حرب الحرب

في الاستثناء الصارخ للحرب اليمنية عن غيرها من حروب المنطقة
د. نجيب الورافي
March 16, 2021

حرب الحرب

في الاستثناء الصارخ للحرب اليمنية عن غيرها من حروب المنطقة
د. نجيب الورافي
March 16, 2021

 في أكثر من جبهة عسكرية تشتعل الحرب بمفهومها الحرفي والدقيق؛ حرب المتاريس والبارود والرصاص، وما لا يحصى من وسائل الموت وأدوات التدمير. حرب بين اليمنيين، وضحاياها يمنيون، ومكاسبها خسائر ومغانمها مغارم.

وفي المقابل، فإن حربًا من نوع مختلف تدور رحاها في قلب الحواضر؛ المدن والقرى والبيوت، بل ونفوس البشر على طول اليمن وعرضه، وهي انعكاس طبيعي ونتاج مؤكد للحرب المسلحة، مسلّمة بنيوية لا تقبل الشك أن يكون لكل حرب كهذه حربها أيضًا؛ حرب الجوع والفقر والمرض، حرب العبث والاستغلال والظلم والخوف والبغضاء والضغائن، فهي تطال النفوس مثلما تطال الحياة فتهلك الحرث والنسل.

حرب الحرب هذه إن جازت التسمية، لا تقِلّ فتكًا وتدميرًا عن الحرب المسلحة، بل هي الأكثر بشاعة؛ لأنها بلا أخلاق ولا تحكمها مواثيق ولا قيم. لا تفرق بين ضحاياها، فالكل بنظرها ضحايا وفرائس سهلة المنال، كما لا رقابة عليها. إذ تستأثر حرب الجبهات على اهتمامات الرأي العام العالمي والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، فيما الرأي العام الداخلي ليس بمنأى عن التجاذبات بين الأطراف، وما عدا ذلك من نشاط حقوقي إنساني وحراك سياسي وطني، فإنه مكبل محكوم بواقع الحرب خاضع لإملاءاتها وفي حكم المحظور والمحرم. فالحرب هي المبرر لما يقع على اليمنيين أيًّا كان سوء هذا الواقع وكارثيته، بل كأنما صار لزامًا الإيمان من الجميع به والدفاع عنه!

المجتمع المدني المسالم بكل أطيافه هو وقود هذه الحرب الخلفية الخفية، وضحيتها الأول والأخير. فكم تجرع مرارتها وذاق ويلاتها بصمت وصبر كبيرين أسهل ما يقال للصغير والكبير إننا نحارب، هذا إن لم يُخوّن أي صاحب صوت معارض ومنتقد، ويُتهم في وطنيته وانتمائه! تحولت ذريعة الحرب إلى سلطة قامعة تخرس الألسنة وتكمم الأفواه: لا صوت يعلو على صوت الحرب!

كل مرفق خدمي قد تآكل ومات بذريعة الحرب أيضًا؛ الصحة والتعليم والمياه والكهرباء، وما لا يحصى من مظاهر التهالك التي سادت وأصبحت نظامًا حياتيًّا بديلًا

ابتدأت كوارث الحرب مهولة ومرعبة، وما لبث أن تحولت بفعل الإكراه، إلى نسق اعتيادي مألوف! لطول أمد الحرب ساد منطقها الجائر، صار غير الطبيعي سليمًا وطبيعيًّا، وغير المنطقي منطقيًّا، والباطل حقًّا، والظلم عدلًا، والعبث والفوضى نظامًا، وصرنا جميعًا، الواقعين تحت مطرقة الحرب، مطالبين بالتكيف مع هذا الواقع. لم يعد يعني أحدًا ما يقع على الآخر من ويل وظلم وجور، مهما كان هوله وبشاعته! تحت مبرر الحرب تبررت فظائع وكوراث لا قبل للناس بها؛ فظائع تبتدئ بالمساس بالقوت اليومي والعيش الكفاف، وتنتهي بإزهاق أرواح البشر!

مضت ست سنوات والموظف اليمني بلا مرتبات، بل ومطالَب بأن يعمل بلا أجور! وجد هذا الموظف المقهور نفسه، وبغمضة عين، بلا استحقاق من أي نوع، وفي جحيم ما يعانيه من التزامات؛ مأكل ومشرب ومسكن وصحة. لم يجد من يمد إليه يدًا ليؤمن له شيئًا من ذلك، فلا دولة ضامنة ولا مؤسسات خدمية راعية! كل مرفق خدمي قد تآكل ومات بذريعة الحرب أيضًا؛ الصحة والتعليم والمياه والكهرباء، وما لا يحصى من مظاهر التهالك التي سادت وأصبحت نظامًا حياتيًّا بديلًا.

حروب كثيرة دارت في أقطار مجاورة كالعراق وسوريا وليبيا، إلا أنها لم تصل إلى حد الضرر المعاشي. فرغم ضراوتها وسوئها لم تتسبب في حرمان موظف من راتبه، ولم تقفل أبواب الحياة في وجوه الناس كما فعلت الحرب اليمنية. ما زالت تلك البلدان محتفظة بالحد الأدنى من أسباب العيش لمواطنيها في استحقاقات المواطنة، من أجور موظفين ومن خدمات السلع الأساسية والكهرباء والمياه والمشتقات النفطية. ومع أنه ليس في حرب قدوة ومثال، إلا أن حربنا في مضارها هي استثناء صارخ!

في أتون الحرب العسكرية، يعاني اليمنيون ويلات أخطبوط فوضى وفساد، وعبث وانعدام قانون، واحتكار واستغلال وجبايات. وكما تحصد الحرب العسكرية المئات والآلاف من أبناء اليمن، فقد تحولت الحرب الخفية المترتبة عنها، إلى قاتل عام لا مرئي، أشبه بطاعون مستشرٍ تصل إلى الناس أوجاعه ويستشعرونها، لكنهم لا يدركون قاتلهم إلا بشهقات الأرواح وجنائز الضحايا بلا مغيث!


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English