من الهشاشة إلى اقتصاد الحرب

اليمنيون لا يترصّدهم الجوع فقط
سامي عبدالرحمن
February 26, 2024

من الهشاشة إلى اقتصاد الحرب

اليمنيون لا يترصّدهم الجوع فقط
سامي عبدالرحمن
February 26, 2024
الصورة لـ: شهدي الصوفي

يقول نبيل المغلس (49 عامًا)، الذي يعمل معلِّمًا في إحدى مدارس العاصمة صنعاء: "كنت أعيش براحة مع عائلتي، أنتمي إلى الطبقة الوسطى، وحياتي كانت مستقرة قبل بدء الحرب. ومع الحرب وانقطاع المرتب، تغيرت حياتي تمامًا لدرجة أنني قمت ببيع أغلب ممتلكاتي بسبب الظروف القاسية، وها أنا أبحث عن عمل يمكنه تأمين قوت يومي واحتياجات عائلتي، لكن كل الفرص صارت محدودة للغاية، فالحرب قادت إلى تدهور الاقتصاد وانهيار الأعمال التي كانت أملنا الوحيد".

ينتمي نبيل لشريحة واسعة من الموظفين، كانت تعرف فيما مضى بالطبقة الوسطى، التي تحولت فجأة وبسبب حالة الحرب، من مستوى معيشي مستقر نوعًا ما، يخوض فيه المنتمي إليها معركته الشهرية لتلبية حاجيات أسرته الأساسية بشيء من السلاسة، إلى طبقة فقيرة عنوانها العوز. الإنسان الذي كان في يومٍ ما مستور الحال يبني أحلامًا لمستقبله ومستقبل أبنائه، صارت معركته الأساسية اليوم، هي كيفية توفير أساسيات البقاء على قيد الحياة من مأكل ومشرب وملبس.

منذ بداية الحرب، تعرض الاقتصاد اليمني لتدهورٍ أدّى إلى استنزاف كل الاحتياطي النقدي في البنك المركزي، وأدّى نقله، من صنعاء إلى عدن، إلى انقسام النظام المالي وزيادة التعقيدات في الحياة الاقتصادية اليومية للمواطن البسيط. واليوم لا توجد سياسات مالية ونقدية موحدة، تساعد في تخفيف الصعوبات التي يواجهها السكان.

الخسائر لم تقتصر فقط على الاقتصاد، بل امتدت أيضًا لتحصد الأرواح البشرية، ووفقًا لتقرير من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإنّ الحرب تسبّبت في مقتل ما لا يقل عن 377 ألف شخص بطريقة مباشرة وغير مباشرة. وإن فقدان الموارد البشرية له تأثير كارثي على المجتمع اليمني، حيث يتم استخدام الشباب كوقود للحرب. إنّ غياب هذه الفئة العمرية الإنتاجية يشكّل عبئًا اقتصاديًّا هائلًا على الدولة والمجتمع.

الحرب وتأثيرها الكارثي على اليمن

تعيش اليمن وضعًا اقتصاديًّا صعبًا نتيجة للحرب التي ألحقت أضرارًا جسيمة بالبنية التحتية والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية، يمكن تقسيم هذه الأضرار إلى قسمين، هما: الأضرار المباشرة، وتكلفة التعطيل.

فيما يتعلق بالأضرار المباشرة، تم استخدام مقومات الاقتصاد اليمني بشكل بدائي واستهلاكها بواسطة القوى المسيطرة على الأرض. وقد تم تدمير الكثير من الأصول الاقتصادية، سواء كانت عامة أو خاصة. لا توجد معايير واضحة لتقييم الأداء الاقتصادي في هذا الوضع الجديد، لكن الأوضح هو تراجع النشاط الاقتصادي بشكل كبير، بسبب الحصار والتدمير الذي تعرضت له البنية التحتية والمؤسسات.

تشير بعض التقديرات الاقتصادية إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي اليمني بنسبة 55.7% خلال السنوات 2015-2021. وقد تكبد الاقتصاد اليمني خسائر تتراوح بين 170 و200 مليار دولار في هذه الحرب، بينما تتراوح خسائر الحروب في دول أخرى في المنطقة بين 6-15% فقط من الناتج المحلي. تعود زيادة خسائر اليمن إلى الحصار الذي فرضه التحالف العربي، واستخدام أطراف النزاع مواردَ الطاقة في نزاعهم.

أما بالنسبة لتكلفة التعطيل، فقد توقفت العديد من القطاعات الاقتصادية والخدمية عن العمل، كليًّا أو جزئيًّا، بسبب الحرب وغياب الأمن ونقص الكوادر البشرية وموارد الطاقة. وتعرضت العديد من المصانع والمنشآت للقصف والتدمير، مما أدّى إلى توقف الإنتاج. يُذكر أنّ اليمن فقَدَ نحو 4 مليارات دولار من صادراته التي تعتمد على النفط.

يوضح من جانبه، رشيد الحداد: "أثّرت الحرب على الاقتصاد اليمني، سواء على المجتمع أو المواطن اليمني، بشكل كبير جدًّا، وظهرت تبعاته واضحة بتدهور الأوضاع الإنسانية، سواء في المناطق الواقعة تحت تأثير حكومة صنعاء أو حكومة عدن، فمعدل دخل المواطن اليمني تراجعَ بأكثر من نسبة 53%، وفقًا للتقديرات الرسمية نتيجة الحرب، وانعدمت فرص الأعمال وتضاءلت، نتيجة تراجع معدلات الاستثمارات، المحلية كانت أو الخارجية". 

ويضيف الحداد: "الوضع الاقتصادي قبل الحرب كان متدهورًا، وكانت الاضطرابات السياسية تؤثر بشكل مباشر على الأداء الاقتصادي، وازداد سوءًا في سنوات الحرب، وهو اليوم، في ظل حالة اللاحرب واللاسلم، أكثرُ قتامة، إذ لا وجود لمؤشرات حتى الآن فيما يتعلق بإنهاء حالة العقاب الجماعي على موظفي الدولة، فما يقارب 800 ألف من موظفي الدولة لا يتقاضون رواتبهم وهي مصدر دخلهم الأساسي، بالإضافة إلى أنّ تداعيات الحرب أدّت إلى انقسام مالي بين حكومة صنعاء وعدن، وتسبّب ذلك في انقسام العملة والسياسة النقدية، وتشتت للجهود الاقتصادية، وانعكست بشكل سلبي على المجتمع، فالمواطن من يدفع ثمن الحرب، وخاصة الطبقة الفقيرة والمعدمة، ولا ننسى أنّ الطبقة الوسطى التي كانت ركيزة أساسية تبدلت، إن لم نقل تآكلت، بسبب الحرب".

الاقتصاد اليمني اليوم يعاني من تدهور في البنية التحتية والعملة المحلية، إضافة إلى توقف البرامج الاقتصادية وغياب السياسات المالية والنقدية. 

استغلال الصراع لتحقيق مكاسب اقتصادية

منذ اندلاع الحرب، اعتمدت البلاد بشكل شبه كامل على ثلاثة مصادر خارجية رئيسية لتأمين تدفقات العملات الأجنبية وتحفيز النشاط الاقتصادي. ومن بين هذه المصادر، المساعدات الإنسانية الأجنبية، والدعم المالي الإقليمي، والتحويلات المالية من المغتربين اليمنيين. وهذه الأخيرة هي الأهم، حيث يعمل معظم المغتربين اليمنيين في السعودية ودول الخليج أخرى. ويعدّ هذا التحول الأولَ في الاقتصاد اليمني، ليصبح اقتصاد حرب.

اقتصاد الحرب يعبّر ببساطة عن استمرار النشاط الاقتصادي بوسائل أخرى، حيث تستخدم المجموعات المتقاتلة كل الفرص والأدوات المتاحة لها لكسب المال، بغض النظر عن أخلاقية هذه الأساليب. وعادة ما تلجأ السلطات الحاكمة في الدولة إلى إجراءات اقتصادية قاسية لسد العجز في الميزانية العامة، وزيادة الإنفاق العسكري. وكلاهما يستند إلى الاحتيال على قوانين الاقتصاد الطبيعي.

في اليمن، يواجه اقتصاد الحرب العديدَ من التحديات، مثل: الفساد المالي والإداري، ونقص الكفاءات، والمحسوبية، وانحسار الصادرات، ومع إدارة الاقتصاد الحربي تزايدت هذه المشكلات، حيث تفتقد النزاهة والمساءلة، ويُنفِّذ الصفقات المشبوهة أشخاصٌ يهدفون إلى الاستفادة الشخصية والثراء على حساب الحرب.

تشير البيانات التي تم جمعها من مصادر مختلفة في اليمن، إلى أنّ الأطراف السياسية الرئيسية في المناطق التي تفتقر إلى الشرعية أو غير قادرة على ممارستها، تتولى فيها جهاتٌ فاعلة تقليدية (مثل زعماء القبائل) وظائفَ الدولة، مثل: جباية الضرائب، وتنظيم البنية التحتية، وتوفير الرعاية الصحية.

وعادة ما تعمل منظمات المجتمع المدني جنبًا إلى جنب مع المنظمات الدولية التي تسعى إلى تقديم المساعدة في هذه المناطق، حيث يمكن للمجتمع المدني التعبئة على الأرض من خلال تجنيد السكان المحليين والوصول إلى المناطق النائية. ومع ذلك، تواجه منظمات المجتمع المدني صعوبات في التعامل مع السلطات التقليدية، حيث يعتبرون أذرعًا لقوى أجنبية ويواجهون رفضًا وعراقيل متعددة. وتتعرض المساعدات للتلاعب والقيود من قبل الفاعلين السياسيين في تلك المناطق. وتؤدّي هذه الأوضاع غير المستدامة إلى دفع منظمات الإغاثة رشاوى أو ضرائب، وغالبًا ما تُباع المساعدات في الأسواق السوداء. وعادةً ما تُستخدَم الأموال التي يتم جنيها من بيع المساعدات، لتمويل العمليات المسلحة ورواتب المقاتلين وتجنيد الأطفال في الحروب والصراعات العبثية.

تشير التحقيقات التي أجرتها وكالة أسوشيتد برس (AP)، إلى تلاعب الحوثيين بالمساعدات، حيث يُعدّون من أكبر الفاعلين السياسيين في اليمن، ويعملون بشكل رئيسي كميليشيات مسلحة في المناطق الشمالية الغربية. وتوضح الوثائق التي حصلت عليها وكالة أسوشيتد برس، أنّ الحوثيّين يحاولون عرقلة مهام الوصول والمراقبة أثناء تنفيذ العديد من إجراءات التقييد.

انتقال الاقتصاد اليمني من اقتصاد هش وضعيف إلى اقتصاد حرب، سيكون له تبعاته في مرحلة ما بعد الحرب؛ أي مرحلة التسوية السياسية التي تستوجب أن يتجه تفكير الجماعات والأطراف المؤثرة إلى كيفية إعادة تنظيمه وتخليصه من هذه التبعات.

موارد شحيحة وكثافة سكانية

ويعلق على ذلك، دكتور العلوم السياسية في جامعة صنعاء، ناصر الطويل: "في اليمن، الموارد محدودة للغاية، يقابلها كثافة سكانية عالية، وهذه إحدى العوامل الأساسية التي تحرك الأوضاع باتجاه الصراع، أي إنّ هناك تأثيرًا متبادلًا بين الاقتصاد والحرب والصراع، فقلة الموارد وكثافة السكان تخلق حالة من عدم الاستقرار والاضطراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهذا أخذ البلاد من طور إلى طور، حتى أوصلها إلى الصراع القائم، وفي الوقت نفسه الصراع أحال هيكلة الاقتصاد إلى ما يسمى باقتصاد الحرب". 

ويضيف: "الحصول على الموارد وتوظيفها يرتبط ارتباطًا كاملًا بالصراع وأطرافه وغاياته، وإذا لاحظنا فإنه منذ 2015، تم إعادة بناء الاقتصاد اليمني، ما جعله اقتصاد حرب بامتياز، ففي المناطق الحوثية، تُجمع الموارد كلّها بشكل كبير، وتوجه نحو الصراع لتحقيق أهداف الجماعة، ويحدث الأمر نفسه في سلطة الحكومة المعترف بها، في التدخلات الاقتصادية من قبل دولتَي التحالف، وأصبح المستفيد من الاقتصاد في الوضع الحالي، هم من يرتبطون بالصراع وأطرافه". 

وينهي حديثه بقوله: "انتقال الاقتصاد اليمني من اقتصاد هش وضعيف إلى اقتصاد حرب، سيكون له تبعاته في مرحلة ما بعد الحرب؛ أي مرحلة التسوية السياسية، بمعنى أن تستوجب المرحلة ضرورةَ أن يتجه تفكير الجماعات والأطراف المؤثرة في الشأن اليمني، إلى كيفية إعادة تنظيم الاقتصاد اليمني وتخليصه من هذه التبعات".

ختامًا، يبدو أنّ أيّ تسوية سياسية شاملة ستكون محملة بأعباء الوضع الاقتصادي الكارثي، الذي خلفته سنوات الحرب بكل مآلاتها وتداعياتها، وقبل ذلك عقود من الفساد المؤسسي، ولعل أكثر ما يدل على أن واقعًا اقتصاديًّا معقدًا يزيد من تعقيد المشهد العام في مفاوضات الحل السياسي الشامل، هو التعثر الحاصل في المفاوضات الجارية حاليًّا برعاية دولية وإقليمية، حيث يقف حجر عثرة أمام أي تقدم فيها، الإجراءاتُ والقرارات الاقتصادية العاجلة والمقترحة من الأطراف المتفاوضة، واللازم اتخاذها خطوات مصاحبة لأي تفاهمات سياسية تنهي حالة الانقسام والحرب.

ليبقى الهدف الأساسي السامي لأية حلول شاملة فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي اليمني، هو محاولة إعادته إلى وضعه شبه الطبيعي ما قبل الحرب، بصفته اقتصاد دولة قائم على مؤسسات قابلة للإصلاح والتطوير، ويبقى تحقيق ذلك الهدف رهينًا بتغيير في خارطة الوضع بشكل عام على كافة المستويات، لصالح حكومة قوية تكون انعكاسًا لحلحلة حقيقية للمشاكل الاجتماعية والسياسية العميقة، وتمثل كافة شرائح المجتمع اليمني، وتسيطر على كافة المنافذ والموانئ في البلاد، وتتخذ فيها القرارات المصيرية مركزيًّا، مع مراعاة واقع سياسي واجتماعي جديد، توزع فيه المهام والسلطات على الأقاليم بما يحفظ بقاء هوية الدولة اليمنية الواحدة. 

المراجع:

 https://unctad.org/system/files/official-document/ld[9]Salisbury- 

 Salisbury, Peter. Yemen’s Economy: Oil, Imports and Elites. Chatham House, 2011. p 6 

   https://democraticac.de/?p=51726#_ftn9

- مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، خطة الاستجابة الإنسانية الطارئة لليمن 2018، يناير/ كانون الثاني 2018، ص 4، (تاريخ الدخول: 2 أغسطس/ آب 2018): http://ye.one.un.org/content/dam/unct/yemen/docs/unct-ye-YHRP-doc-2018-Ar.pdf 

- إصدارات وزارة التخطيط والتعاون الدولي، نشرة المستجدات الاقتصادية والاجتماعية، تقرير، (العدد 34، يونيو/ حزيران 2018)، ص (2-3).

 - Ballentine, Karen, and HeikoNitzschke. “The political economy of civil war and conflict transformation.”Berghof Research Center for Constructive Conflict Management, Berlin. At:http: //bit.ly/2kbtsWB 

 - ALIX CULBERTSON “FOREIGN AID FARCE: Millions siphoned off by Yemen government from desperate civilians”, Oct 8, 2016, Sunday Express, available at:http://bit.ly/2CARQpF, [Accessed 18 December 2017]. 

•••
سامي عبدالرحمن

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English