الطب النفسي في الأرياف

من انعدام الخدمة وفقر المرضى إلى التنمر المجتمعي
رفيق الرميش
January 11, 2024

الطب النفسي في الأرياف

من انعدام الخدمة وفقر المرضى إلى التنمر المجتمعي
رفيق الرميش
January 11, 2024
.

قبل ستة أعوام، عاد رياض أحمد (30 سنة)، من محافظة البيضاء، حيث كان يعمل في مزارع القات بالأجر اليومي، إلى قريته في ريف ذمار، بعد تعرضه لصدمة نفسية أخلّت بحياته الطبيعية وتسببت في تدهور حالته الصحية. 

تروي صفية، والدة رياض، لـ"خيوط"، رحلتها الشاقة مع علاج ابنها، قائلة: "بعت كلَّ ما لدي في سبيل علاج رياض، إلى الحد الذي بعت فيه البقرة التي نعتاش بها، حيث قمت بإرساله مع شقيقه الأصغر وأحد الجيران إلى مركز أحد القرّاء في محافظة إب -كما نصحني الجيران- ظنًّا منّا أنه مصاب بعين أو سحر".

وتتابع: "عاد رياض كما ذهب، لم يتحسّن مطلقًا، بل ازداد وضعه سوءًا، لذلك تم نصحي بالذهاب به إلى مصحة نفسية بصنعاء للعلاج، وبالفعل ذهب ولدي إلى الأطباء وقرروا له علاجًا لفترة طويلة. بدأ يطرأ عليه تحسن بسيط، لكننا لم نستطع توفير تكاليف العلاج التي تبلغ 30 ألف ريال شهريًّا".

لم يعد لدى صفية بقرة أخرى لتبيعها وتذهب بابنها إلى صنعاء، فاضطرت لبيع آخر ما تملكه من جرامات الذهب لتوفير ما يتاح من علاج، لكنْ رياض توقف عن تناول العلاج، وعاد لتعاطي القات، لتتدهور حالته الصحية أكثر، ومن ثمّ فقدان القدرة على العمل وإعالة أسرته التي تتكون من أبيه وأمه وزوجته وطفليه الاثنين.

قصة رياض واحدة من مئات القصص المأساوية المنتشرة في الريف اليمني، التي فاقمت الحرب الدائرة منذ ما يربو على تسع سنوات، من حدتها وأعدادها.

يواجه المصابون بالاضطرابات النفسية في اليمن، صعوبة الوصول أو الحصول على خدمات الرعاية الصحية المناسبة، من علاج وجلسات الدعم النفسي والتشخيص، خاصة في المناطق الريفية والبعيدة عن المدن ومراكز المحافظات. 

عبدالله محمد (40 سنة)، مواطن يقطن في منطقة ريفية تفتقر لوجود مركز لعلاج الأمراض النفسية، يقول لـ"خيوط": "أصيب ابني المتزوج بمرض نفسي، عجزت -للأسف- حتى عن توفير تكاليف السفر إلى صنعاء، علاوة على تكاليف العلاج والتنقل من هذا المركز للآخر".

ويتابع معبرًا عن خيبة أمله: "لقد تبدّدت آمالي في تعافي ابني بسبب عدم المسارعة في إسعافه منذ بدايات مرضه، نتيجة حالة العوز والفقر الذي أدى به إلى قضاء سنوات عمره بين الهذيان والصمت والانعزال عمّن حوله".

ومع الأمل المعقود على تطور العلم والطب النفسي في إنقاذ ملايين المرضى، فإنّ لغياب مراكز الصحة ومراكز الاستشارات النفسية الأثرَ البالغ في تقهقر وسوء وضع المرضى النفسيّين في غالبية المدن والقرى اليمنية؛ نتيجة عدم إيلاء هذا الجانب الأهميةَ المفترضة، إضافة إلى ما تسبّبت به الحرب من غياب دعم برامج الصحة النفسية على صعيد الرعاية الصحية الأولية، وفقدان خدمات الصحة النفسية المتخصصة، كلها عوامل تحرم الكثير من الأشخاص من فرصة الحصول على الدعم النفسي والعلاج، كما ساهمت بتفاقم المشاكل النفسية لدى بعضهم.

أشارت دراسة لمؤسسة التنمية والإرشاد الأسري، إلى إصابة ما يزيد على خمسة ملايين ونصف مواطن باضطرابات وتأثيرات نفسية، وبيّنت أنّ الفئة العمرية بين 16 و30 سنة، سجّلت ارتفاعًا وصل إلى 80.5%، وأنّ هناك طبيبًا نفسيًّا واحدًا لكل 600.000 شخص.

زيادة الإصابة وقلة المنشآت

وتتضاعف معاناة المرضى النفسيين في اليمن، في ظل محدودية المنشآت النفسية، التي هي عبارة عن أقسام وعيادات في مستشفيات عامة وخاصة، بلغ عددها 13 منشأة، بالإضافة إلى 35 عيادة خاصة، أغلبها في العاصمة صنعاء.

في السياق، أشارت دراسة لمؤسسة التنمية والإرشاد الأسري حول تقدير انتشار الاضطرابات النفسية بين السكان في اليمن، في نتائجها، إلى إصابة ما يزيد على خمسة ملايين ونصف مواطن باضطرابات وتأثيرات نفسية، وبيّنت الدراسة أنّ الفئة العمرية بين 16 و30 سنة، سجّلت ارتفاعًا في عدد الحالات المبينة في الدراسة، ووصلت إلى 80.5% من إجمالي الحالات، وأكّدت الدراسة أنّ اليمن يعاني من نقصٍ في الموارد والاحتياجات اللازمة لإتمام خدمات الصحة النفسية في اليمن، وأنّ هناك طبيبًا نفسيًّا واحدًا لكل 600.000 شخص.

الوصمة وغياب الوعي

علاوة على ما يعانيه المرضى النفسيون في اليمن عمومًا -وفي الأرياف على وجه الخصوص- جراء المرض أو الاضطراب النفسي ذاته، يعانون من تبعات الوصمة المجتمعية التي تنظر إليهم بوصفهم مجانين وخطرًا على المحيط، هذه النظرة الناتجة عن غياب الوعي والتثقيف بعاديّة هذه الأمراض النفسية التي يمكن أن يصاب بها الإنسان تمامًا كما يصاب بأمراض عضوية، بل قد تتسبب بعض هرمونات النواقل العصبية في الدماغ (العضوية)، بحدوث مرض أو اضطراب نفسي، يتطور في ظل وضع اقتصادي واجتماعي ضاغط.

وبحسب دراسة تقييمية حديثة، أعدتها وزارة الصحة بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، نُفِّذَت في ست محافظات، هي: أمانة العاصمة، محافظة صنعاء، الحديدة، تعز، المحويت، حجة، فإنّ عدد الأطباء العاملين في مجال الصحة النفسية، في هذه المحافظات: 48 طبيبًا، منهم 17 استشاريًّا، كلهم ذكور، و30 طبيبًا وطبيبة (24 طبيبًا، 6 طبيبات).

وبحسب التقييم، فإنّ توزيع الكوادر الطبية في المحافظات تركز في أمانة العاصمة بنسبة 80%، فيما بلغت نسبة محافظة صنعاء، و13% في محافظة حجة والمحويت، و6% في الحديدة، كما أظهرت نتائج التقييم أنّ 75% من إجمالي الأطباء العاملين في مجال الصحة النفسية في اليمن، يعملون في ثلاث محافظات فقط.

ارتفاع مخيف

وكشفت إحصائية رسمية حديثة للأمم المتحدة، عن ارتفاع مخيف في أعداد المرضى النفسيين في اليمن، خلال السنوات الأخيرة، بسبب تداعيات الحرب المشتعلة في البلد منذ عدة أعوام.

وقال تقرير لمنظمة الصحة العالمية، إنّ نحو ثمانية ملايين شخص في اليمن، تقريبًا يعانون من أمراض نفسية، ومشاكل عقلية أو نفسية أو اجتماعية.

وأضافت المنظمة في تقرير رسمي لها، أنّ الأمراض النفسية تُعدّ من أكثر الحالات الصحية شيوعًا في اليمن، بعدما تزايدت أعداد المصابين مؤخرًا بشكل مثير للقلق.

•••
رفيق الرميش

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English