الوجه الآخر للحرب

كيف تقبَّل المجتمع أدوارًا للنساء لم يكن يقبل بها؟
بلقيس العبدلي
June 22, 2023

الوجه الآخر للحرب

كيف تقبَّل المجتمع أدوارًا للنساء لم يكن يقبل بها؟
بلقيس العبدلي
June 22, 2023
خيوط

"أنا اسمي سالي، لكنّي لم أرَ في حياتي يومًا ساليًا"؛ هكذا أجابتني الفتاة التي تقف في منتصف الطريق الأسفلتي المؤدّي إلى عددٍ من قرى مديرية ماوية بمحافظة تعز، عندما سألتها عن اسمها وكانت تبيع المياه المعدنية للعابرين، وقد عرفت منها لاحقًا أنّها نزحت وأسرتها إلى مديرية ماوية بعد أن فقدوا منزلهم الذي تركه والدها المتوفَّى بسبب اندلاع الحرب مطلع العام 2015، حيث وفّر لهم أقاربهم غرفة صغيرة للسكن ثم ساعدهم أهالي القرية في توفير الماء والطعام. شعرت سالي -كما تقول- بالمسؤولية تجاه وضع أسرتها البائس، فقررت ابنة التاسعة عشرة البحثَ عن عمل، ذهبت إلى دكان القرية، وهناك رهنت هاتفها لتأخذ كرتونَي ماء، وعلى رأسها نقلتهما إلى الطريق الأسفلتي وبدأت ببيعهما، تقول سالي: "كدت أطير فرحًا؛ إذ بعت الكمية كلها قبل الظهيرة وذهبت لأستردّ هاتفي وأسدّد ثمن الماء إلى البائع الذي تعاون معي فيما بعد، وأصبح يبيعه لي بالآجل، كما أنّني عملت كثيرًا على طمأنة والدتي التي كانت غير موافقة على عملي بسبب خوفها عليّ، لكن خوفها تلاشى نوعًا ما، بعد أن تعرضتُ لمضايقات من الشباب الذين كانوا يتعمّدون الجلوس مقابل مكان عملي كل صباح ويتبادلون التعليقات حولي، وبعد تغيير مكاني مرتين لأتحاشاهم، اضطررت في الثالثة إلى إبلاغ شيخ المنطقة الذي وقف إلى جانبي ومنعهم من الجلوس هناك، وبلغني أنني في حمايته".

تمثّل سالي نموذجًا لعددٍ كبير من النساء في اليمن، تغيرت أدوارهن الاجتماعية بسبب الحرب، في بلد تقول التقارير الدولية إنّ عدد نازحيه تجاوز أربعة ملايين نازح (1)، تصل نسبة النساء والأطفال منهم إلى 77%(2)، ففي كثير من المدن اليمنية فقدَ الرجال وظائفهم في القطاع الخاص، بينما توقف دفع رواتب موظفي القطاع العام بصورة منتظمة منذ العام 2018(3)، والتحق آخرون بالجبهات؛ ما دفع بالنساء إلى تحمل أعباء إضافية حفاظًا على تماسك أسرهن، تقول أسماء: "كان زوجي يعمل مديرًا ماليًّا في إحدى الشركات الخاصة، وكان وضعنا المعيشي جيدًا، لكننا كنّا نبحث عن مشروع خاص خوفًا من تقلبات الأوضاع الاقتصادية، وبالفعل قمت ببيع ما أملك من ذهب، بينما أخذ زوجي قرضًا من عمله وفتحنا محلًّا تجاريًّا، لكن شحة الطلب في السوق دفعتنا إلى إغلاقه".

تضيف: "منذ العام 2014، فتحت وزوجي سبعة مشاريع؛ ستة منها بائت بالفشل، وآخِرها كان سوبر ماركت كبيرًا فتحناه في منطقة حديثة الإنشاء. وفي اللحظة التي بدأ العمل فيه، أُقيل زوجي من عمله لأسباب تتعلق بتدهور الوضع الاقتصادي، فأصيب بالاكتئاب وظلّ لما يقرب من العامين حبيس المنزل، وقررت حينها أن أقف إلى جواره، وبالفعل بدأت بالتواصل مع الموردين والعملاء، والإشراف على الموظفين والعمّال في السوبر ماركت؛ لأنّه أصبح مصدر رزقنا الوحيد، ثم نجحت في إقناعه بالبحث عن عمل آخر خارج اليمن، واليوم بدأ زوجي العمل كمحاسب في إحدى الشركات الكبرى في السعودية، وها أنا أعرض مشروعنا للبيع، لألتحق به كما طلب".

رغم الصورة القاتمة التي تعرض حال النساء والفتيات في اليمن كمتضررات من الحرب، فإنّ للحرب وجهًا آخر دفع بالمجتمع اليمني طواعية لتقبل أدوار اجتماعية جديدة للنساء في اليمن، لم يكن ليتقبلها لولا الظروف التي أنتجتها الحرب، والتي أظهرت حاجة الرجل إلى عملها جنبًا إلى جنب معه، كصانعة ومتخذة للقرار، وليس فقط كمنفذ له.

تركز التقارير الدولية منذ بدء الحرب في اليمن، على وضع النساء كمتضررات من الحرب، ويشير المؤشر العالمي للفجوة بين الجنسين الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أنّ اليمن تحتل المرتبة الـ155 من 165 دولة في مؤشر الفجوة في المساواة بين الجنسين(4)، كما تشير التقارير الدولية إلى تزايد معدلات العنف القائم على النوع الاجتماعي بتزايد وتيرة الصراع، من نسبة 36 في المئة في عام 2016، لتصبح 66 في المئة خلال العام عام 2017 (5)، بينما تبلغ نسبة المشاركة العامة للنساء في القيادات الإدارية العليا 4.1 في المئة مع مشاركات متدنية في مجال بناء السلام على المستويين المحلي والوطني(6).

لكن رغم الصورة القاتمة التي تعرض حال النساء والفتيات في اليمن، كمتضررات من الحرب، فإنّ للحرب وجهًا آخر دفع بالمجتمع اليمني طواعية لتقبل أدوار اجتماعية جديدة للنساء في اليمن، لم يكن ليتقبلها لولا الظروف التي أنتجتها الحرب، والتي أظهرت حاجة الرجل إلى عملها جنبًا إلى جنب معه، كصانعة ومتخذة للقرار وليس فقط كمنفذ له، فأعالت النساء أسرهن، وتحمّلن الكثير من القرارات الاقتصادية والاجتماعية في مواجهة تباعات الحرب، وشغلن وظائف لم يكن لها قبول اجتماعي واسع من قبل، حيث عملت النساء كنادلات في المطاعم وبائعات للأكلات الشعبية في الأسواق العامة، وفتحن مشاريع خاصة ومحالًّا تجارية مختلفة لخياطة الملابس والتجميل والتصوير وتعهد المناسبات والأفراح، بالإضافة إلى فتحهن مشاريع نوعية كالمقاهي والمطاعم ومحال إصلاح الجوالات والتي تعد بعضها مختلطة، وليست مخصصة للنساء فحسب، بل وفي فترة الحرب فازت امرأة لأول مرة في اليمن بمناقصة لرصف وشق طريق في مديرية جبل حبشي بمحافظة تعز، لتكسر بذلك احتكار الرجال لمجال المقاولات(7)، ومن خلال عملي مع المجتمعات المحلية، أكاد أجزم أنّ من بين كل خمس أسر في اليمن هناك أسرة على الأقل تُعيلها امرأة، وبالرغم من أنّ عددًا ليس بالقليل من مجالات عمل النساء خلال الحرب كانت موجودة قبلها، فإنّ عمل النساء انتشر وحقّق قَبولًا مجتمعيًّا واسعًا أثناء الحرب، كما أنّ اتجاه النساء للمشاريع الصغيرة بات ملحوظًا بصورة لافتة، وربما يرجع ذلك إلى ارتفاع نسبة الأمية بين النساء في اليمن، حيث تبلغ 65 في المئة، وفق تقرير (الإسكوا) 2010(8)، كما أنّ ظروف الاقتصاد اليمني المتدهورة لا تسمح بمزيد من وظائف القطاع الخاص أو العام. بالإضافة إلى ذلك، قادت النساء في اليمن، خطوطَ العمل الإنساني الأمامية، حيث تشير التقارير إلى أنّ عدد النساء العاملات والموظفات ضمن طواقم العمل الإنساني أكثر بكثير من الرجال في اليمن(9)، ذاك أنّ عمل هذه الطواقم يحتك بشكل مباشر بالنساء في المجتمعات المحلية أكثر من احتكاكه بالرجال، نتيجة غيابهم عن المنزل للأسباب آنفة الذكر، أو لكون النساء هن الأكثر قدرة على تحديد متطلبات الحياة اليومية وأولوياتها، ممّا يجعل عمل النساء أيضًا في هذا المجال مقبولًا ويحظى بتأييد مجتمعي واسع.

تكمن أهمية تسليط الضوء على تغيّر الأدوار الاجتماعية للنساء خلال مرحلة الحرب في اليمن، في استحداث آليات واستراتيجيات فاعلة لعمل منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية الهادفة لشراكة نسوية أكثر فعالية.

تعد الثقافةُ المجتمعية في اليمن الأسرةَ نظامَ الحماية الأول، وتعد رعاية الذكور من الأقارب كالأب أو الزوج أو الأخ وغيرهم، نظام حماية أسري ومجتمعي يحافظ على النساء ويسهم في الدفاع عنهن من أي مخاطر، في دولة هشة تخضع للأحكام القبَلية والعُرفية أكثر من خضوعها للقانون؛ وبناء على ذلك، يمكن أن تكون تلك الثقافة مبررًا لتغير أدوار النساء اليمنيات إبَّان مرحلة الحرب بموافقة بل ودعم أهاليهن، فمعظم، إنْ لم تكن كل هذه الأدوار، تغيّرت في إطار المجتمعات المحلية الصغيرة كالقرى والمحلات والحارات والمديريات، ممّا يؤكّد أنّ المجتمع اليمني يتقبّل أدوارًا مختلفة للنساء، لكن في ظلّ نظام حماية يثق فيه ويتناسب مع عاداته وتقاليده، بالإضافة إلى أنّ النساء في المجتمعات المحلية الصغيرة لهن حضور فاعل على مستوى أسرهن أو مجتمعاتهن قبل الحرب؛ بالتالي استمرّ القبول المجتمعي لأدوارهن بعد الحرب، وإن تغيرت تلك الأدوار.

تكمن أهمية تسليط الضوء على تغيّر الأدوار الاجتماعية للنساء خلال مرحلة الحرب في اليمن، في استحداث آليات واستراتيجيات فاعلة لعمل منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية الهادفة لشراكة نسوية أكثر فعالية، حيث تعد برامج إشراك النساء وحقوقهن تحديدًا برامج حساسة لارتباطها بمفاهيم دينية كثيرة، ولتجذرها في الوعي الجمعي كبرامج تمس عادات وتقاليد راسخة، ولكونها أيضًا برامج قد تؤثر في البنُى الاجتماعية لأيّ مجتمع على المدى الطويل، بل وقد تؤدّي إلى نتائج عكسية في حالة عدم تحسسها للثقافة المجتمعية، فتدفع المجتمع إلى مزيد من حرمان النساء والفتيات من حقوقهن تشبُّثًا بالعادات والتقاليد المجتمعية، ممّا يؤثر على إدماجهن في الحياة بشكل عام، لذا أظنّ أنّ نهج انتزاع القوانين لفرض حقوق النساء في مجتمع كاليمن، بمعزل عن نهج البناء من الداخل ورقع الوعي المجتمعي، قد يزيد من الفجوة بين المجتمعات المحلية ومنظمات المجتمع المدني، ويفقد ثقة تلك المجتمعات بالمجتمع المدني عمومًا، ويؤجج حالات العِداء غير الواعي بين النساء والرجال، ممّا يقود إلى دورات متتالية من العنف القائم على النوع الاجتماعي، لأنّ المعالجات تلامس آثار المشكلة لا أسبابها الجذرية، فحتى تلك النصوص التي تكفل حقوقًا مقبولة نوعًا ما للنساء في القانون اليمني(10)، ظلت لسنوات قوانين شكلية تم تجميدها بقوة العرف المجتمعي، ولسنوات عدة غُلّبت قوة العُرف على قوة القانون، فأصبحت الأعراف سارية لا القوانين.

من المهم أن تقف المنظمات المحلية والدولية وكافة الجهات المعنية بالمشاركة الفاعلة للنساء، عند تغير أدوار النساء خلال مرحلة الحرب مطولًا، لتستوعب استراتيجيات العمل الأكثر جدوى في المجتمع اليمني، ممّا يسهم في تحقيق شراكة فاعلة للنساء في عملية بناء السلام والتنمية بتأييد مجتمعي واسع يدعم ويساند النساء على أداء أدوار قيادية على كافة المستويات، وفي اعتقادي أنّ هناك عددًا ضخمًا من النساء في اليمن أيضًا لا يحبذن انتزاع حقوقهن من أسرهن بالقانون إلا في لحظات التقاضي، بل يفضلن تلك الحقوق، التي وإن دافعن عنها، أن تظل حقوقًا محمية بهم وبرضاهم وبإرادة واعية منهم، فقد نُعمت النساء في اليمن بحماية الأب والأخ وأولاد العمومة، قبل أن يدركن معنى القوانين وحمايتها، وربما لا حقوق توازي عضوية الفرد في أسرته ومجتمعه، فأيّ قانون يمنح النساء حقًّا لينتزع منهن تلك العضوية، ربما سيصبحن هن أول من يقفن ضده؛ لذا يعد كسب التأييد المجتمعي لأدوار نسوية فاعلة إشارة إلى تغير وعي المجتمع إيجابًا تجاه شراكة النساء، وليس قَبولًا بهذا الدور فحسب، فعادة ما تكون مواقف الأشخاص مؤثرة على سلوكياتهم؛ وبالتالي من المهم البناء على تغير الوعي هذا واستثماره في تفعيل الأدوار التشاركية بين الرجال والنساء مستقبلًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- اليمن: الأمم المتحدة تقول إنّ عدد النازحين في اليمن بلغ أكثر من 4 ملايين شخص. يمن فيوتشر، 22 يونيو 2022. https://yemenfuture.net/news/8875 

 2- اليمن: النزوح والعنف ثنائي يطارد النساء، يمن فيوتشر، 27 أكتوبر 2022. https://yemenfuture.net/researches/11311 

3 - اليمن: تداعيات الحرب على القوى العاملة من النساء، د. فوزية العمار، وهانا باتشيت، مركز صنعاء للدراسات، 23 يوليو 2019.  https://sanaacenter.org/ar/publications-all/main-publications-ar/7723 

4- المساواة بين الجنسين، المشروع الإنمائي للأمم المتحدة. https://www.undp.org/ar/yemen/%D8%A7%D9% 

 5- المرجع السابق.

6- المرجع السابق.

7- زبيدة اللحجي تكسر احتكار الرجال للمقاولات، نبض، 26 أبريل 2023. https://nabd.com/s/118669595- 

 8 - تقرير دولي: نسبة الأمية بين نساء اليمن 65%. مأرب برس، 21 مارس 2021. https://marebpress.org/news_details.php?sid=23603 

 9- اليمن: تداعيات الحرب على القوى العاملة من النساء (مرجع سابق). https://sanaacenter.org/ar/publications-all/main-publications-ar/7723 

10- هبة محمد، صوت الأمل، قوانين تكفل حق المرأة اليمنية في التعليم رغم الفجوة النوعية. https://sawt- alamal.net/2022/11/29/%D9%82% 

•••
بلقيس العبدلي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English