عمتِ صباحًا..

أيّتها الحرب
عبدالرحمن بجاش
November 15, 2022

عمتِ صباحًا..

أيّتها الحرب
عبدالرحمن بجاش
November 15, 2022

هذه الرواية لمها حسن *

لست ناقدًا، أنا هنا قارئ متذوق، أعاني من وجع الحرب.

يا إلهي، ماذا تفعل الحرب بالحياة، بالإنسان! 

كيف تقتل التفاصيل، العواطف، العلاقات الشخصية، توقف الزمن عند لحظة اندلاعها حتى تقف لهذا السبب أو ذاك؟!

كيف تزلزل الحياة اليومية للإنسان، ما تعوّد عليه؟

يا إلهي، ماذا فعلت الحرب بذلك الإنسان الجميل في سوريا؟!

ماذا فعلت بذلك البلد الشهم الجميل؟!

هذه الرواية تنقل إلى عقلك وقلبك وعاطفتك ما فعلته الحرب بذلك البلد.

البيت هو كون الإنسان، منه يبدأ، وفيه ينتهي، وطنه بتفاصيله هناك على الجدران، وعلى الأبواب، وفي النوافذ، وعلى مفاتيح الغرف، وفي جلسات الزوايا، وإطلالة النساء على النساء جيران العمر في الحارة، ذكرياتك في الرسائل المهملة من الأصدقاء، من رفاقك الجيران، بقايا ملابسك، بطانيتك، صوتك الذي انطلق من هنا يعلن للحارة والدنيا أنّك قدمت.

ذكريات والديك الحميمة، وحكايا الجدات منتصف الليل في الليالي الشتوية القارسة تدفئ خيالك البريء، صور الذكريات على الجدران، خربشاتك الأولى على جدران درج البيت، في تلك الزاوية اختفيت خوفًا من عصا الوالد أو من غضب الأم، أو ممارسة لعبة الغميضة، ومن البيت إلى الحارة؛ تحايا الصباح: كيفك جارنا؟

وأولاد يتسابقون في الأزقة ذاهبين راجلين إلى مدارسهم، ونسوة ينشرن بطانيات الليل على الأسقف التقاطًا لأشعة تقتل براغيث الرطوبة والغرف المعتمة، دكان الحارة ومقهى الحارة ودراجة ابن الجيران تمخر عباب التراب مثيرة للغبار، وبائع الآيسكريم صوته كأجمل أغنية تتردد صداها على جنبات جدران البيوت العتيقة، وصوت مذياع يرسل برامج الصباح من أقرب نافذة إلى أقرب أذن، وشاي الصباح، وأول سيجارة ترسل دخانها خيوطًا ملوّنة في سماء الحافة، وآباء يلقون تحية الصباح على بعضهم ذاهبين إلى ألف دكان على باب الرحمان.

تمرّ النهارات جميلة مفعمة بالشغف للحياة، أمهات يذهبن إلى البقال، لإعداد طعام الغداء، انتظارًا للزوج والأولاد العائدين من مدارسهم.

يتحلّق الجميع حول مائدة الطعام، ولا يُستغرب أن تجد أحدًا من سكان الحافة يتغذى على مائدتنا، على مائدتكم، وآباء قبلها يسرعون على صوت المؤذِّن يؤدّون صلاة الظهر جماعة.

وتستمر الحكاية عصرًا، تتجمع النسوة في هذا البيت أو ذاك لشرب القهوة، وفي المثلث تجد أولاد الحافة يلعبون، يتشاجرون، يتخاصمون، يعودون إلى صفاء اللحظة سريعًا. يأتي الغروب يأوي الجميع إلى بيوتهم يعيدون شرائط نهارات الأيام الجميلة.

فجأة تحل الحرب، يحتل الخوف كل تفاصيل الحياة، وفي السماء تختفي الطيور تحلق الطائرات المرعبة بدلًا عنهم، وبدلًا عن صوت الصبايا تحل أصوات القذائف.

فجأة يتغير كل شيء.

هنا سوريا، نموذجٌ لما حلّ في بلاد حلّت الحرب فيها بدلًا عن الصباحات وهدوء الليالي المعتمات إلا من أنجم تهدي الحائرين. واختفى القمر من سماء الحافة، وساد الظلامُ النفوس.

سوريا كما هو اليمن، كما هي ليبيا، كما هو العراق.

سوريا الإنسان القومي الشهم والجميل والغزير خُلقًا.

تقلب الحرب طاولة الحياة رأسًا على عقب، فتتوزع أيادي سبأ.

في جهة جيش الحكومة، وبالمقابل جيوش تظهر، كل غزوان يؤلف جيشًا ويحوّل هذه الحارة أو تلك إلى دولة.

سوريا التي ما عرفت غير السوري.

صارت بفعل الحرب تتكلم بمفردات جديدة؛ سنّي، شيعيّ، علويّ، كرديّ.

وفي البيت السوري وضعت الحرب أوزارها، قذائف طائشة، وقتلى في كل زقاق.

يتركون بيوتهم إلى حَوارٍ أخرى طلبًا للأمان، لكن صوت الطائرات والقصف لا يفرق بين هذه الحارة وتلك الأخرى.

يذهبون إلى الأرياف، وتلحقهم الحرب.

يتركون بيوتهم وحواريها ويذهبون بمعية "المهربين" إلى تركيا، وعند نقطة معينة يتركك المهرب، فقط يأمرك أن تجري، وأنت وحظك، إمّا أن توقفك رصاصة غادرة تنهي مشوار حياتك أو يُخطِئ قناص فتفلت، لتبدأ عذابًا آخر، لا هدف، لا أكل، لا عمل، في بلد ليس بلدك، يعايشك الخوف طوال الوقت.

ومن استطاع أن ينفذ، فيذهب إلى فرنسا أو ألمانيا، ويترك كل شيء هناك في الحارة، التي تحاول لملمة نفسها، ومع كل قصف وكل قذيفة تتوزع حياتها إلى شظايا.

تظلّ الأمُّ في بيتها الذي لا تتخيل أن تتركه يومًا، البيت الذي كان قويًّا فلم يسقط من القصف، وطالما لجأ إليه نسوة الحارة وشبابها الذين مع الأيام توزعوا بين الشبيحة وأحرار الشام وغيره وغيره، يقتل بعضهم بعضًا، وصار الكردي يخشى أن يذكر أنّه سوري من الأكراد.

وحسام يذهب إلى السويد، وبالكاد يجد نفسه هناك بعد عناء وغيره إلى اليونان، غريبًا لاجئًا مهانًا، وإلى كل معسكرات شمال أوروبا حيث الصقيع يحاصر اللاجئ من كل الجهات.

وإلى كل أصقاع العالم، قذفت الحرب بالبشر.

تذهب الأمّ إلى الريف، تعود إلى بيتها، تهجرها من جديد، تذهب إلى تركيا، تعود إلى حلب، تكتشف فجأة أنّ القصف أسقط البيت، البيت الذي كان دنيا، تكتشف أنّ الحارة لم تعد إلّا مسكنًا للعيون التي تراقب بعضها، وحتى ما تبقى من الصبايا لم يجدن لمن يهدين ورودها، فقد هجر الشباب حارتهم والتحقوا بالتنظيمات والجيوش ليتوحشوا، لم تعد الورود تعني لهم شيئًا.

تذهب كلُّ أمٍّ إلى ما تبقّى من حدائق، اتقاءً للقصف والقذائف العشوائية، وتلحقها، تتوزع الدماء وأشلاء الأطفال على ألوان الورود وأغصان الشجيرات.

الحرب هنا، هناك، جريمة.

يكفي حرب.

""""""""""""""""

مها حسن، روائية سورية مقيمة في فرنسا.

•••
عبدالرحمن بجاش

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English