الحياة اليومية- في هذه الحاضرة التي سبقت نصف العالم في مدنيتها، لم يعُد غريبًا أن تجد مسؤولي الدولة يحتكمون في شأن مؤسساتهم أمام شيخ قبَلي قادم من العصور السحيقة بلباس عصري مهيب، وأغرب ما يجري أن تشدّ القبيلة أو المنطقة أو الجماعة الرحالَ نحو الحاضرة لتعطيل حكم قانون أو لحماية جانٍ، وتنصب الخيام وسط المدينة لتهدر دماء الأثوار والعدالة معًا.

هذه الحاضرة ليست استثناء فيما يخص هذا الأمر عن باقي الحواضر، ولكن استثنائيتها تكمن في مدنيتها الضاربة الجذور. كم شهدنا تمردات عصبية كثيرة على أحكام قضائية يمكن الطعن فيها داخل أورقة القضاء نفسه، وإنما التمرد على القضاء هو كراهة له ورغبة للحلول محله في نظر المنازعات بصرف النظر عن نوعيتها وطبيعتها، يتحول المواطن بموجب ذلك إلى هدف لكل العصبيات القادمة.

الاستقواء بالماضي

غيرُ مقبولٍ لأيّ دولة تكمن عصبيتها في مؤسساتها القضائية وأدوات الإكراه وهرمية المسؤولية، أن تقبل بأن تقتحم قبيلة أو جماعة أو عُصبة عرينَها مهما كانت المبررات، ولا تقبل أن تحتكم لرغبات العصبيات الخارجية وأعرافها مهما كانت مثاليتها، أو حتى عدالتها أن تحل بديلًا عن القانون والقاضي. والدولة المحترمة لا تحتكم خارج ما سنته وتسنه من قوانين وتشريعات. تضارب المصالح بين مؤسسات الدولة أو ممثليها يجب ألَّا يكون مدعاة لتحركات العصبيات المختلفة لمساندة ممثلها في تلك المؤسسة، فالشخص -وإن كان ينتمي للقبيلة أو للعصبة- هو في نهاية المطاف موظف دولة تحت وصايتها وخارج وصاية القبيلة. وضع القبيلة الطبيعي تحت وصاية الدولة، ومن غير الممكن أن تشبّ عنها. المسؤول الفاشل يحتاج دائمًا لمن يسدد بعده ويدافع عن فشله؛ ولهذا ليس من الغريب أن يستقوي بقبيلته ومنطقته وجماعته ضد (الدولة) كلما عَنَّ عائقٌ أمامه أو برز فشله للعيان. 

هي دولة مستحيلة تلك التي تستدعي الماضي بدلًا من المستقبل.

•••
د. أحمد سنان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English