صوت العقل مُتهماً بالجنون

جدلية الحرب والانفصال: أول ثغرة في جدار الوحدة
فؤاد مسعد
May 23, 2023

صوت العقل مُتهماً بالجنون

جدلية الحرب والانفصال: أول ثغرة في جدار الوحدة
فؤاد مسعد
May 23, 2023

بعد مرور 33 سنة على إعلان الوحدة بين شطري اليمن في العام 1990، تبرز التحديات التي تهددها، وتهدد البلد بما هو أسوأ وأخطر من العودة إلى الوضع قبل الوحدة، بل إلى تمزيق اليمن إلى أجزاء صغيرة متناحرة، في ظل الحرب التي تدخل عامها التاسع دون أن تلوح في الأفق بوادر التوافق لإنهاء الصراع؛ وإذا كانت الحرب قد التهمت جانباً كبيراً من بنية الدولة والمكتسبات الوطنية التي تحققت خلال العقود الماضية، فإن الوحدة تبدو على رأس بنك الأهداف التي تترصدها حالة الانهيار والتمزق التي تسود البلاد منذ سنوات عديدة.

بيد أن المخاطر على الوحدة اليمنية لا تقتصر على المهددات المرتبطة بحالة الانهيار التي مهدت للحرب الراهنة ورافقتها، فقد سبق ذلك سلسلة من العوامل والجذور والأسباب التي أسقطت الوحدة اليمنية من مكانتها السامية التي كانت عليها، عندما كانت حلم الأجيال اليمنية وهدف النضال الوطني، وغاية الثورة ضد الاستبداد والاستعمار منذ أكثر من نصف قرن، فقد كانت الوحدة في طليعة أهداف القوى الوطنية التي شاركت في الثورة في شمال الوطن وفي جنوبه.

حيث أدت جملة من الأخطاء والممارسات التي ارتكبتها القوى السياسية الحاكمة إلى إدانة الوحدة – قيمة وفعلاً- من قبل قطاع واسع من المتضررين جراء تلك الممارسات، ومع إن الوحدة كان يمكن اعتبارها بريئة مما ارتُكب باسمها، إلا أن كون هذه الأخطاء والخطايا اقترنت بها – أو رافقتها ووقعت تحت لافتتها، فإن هذا كفيل بإدانتها وفق جزء من الشعب، كان هو الأكثر إيماناً بها، كما والأكثر حرصاً على تحقيقها والنضال في سبيلها.

لقد بدأت التحديات بعد تحقيق الوحدة بفترة قصيرة، عندما أثيرت جدلية الوحدة والأزمة التي أعقبتها، ومع إن الوحدة كانت حينها فوق مستوى الشبهات، إلا أن الأزمة التي اشتعلت بين شريكي الوحدة فتحت باباً لإثارة الجدل حول الوحدة وطريقة تحقيقها وآليات تطبيقها وفقاً للاتفاقات المعلنة وغير المعلنة بشأنها، ثم حلت في المشهد جدلية أخرى، إنها جدلية الحرب والانفصال، وكان طرفا اتفاق الوحدة يقفان على طرفي نقيض في هذه الإشكالية، أحدهما يرى أن الحرب كانت ضرورة لحماية الوحدة بعدما لاح شبح الانفصال، فيما قال الطرف الآخر إن إعلان الانفصال جاء ردة فعل على إعلان الحرب، أو بمعنى آخر إن الانفصال أعلن لكي يحمي جزءاً من اليمن من خطر الحرب.

 انقسمت القوى اليمنية بين موقفي الطرفين: الطرف الذي رأى أن الانفصال جريمة وخيانة، تهون الحرب من أجل مواجهته، وفي الجهة المقابلة الطرف الذي رأى أن الحرب هي الأخرى جريمة، يمكن أن يسهم الانفصال في التصدي لها والتخفيف من وطأتها.

ومن رحم هذا الجدل تخلق رأي جديد يبدو أكثر عقلانية وأقرب للمنطق، ومضمونه التنديد بالحرب ورفض الانفصال، وهو الرأي الذي بدأ بجملة مواقف لعدة شخصيات سياسية حزبية ومستقلة، لكنه قوبل بالرفض والتخوين من الطرفين، طرف الحرب رأى أن هذا الموقف يتماهى مع الانفصال، وطرف الانفصال اعتبر أن هذا الموقف ينطوي على التواطؤ مع الحرب والاصطفاف مع الطرف الذي قادها.

ومع ذلك توسع هذا الموقف وصار تياراً يضم سياسيين من أحزاب مختلفة، من أبرزهم الراحلان جار الله عمر- القيادي في الحزب الاشتراكي، ومحمد عبدالملك المتوكل- القيادي في اتحاد القوى الشعبية، وكان معهما أيضاً الدبلوماسي والمناضل الراحل/ محمد الرباعي، الذي دفع ثمن هذا الموقف – بأن تمت إقالته من منصبه سفيراً لليمن لدى هولندا، وكذلك محمد عبدالقدوس الوزير سفير اليمن في اليابان، حيث أقيل الاثنان من منصبيهما بسبب توقيعهما على رسالة تطالب بإيقاف الحرب، فجاء قرار الإقالة في نفس الليلة، مع إحالتهما للتقاعد وطردهما من السفارة.

وجدير بالذكر أن هذا الموقف تبلور أثناء الحرب، مما جلب لأصحابه المزيد من المتاعب، خاصة وأن الاتهامات طالتهم من الطرفين الرئيسيين، ولم تقتصر المتاعب على تلفيق الاتهامات لهم والإقالة من مناصبهم وأعمالهم، بل وصلت حد السعي لاغتيال بعضهم – كما حدث مع جار الله عمر الذي كان يقف على رأس هذا التيار مع رفيقه الدكتور محمد المتوكل، وقد أفرد جار الله لهذا الموقف وتلك المرحلة من الحرب جزءاً خاصاً من مذكراته، هو الفصل الحادي عشر، وعنوانه "مغادرة عدن ورفض الحرب والانفصال". (مذكرات جار الله عمر والصراع على السلطة والثروة في اليمن، حوار: ليزا ودين، تحرير: فواز طرابلسي، دار المدى، بيروت: لبنان).

لم يجد التيار هذا على عقلانيته ومنطقية مضامينه آذانا صاغية حينما كان الصوت الأعلى هو صوت الحرب والرصاص، إذ كان لسان حال الطرفين المتحاربين: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، أما بعد انتهاء الحرب فقد غدا الطرفان أكثر إصراراً على التمسك بموقفيهما، ومهاجمة كل من يقف موقفاً مغايراً، فالمنتصر كان يطالب هذا التيار بالانضمام إلى صفوفه بإدانة الانفصال فقط، والطرف المهزوم ظل مصراً على مطالبة هؤلاء بإدانة الحرب فقط، خاصة وأن أغلب المنضوين في هذا التيار محسوبون عليه وحلفاء له.

بدا موقف التيار العقلاني الرافض للحرب والانفصال- أو الطرف الثالث، معبراً عن جرأة وشجاعة سيما وأنه تبلور- كما ذكرنا- أثناء الحرب، وفي عاصمتي البلاد الرئيسيتين، صنعاء حيث كانت (الحرب المقدسة) تدق طبولها داعية للدفاع عن الوحدة، وعدن حيث كان الانفصال يعزف موسيقاه التي تحرض على القتال تحت رايته، في صنعاء أعلن الرئيس الحرب، ومن عدن أعلن نائبه الانفصال، لم تكن صنعاء تقبل أي نقاش لقرار الحرب أو يخضعه لمنطق العقل والسياسة، فضلاً عن رفضها أو التشكيك في شرعيتها، فيما لم تكن عدن تطيق من يشكك في واقعية إعلان الانفصال حتى لو كان يرفض الحرب ويعتبرها جريمة لا تغتفر.

بقي صوت العقل مُتهماً بالجنون، حين لم يشارك في حفلات النصر، كما لم ينخرط في بكائيات الثأر والهزيمة، وصارت قاعدته أكثر قوة واتساعاً وأبلغ مدى، وغدا يضم أحزابا وقوى عديدة، لكنه ظل بلا قوة تؤازره وتعضده فيما الحاكم المنتصر يحتكر كل قوة، قوة الفعل وقوة تهميش قوى السياسة والمجتمع وقوة إقصاء الشركاء والإطاحة بالحلفاء واستبدالهم، وفق قاعدته الأثيرة: اللعب على رؤوس الثعابين.

وضعت الحرب أوزارها، لكن بقيت آثارها شاخصة وشاهدة على تطرّف طرفيها، منتصر لم يعد يرى سوى النصر العظيم المؤزر، ومنهزم يعيش تحت وقع الهزيمة، باحثاً عن أسباب وأطراف يحملها مسؤولية هزيمته فوجد في التيار العقلاني ضالته،  وكذلك كان الطرف الأول يبحث عن خصم جديد بعدما قضى على خصمه عسكريا في الحرب، فلم يجد سوى الطرف الثالث الذي ظل محتفظاً بموقفه الرافض للحرب والانفصال، فشن عليه حربه النفسية والإعلامية والسياسية، ودفع هؤلاء الثمن مرة أخرى، اتهامات لا حصر لها، وتهديد ووعيد، فضلاً عن وصمهم بالخيانة والعمالة والتبعية لأجندات خارجية، وحمل هذا الموقف الرسمي تأكيدات على أن المنتصرين ليسوا في وارد مراجعة ما ألحقته الحرب من دمار وما أحدثته من آثار، ليس في كونها أقصت طرفاً أصيلاً في تحقيق الوحدة فحسب، ولكن في أنها دفعت بآلاف الموظفين والعسكريين والأمنيين خارج أعمالهم، تطاردهم لعنة الحرب والهزيمة.

كان الزمن يتسرب من تحت أقدام الجميع ومن أمام أعينهم، وكانت السنوات تتوالى وتبتعد عن اللحظة الزمنية التي تم فيها إعلان الوحدة، وتلك الأيام التي اشتعلت فيها الحرب، لكن الذكرى السنوية لكليهما كانت تمر كل سنة حاملة معها احتفال المنتصرين بالوحدة حين باتت ترفع علمها يدٌ واحدة لا يدان، بعدما بُترت اليد الأخرى حين لم يعد لها مكانٌ بين آلاف الأيادي التي كانت تصفق- لواحد توحد مع ذاته.

بقي صوت العقل مُتهماً بالجنون، حين لم يشارك في حفلات النصر، كما لم ينخرط في بكائيات الثأر والهزيمة، وصارت قاعدته أكثر قوة واتساعاً وأبلغ مدى، وغدا يضم أحزابا وقوى عديدة، لكنه ظل بلا قوة تؤازره وتعضده فيما الحاكم المنتصر يحتكر كل قوة، قوة الفعل وقوة تهميش قوى السياسة والمجتمع وقوة إقصاء الشركاء والإطاحة بالحلفاء واستبدالهم، وفق قاعدته الأثيرة: اللعب على رؤوس الثعابين.

 وفي الجهة المقابلة كانت الشكوى مما أحدثته الحرب تتوسع رأسياً وأفقياً، لتطال الوحدة فتدينها بما ارتكبته الحرب وما اقترفته السياسة، وحينما حاول النظام أن يصلح بعض ما أفسده كان بعض المعنيين قد شقوا طريقهم في الاتجاه المعاكس لدورة الزمن، حين لم يعودوا يجدون في السير صوب المستقبل ما يغري، أو أنهم وجدوا مستقبلهم الخاص في العودة بالزمن إلى الوراء، تحديداً إلى اللحظة التي سبقت إعلان الوحدة وقيام الجمهورية اليمنية. وفي يقين البعض أن العودة إلى ما قبل 33 سنة أقل كلفةً وأكثر عقلانية من العودة إلى ما قبل ستين سنة، في معرض النيل من الخيار الذي تبدو عليه جماعة الحوثي- بما هي النقيض الأبرز لثورة سبتمبر 1962 والنظام الجمهوري، سيما وأن الحوثيين في طريق عودتهم إلى الماضي ضاعفوا المعاناة جنوباً بحرب اجتياح لا تقل ضراوة عن الحرب السابقة، وفيما عدا مشروعي العودة إلى ما قبل الجمهورية والوحدة، لم يظهر في الزمن الراهن ما يشير إلى وجود رحلة أخرى – أو خط سير ثالث، يتجاوز الوضع الحاضر بمشاريعه وتحدياته، إلى المستقبل المنشود الذي تطلعت إليه أنظار اليمنيين منذ زمن بعيد.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English