آدميةٌ مهدورةٌ

على هامش الحياة في اليمن
عمار حسن
January 31, 2022

آدميةٌ مهدورةٌ

على هامش الحياة في اليمن
عمار حسن
January 31, 2022
Photo by: Ali Al-Sunaidar - © Khuyut

تظل الطبقية (الفئوية) تسيطر على العادات الاجتماعية في اليمن، وفُرض لأجل ذلك ما يشبه القوانين العُرفية الاجتماعية، والتي يُضمِر الجميع قداستها برغم الاستنكار العلني لذلك، حتى بعض أولئك المنادين بالمساواة الاجتماعية.

تواجه أكثر الفئات الاجتماعية تهميشًا -في اليمن- واقعًا متداخل التعقيدات؛ تتعمق معها مَظلمتهم الاجتماعية طرديًّا مع التقادم.

يتربع على قمة التهميش الاجتماعي في اليمن فئة ما تُعرف بـ"الأخدام"، وهي شريحة واسعة من ذوي البشرة السمراء أو السوداء، وتتوزع على كافة الجغرافية اليمنية.

في الوقت الذي عملت الكثير من دول الجوار -على رأسها الدول الخليجية- على إذابة الكثير من جبال الفوارق الاجتماعية مع ذوي البشرة السمراء، والعمل على تقديم مواطنة متساوية لهم، وإتاحة الحق والحماية لهم في التعليم، والحصول على الفرص الوظيفية بمستوياتها ودرجاتها المختلفة؛ حتى لتجدهم يملؤون النظر بنجوميتهم في الإعلام، والرياضة، والدين، والطب، والجيش، والأمن، ... وشتى الوظائف، والمناصب؛ حتى تلك المناصب العليا في الدولة، تجدهم في اليمن لم يحظوا بحق الحماية في الفرص التعليمية، في أدنى مستوياتها.

فرض المجتمع اليمني عزلة كاملة على هذه الفئة، إلى الحد الذي جعل الكثير يجهل عاداتهم ومناسباتهم، ويذهبون إلى حياكة القصص والأساطير حول هذا العالم المعزول، حتى إني سمعت أحد اليمنيين يقول: "لم نعرف أين يذهب الأخدام بموتاهم، ولم نشهد منذ ولدنا جنازة واحدة لهم"! فيرد عليه الآخر: "أعتقد أنهم يأكلون موتاهم"!

حجمَ التنمُّر والأذية التي واجهها مجموعة طلاب من فئة المهمشين (بعدد أصابع اليد الواحدة) من بقية زملائهم "القبائل"، وحين يشتكي أحدهم إلى المعلم، يكتفي المعلم -في الغالب- بنصيحته بمحاولة "عدم الزعل"، بينما يقهقه التلاميذ ساخرين من الشاكي

في الوقت الذي يتحاشى فيه أبناء هذه الفئة دعوة المجتمع إلى مشاركتهم في مناسباتهم؛ ليقينهم أن المجتمع اليمني يأنف من مشاركتهم، ويترفع عن الاهتمام بهم، وأن ذلك لا يعني أحدًا سوى أنفسهم، وأن أعراف المجتمع قد أسقطتهم من أرقامها.

وعند النظر إلى مواقعهم من الأنشطة الرسمية، أو المستقلة، لا نجد إلى الآن أي أنشطة حقيقية: رسمية، أو مجتمعية، أو حتى مبادرات فعلية لانتشال هذه الفئة من هذا المستوى الإنساني المؤسف، ومحاولة تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع، والاستفادة من طاقاتهم وقدراتهم لخدمة البلد- باستثناء الخدمات التي يتعالى المجتمع "القبائل" عن القيام بها (كتنظيف الشوارع والمحال التجارية، أو الحِمالة)، وحتى هاتان المهنتان لم توظفهم الدولة اليمنية فيها -بمختلف حكوماتها المتعاقبة- بشكل رسمي، إلا النادر منهم، أما البقية فيعمل إما بالتعاقد، أو بالأجر اليومي. ويأتي في أهم أسباب إقصاء هذه الفئة من الدرجات الوظيفية، عزوفُها بشكل جمعي عن التعليم؛ وذلك نتاج ممارسات مجتمعية تقلل من أهمية هذه الفئة وحقوقها، فإذا ما فكّر أحدهم -مثلًا ولدافع ذاتي- بالالتحاق بالمدرسة، فإنه لا ينجو من التنمُّر المجتمعي الذي يدفعه إلى ترك مقعده التعليمي في مراحله الأولى، في ظل عدم وجود قانون يجرم هذه الظاهرة، وإن كان هناك قانونٌ يكفل حق التعليم للجميع بشكل متساوٍ.

ما زلت أتذكر هنا -حين كنت في المراحل الابتدائية الأولى من المدرسة- حجمَ التنمُّر والأذية التي واجهها مجموعة طلاب من فئة المهمشين (بعدد أصابع اليد الواحدة) من بقية زملائهم "القبائل"، وحين يشتكي أحدهم إلى المعلم، يكتفي المعلم -في الغالب- بنصيحته بمحاولة "عدم الزعل"، بينما يقهقه التلاميذ ساخرين من الشاكي.

في ظهيرة يوم الثلاثاء الموافق 6 يوليو 2021، حدثت اشتباكات نارية في أحد أشهر الأسواق في مدنية المخاء (سوق الخُرج)، كان طرفاها فصائل مسلحة تتبع القوات المشتركة في الساحل الغربي، صاحَبَها إلقاء قنبلتين في وسط السوق، أسفرت الواقعة عن العديد من القتلى والجرحى بين هذه الفصائل، كما أسفرت عن مقتل مدني، وجرح ثلاثة على الأقل. يفيد بعض من كان حاضرًا أن بداية المشكلة كان تحرشًا بفتاة من فئة المهمشين، من قِبل أحد هؤلاء المسلحين، وحين عاب عليه مسلحٌ آخرُ فِعلَه، تطور الكلام بينهم إلى خلاف وصخب، ثم انتهى بهم الأمر إلى تسوية الخلاف بالأسلحة التي يحملونها، وهكذا تداعى أصدقاء كل طرف حتى أفضى الأمر إلى اشتباك دامٍ. والعجيب في هذا كله، أن حق الفتاة التي تم التحرش بها ضاع بطريقة غضّ الطرف، "وهي إلا خادمة"، حتى إن الشهود في الواقعة رفضوا اعتماد ذلك في شهاداتهم، تحت مبرر: "مش متأكدين"، رغم أن الجميع يتداول هذا السبب في اجتماعاتهم، ولقاءاتهم، والأعجب من هذا كله أن أمن مدينة المخاء، ذهب إلى أسهل الطرق وأقلها كلفة في الموضوع، وهي: منع المهمشين من دخول السوق! بدلًا من ضبط المنتهكين، وتحمل مسؤولية تأمين الأسواق من انفلات السلاح المتكرر.

هنا، ولأجلهم، تلزمنا مواقف أخلاقية، يتحمل الجميع -وفي مقدمتهم ناشطو حقوق الإنسان في اليمن- مسؤولية تبني قضيتهم بأهمية بالغة، على رأس القضايا الحقوقية والإنسانية، ولا سيما أنه قد بات يتنامى إلينا أن بعض أطراف النزاع في اليمن، وعلى رأسها جماعة أنصار الله (الحوثيين)، تحشد الأعداد الكبيرة من هذه الفئة للقتال في صفوفها؛ وبالتالي إحراق آدميّتهم المهدورة، والواقعة على هامش الحياة.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English