النساء من منظور سرديّ في اليمن

كل امرأة تنام على بحيرة من القصص!
عبير اليوسفي
March 8, 2023

النساء من منظور سرديّ في اليمن

كل امرأة تنام على بحيرة من القصص!
عبير اليوسفي
March 8, 2023

كتب مروان الغفوري، أثناء مراسلته لبطلته إيمان في رواية "جدائل صعدة"، أنّ "كلّ امرأة في اليمن تنام على بحيرة من القصص". وفي مجموعته القصصية "الشراشف" وجّه الكاتب محمد الغربي عمران إهداءَه "إلى المرأة شلال العطاء وجرح الإنسان". 

حين امتهنت النساء الكتابة، سخّرن أقلامهن لنقل صور الاضطهاد الذي تعيشه المرأة بشكل عام. ومنذ أن وُجِدَ الأدب النسويّ، وجدت تلك القضايا طريقها للطرح بكل جرأة وشفافية دون تكميم. فكيف كان الأدب الروائي بشخصياته النسائية جبهة النساء للدفاع عن قضاياهن دون وصاية أو تضييق؟

في اليمن، تعاني النساء من ثقل الواقع الذي يجعلها تتعثّر بعاداته وتقاليده والدين والقبيلة؛ كون المجتمع يرى أنها "مكلف"، وقد يطول الأمد بها وهي مسلوبة الحقّ والحرية، محرومة التعليم، ومجبرة على الزواج دون تخيير، بجانب زواج القاصرات منهن، المستمرّ حتى يومنا هذا. ورغم أنّ بعضهن استطعن الحصول على كافة الحقوق، فإنّ ثمّة شريحةً من نساء اليوم في المدن والريف، تواجه الحرمان وانتزاع حقوقها. 

قد يُنتج الاصطدام الدائم بين قضايا النساء والمجتمع، بيئةً خصبة للكتابة عنه في الأعمال الروائية، وينشأ عن تلك الكتابة الإبداعية نضالٌ يتولد مع الشخصيات النسائية، فمن بطلة الرهينة (الشريفة حفصة) المحبوسة في قصور الإمام والتي تحاول الهروب من عالمها، إلى المرأة الريفية في القرى، وحتى نساء مجتمع المهمشين في (طعم أسود.. رائحة سوداء) لعلي المقري. 

جاءت إذن، الأعمال الروائية اليمنية لتمرر عبر الأدب -الممثّل الدائم للإنسانية- الكثيرَ من الأصوات النسوية المضطهدة والمهمشة في محاولة لإنصافهن واسترداد حقّهن ولتشرع الحديث عن تلك القصص والقضايا التي يسعى المجتمع لدفنها تحت مسمى "العار"، عن طريق شخصياته التي تحاكي الواقع.

عند استعراض النماذج للشخصيات النسائية التي قدّمتها بعض أعمال سرد يمنية، تجد مجريات المجتمع النسوي ومواضيعه. 

في العام 1970، أصدرت الكاتبة الراحلة رمزية عباس الإرياني في تعز، روايتها الرائدة (ضحية الجشع)، التي طرقت باكرًا فيها لموضوع اضطهاد المرأة، ففتحت الباب واسعًا لعديدٍ من الكاتبات، للخوض في هذا المضمار الشائك. 

بعد أربعة عقود من رواية ضحية الجشع، قدّمت الكاتبة نادية الكوكباني في أعمالها الروائية، ذلك المجتمع عبر مختلف الشخصيات، فنرى الزوجة والأخت والابنة والمثقفة والمناضلة. وفي روايتها (عقيلات)، قد تشعّبت في تناولها لقضايا النساء في اليمن، بَدءًا من التعليم ثم الزواج والعمل، واستغلال النساء الموجود في المجتمع. في البَدءِ أهدت الروائيّة عملَها إلى كلِّ صوتٍ نسائيّ طلب منها أن تكتبه بمنتهى الحرية، فكانت روايتها عن الصوت الذي يمتلك قضية. من تلك القصص تكوّنت شخصيات بطلاتها، "روضة" الشخصية الرئيسية؛ امرأة مطلقة ولديها ابنتان وولد، يبدأ ظهورها على عتبة باب صديقتها "جود" التي تستقبلها ليومين في منزلها. تصف لنا روضة ليل صنعاء الموحش "كمسلخ للأرواح"، أثناء إقامتها في منزل صديقتها، تضع "جود" أمامها مفكرة تحمل اسم "عقيلات" والتي تضمّ حكايات لفتيات تتشابه معاناتهن. ومن هنا يبدأ مشوار مواجهة السلطة الذكورية، وموروث المجتمع، وقيوده المضطهِدة. تواجه روضة التي خرجت من سيطرة زوجها بعد طلاقها، لتعود لتعسُّف والدها الذي يرفض بقاء طفلها بحضانتها؛ كونه "لن يربي ابن الناس"، فتحرم من طفلها وبناتها اللاتي وقعن أيضًا ضحية سوء معاملة من والدهن. ترى روضة أنّ والدها كان عادلًا أمام زوجها الذي حرم بناتها من التعليم، فيما كان والدها الذي سمح لها بإكمال تعليمها يرى أنّ "التعليم الجامعي للزمن الغادر وللظروف التي لا نعرف عنها شيئًا، لا للوظيفة ومزاحمة الرجال!". 

نجحت نادية عن طريق شخصية روضة، في تناولها عدّةَ قضايا مهمة، منها الإجراءات المتعلقة بصحة المرأة، وطلب إذن الزوج عند حاجة الزوجة لتدخل جراحي، وسوء المعاملة التي تتعرّض لها الزوجة، وحرمانها من رؤية أبنائها. ثم الطلاق الذي يحمّل المجتمعُ المرأةَ مسؤوليته ويحيلها إلى "نكرة". جميع ما تعرّضت له روضة تتعرّض له النساء باستمرار، ورغم محاولاتهن النجاةَ من شعور الحاجة والنقص، فإنّ البيئة المحاطة بهن تستمرّ في جعلهن تابعات بحاجة للرجل دومًا.

بالمقابل، نجد الروائية نبيلة الزبير، مختلفة في نماذجها النسائية والتطرق لقضاياهن، فقد قدّمت نموذجًا جريئًا ومستقلًّا، كما في عملها الروائي "زوج حذاء لعائشة". 

"الدعارة" كان الملف الذي تستند عليه الرواية، والذي مثّل زمنها فترة التسعينيات. حاولت الروائية نصرة النساء المنبوذات في مسألتها، وكون قضيتهن من المحظورات التي يرفض المجتمع التعامل معها ويراها كـ"عار يجب غسله"، والتغاضي عن الفساد السياسيّ المتفشّي فيه. قدّمت نبيلة نموذجًا للمرأة "العاهرة" في عدة صور؛ الأولى، بعد أن أعلنت توبتها، تتزوج "زينب" بطارق إمام الجامع الملتزم والمتزوج بثلاث نساء، وأثناء محاولاتها نسيان ماضيها والبدء من جديد، نرى الزوج الذي لا يعجبه كثرة "الغلو في التوبة"، فهو يغريه ماضيها السابق، ويصرّ على تذكريها به. تظهر شخصية "نشوى" شقيقة طارق، التي تنشأ مدللة لوالدها الثري، وتكون شاهدة على فساده وفحشه، فتمضي هي الأخرى في طريق العهر. فيما "رجاء" صديقة زينب، تجبرها الظروف التي تعيشها، على أن تمضي فيه لأجل عائلتها. تجد الشخصية التي تحمل اسم الرواية "عائشة"، تظهر عن طريق رجاء لتسلط الضوء على وضع السجينات، فعائشة فتاة ماتت أمّها أثناء ولادتها في السجن.

أظهرت الزبير بطلاتها زينب ورجاء ونشوى، ليمثلن ضحايا ثقافة مجتمع ذكوري، يقتصر نظره في جسد المرأة، ويواصل استغلالها الجنسيّ لمصلحته، ليجعل من "الدعارة" تجارة، يساعده فساد منظومة الحكومة، وتورط كبار الشخصيات السياسية.

لم يقف دومًا الأدب في صف المرأة، فقد يتأثر بتوجهات كاتبه ونظرته لها، قد ينصفها وقد يقصيها، كما نجد في بعض الأعمال الأدبية، وقد يظهرها بشخصية تابعة هشَّة وضعيفة. لكن من ناحية أخرى، نقلَ لنا الأدب رؤية المجتمع الذكوري للمرأة وتعامله معها، ورغم أنّ الفراغ في إنتاج الأدب النسوي لم يمتلئ بعدُ بالأعمال التي تمثّل المرأة اليمنية كما ينبغي له، لكنه لم يختفِ بشكلٍ كليّ.

لا يقتصر التطرق لمواضيع النساء على الروائيات فقط، فثمة أعمال روائيين تطرقوا لها كما نقرأ في أعمال الكاتب محمد الغربي عمران، ووجدي الأهدل، وحبيب عبدالرب سروري، والروائي علي المقري وبطلاته الأكثر جرأة وتحديًا للمجتمع واللاتي يثرن الجدل حولهن، خصوصًا في رواية "حرمة" حين يدع النساء يستولين على مهمة السرد؛ فهنّ الراويات الضمنيات المسهمات في الحدث واللواتي يعانين الجور، وتلاحقهن مفردة "الحريم" و"حرمة". وهو ما يعكس نظرة المجتمع للمرأة، ويكشف خطابه المتّسم بالإقصاء بصدد مكانتها ودورها الاجتماعي، فهي شيء محرّم، يبدأ منها وبها التحريم، كما يذهب إلى ذلك د. حاتم الصكر.

لكنّه استطاع إلى حدٍّ ما، أن يجعل من أعماله ساحةً لاكتشاف وضع المرأة المهمشة. في روايته (طعم أسود.. رائحة سوداء)، نجده قد تناول في الصفحات الأولى تأثير التصنيف الطبقي للمجتمع على المرأة، باحتقارها ومواجهتها لمصير الموت في قضية الزنا واجتماع أهالي القرية للاتفاق على تطبيق الأحكام الشرعية عليها، رغم اختلال بعض الشروط، فماتت أولى بطلاته "جمالة" رجمًا حتى الموت وهي حامل.

وفي جدائل صعدة، اختار مروان الغفوري أن ينقل لنا قصة بطلته إيمان التي تغادر منطقتها صعدة بعد أن كبر بطنها، إلى صنعاء لتبدأ من هناك في سرد حكايتها على الكاتب. تمثّل إيمان المرأة الريفية التي ترجم بالخطيئة من أهالي قريتها وهي براء منها، لتنتقل بعدها للعيش في صنعاء. كانت تعيش داخل قرية لا توجد بها مدرسة حكومية واحدة، توقف التعليم فيها بعد مغادرة المدرس، وتخوض حروبها العدة بفخر، حروب أكلت قلوب الأمهات من الفقد. نشأت إيمان كطفلة على محاولات تغذيتها بالعدائية تجاه كل ما هو مختلف عنها، وتمثّل لها بهيئة "عدو"، بدأ ذلك من إصرار والدتها على قطع علاقتها بجارتها العجوز اليهودية "شمعة" لاختلاف الدين، ثم منعها من التعليم كون المرأة كما تقول "خُلقت لتخدم، الله لم يخلق المرأة للكتب". نجد إيمان قد سردت تفاصيل حكايتها، حتى وصلت لصديقتها صفية المرأة الهاشمية التي تتمسك بعقيدة أنّ الناس ليسوا سواسية، لكنها تقع في حب "يحيى الوهابي"، يخالفها المذهب وتتخبط في حيرتها؛ إن كان يحبها أم لا، مع علمها بأنّ أسرتها لن تسمح بالزواج بسبب الاختلاف بينهما، تنتهي حكاية هذا الحب باختفائه إلى الأبد. نجح مروان في عرض مأساة تعيشها النساء في قرية مسورة بعقائدها الدينية وحروبها، فإيمان التي كاد أن يرجمها الجهل إلى الموت؛ كونها جلبت العار، لم يكن انتفاخ بطنها غير ورم متوحش يفترس داخلها، مثلما افترستها ألسنة أهالي القرية، لكن أنقذها حبّ أخيها وإيمانه بها. لا تغيب في الرواية قضية التصنيف الطبقي، وأن تولد المرأة هاشمية، يقول الغفوري: "هي آخر امرأة في العالم تعثر على الحب كما تريد"، كونه يُرفَض أي اختيار لها خارج سلالتها.

لم يقف دومًا الأدب في صف المرأة، فقد يتأثر بتوجهات كاتبه ونظرته لها، قد ينصفها وقد يقصيها كما نجد في بعض الأعمال الأدبية، وقد يظهرها بشخصية تابعة هشَّة وضعيفة. لكن من ناحية أخرى، نقلَ لنا الأدب رؤية المجتمع الذكوري للمرأة وتعامله معها، ورغم أنّ الفراغ في إنتاج الأدب النسوي لم يمتلئ بعد بالأعمال التي تمثّل المرأة اليمنية كما ينبغي له، لكنه لم يختفِ بشكلٍ كليّ. سعت كلّ تلك الأعمال المتواجدة، لمحاولة إظهار قصص المسلوبات والمقصيات من أبسط الحقوق، وقد تجد تشابه الشخصيات النسائية من عمل لآخر؛ ذلك لأنّ الظلم الواقع على المرأة ومواجهة ذات المصير، ما يزال موجودًا في مجتمع لم يألف إعطاءها كافة الحقوق.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English