ماذا تطبخ لنا أمريكا؟

اختطاف صريح للسلام في اليمن
د. أحمد سنان
May 16, 2024

ماذا تطبخ لنا أمريكا؟

اختطاف صريح للسلام في اليمن
د. أحمد سنان
May 16, 2024
Photo: REUTERS/Jehad Shelbak

إلى وقت قريب، كنت وربما غيري كثيرون نعتقد أنّ ما تعيشه اليمن الموبوءة بنخبها، محصور بمثلث (إيران، السعودية، الإمارات)، وأنّ كلًّا منها لها أجندتها الخاصة التي تريد تطبيقها على البلاد والعباد. ولكن يبدو أنّ الصواب قد مال علينا قليلًا. لقد كان مقررًا أن يتم التوقيع على اتفاق خارطة طريق تُنهي الحرب في منتصف ديسمبر الماضي، ولكن كما سبق أن أشرت في مقال سابق لي على هذه المنصة؛ أنّ "الإدارة الأمريكية أجّلت الموعد لحسابات الربح والخسارة والابتزاز حول ما يجري في غزة". وقد صدق ذلك تمامًا، فبدلًا من كف يد إسرائيل في حربها على غزة، ومن ثم كشف حقيقة الحوثيين بأنهم يستخدمون الحرب في غزة لتمديد أمد الحرب، بدلًا من ذلك سارعت إلى مد جسر جوي لدعم إسرائيل بكل أنواع السلاح فتكًا، ودخلت مع الحوثيين في مواجهات في البحر الأحمر بحجة حماية التجارة الدولية، ضاعفت إلى حد معين من شعبيتهم داخليًّا وخارجيًّا.

عملية جهنمية 

إنّ التناقض الأمريكي الفاضح يتجلَّى في الربط بين إيقاف الحرب في اليمن وبين إيقاف الحوثيين لهجماتهم ضد من يتهمونهم بدعم إسرائيل، والفصل الحدي بين حرب غزة وما يجري في البحر الأحمر، ودعونا هنا من اختلافاتنا العنيفة مع الحوثيين. في الوقت ذاته، يؤكّد مسؤولون أمريكيون ودوليون ومراقبون مستقلون، الارتباطَ الوثيق بين الحرب على غزة وبين الهجمات الحوثية، ويزيد من مصداقية هذه المقاربة طريقةُ التعامل الأمريكية مع الطلاب المتعاطفين مع فلسطين في الجامعات الأمريكية، وهي الطريقة التي تناست بموجبها شعاراتها حول حقوق الإنسان في حرية التعبير وحرية وسائل الإعلام والحرية الخاصة وحرية الشعوب. إنها طريقة لا تختلف بأي شكل عن طريقة تعامل أي دولة تعتبرها أمريكا مارقة وغير ديمقراطية.

لقد تحول تأجيل توقيع خارطة الطريق إلى اختطاف أمريكي صريح للسلام في اليمن، فهي لن تسمح بإيقاف الحرب ما لم يتوقف الحوثيون، ولن تسمح للمساعدات الإنسانية بالمرور إلى اليمن بدون ذلك الشرط. وهي تتحدث بنفس النبرة التي تتحدث بها عن شروط إيقاف الحرب على غزة، ونحن نعرف منذ البداية أنّ واشنطن هي التي تخوض الحرب هناك، وليست إسرائيل، ولكننا لم نكن متيقنين من دورها في اليمن، غير أنّها وسيط. 

إعلان الولايات المتحدة شروطها لإيقاف الحرب في اليمن، قلبت لدينا المعادلة رأسًا على عقب. لقد ظهر أنّ الحرب في بلادنا ليست مثلثة الشكل الإقليمي، ولكنها على خط مستقيم بين نقطتين: واشنطن وطهران والعودة، أما السعودية والإمارات فليستا أكثر من مقاولين من الباطن، وإلا لَمَا كانتا أذعنتا للمقاربة الأمريكية للحل في اليمن، وقد لعبت طبيعة علاقات الأطراف المحلية ببعضها ومع الآخرين، وكذا العلاقات الدولية العربية غير المتوازنة، دورًا مركزيًّا في هذا الاستلاب المزمن.

ما الذي يتم إعداده لليمن؟

بعد أن حوّلت واشنطن السلام في اليمن إلى رهينة، بدأت تتحضر لعملية جهنمية تزيد من توترات الوضع القائم بين الأطراف المناهضة للحوثيين، ذلك ليس حبًّا في الحوثي، حسب اعتقادي، بل من أجل خلط جميع الأوراق وتشكيل وضع ضبابيّ مهيَّأ للبدء بحروب مستدامة بشعارات مغايرة لِمَا هو عليه الوضع الحالي راهنًا. 

لا بدّ للولايات المتحدة من ضحايا في بلادنا كي تسود، لكن الخطورة لا تكمن هنا إذا ما فهمنا منطق سياسة الهيمنة الأمريكية. تكمن الخطورة أساسًا، في الداخل الوطني والخارج الإقليمي الذي يتبنى السرديات الأمريكية بعلاتها والتعامل معها كأنها حقائق مطلقة لا تقبل الدحض. 

أثناء ثورة الشباب، كانت توجهات الكثيرين تنزع نحو أن يكون لها مرشحها الخاص للرئاسة، ولكنهم فوجئوا أنّ الشخص المعني خذلهم، بل وصرح لهم أن قضية السلطة وُضعت بيد السفير آنذاك "جيرالد فايرستاين"، وهو وضميره بعدئذ.

من يُحيي العظام وهي رميم؟

لا نحتاج إلى جهد كثير لمعرفة جنوح المعهدين (الديمقراطي والجمهوري)، فهما ليسا قريبين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري فحسب، بل حاملان لتوجهاتهما السياسية والجيوستراتيجية على المسرح العالمي. ولن نخوض هنا في طبيعة القوى المهيمنة على الحزبين، ولا في مصادر تمويل هذه المنظمات؛ منعًا للإطالة.

الأحزاب اليمنية بكل أطيافها كلها، مجتمعة ومنفردة، سائبة وملتفة، تعاني موتًا دماغيًّا بعضه يمتد منذ عقود، وبعضه كل سنوات الحرب. بسبب هذا الموات، لم يثرها ضجيج الحرب ولا روائح الدم المختلط برائحة البارود.

يقول الصحفي الإيطالي روبرتو فيفالديلي، أن رؤساء المنظمات الثلاث كشفوا أمام الكونجرس الأمريكي الطريقةَ التي تستخدمها أمريكا من أجل التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وأن أنشطة منظماتهم كلها "تدور حول مساعدة الناشطين السياسيين الذين لديهم نفس الرؤية المتعلقة بتشكيل حركاتٍ جديدةٍ في بلادهم من أجل الإطاحة بالحكومات المعادية لأمريكا"؛ المخاوف الأمريكية كلها منصبة على عدم إتاحة الفرصة لظهور أو بقاء الأنظمة المختلفة او المعارضة لأمريكا، وعلينا فقط توقُّع ما هو النظام الذي يمكن أن يكون معاديًا لها.

 دم وبارود

إذن، هل فعلًا تحبنا أمريكا؟ الموقف من إسرائيل هو أهم محدِّدات العلاقة بأمريكا. نحن أفراد وشعوب بالفطرة مع الحق الفلسطيني والعربي الإسلامي، كما هي أمريكا بالفكرة جزء من إسرائيل، ومن ثم فالمنظمات الثلاث مربوطة من عراقيبها بإسرائيل، ولن تساعدنا على بناء نظم لا تدعم إسرائيل، مهما كانت ديمقراطيتها. عُلِم؟

الأحزاب اليمنية بكل أطيافها: الإسلاموية بكل تجنحاتها وألوانها، والقومية بفروعها ونزعاتها الشوفينية والشعبوية، واليسارية بنظرياتها الكوكتيل، وأحزاب مراكز القوى بقبائليّتها وعسكرييها وأوليغارشيتها؛ كلها مجتمعة ومنفردة، سائبة وملتفة، تعاني موتًا دماغيًّا، بعضه يمتد منذ عقود وبعضه كل سنوات الحرب. بسبب هذا الموات، لم يثرها ضجيج الحرب ولا روائح الدم المختلط برائحة البارود، ولا جثث ضحايا القتل والقصف والقنص، ولا فاجعة الجوع والمرض والخوف. لم يستطع كل ذلك أن يجعلها ترمش مجرد الرمش، لنتعرف إن كانت ما تزال على قيد الحياة.

كل هذه القوى في غيبوبتها وصحوها، وكل الجماعات والحركات المسلحة والمسرحة والمسطحة، ظلت متنافرة لا تجمعها جمعة ولا جامع، ولا يطربها مطرب أو خطيب ولا نواح ولا عويل. تتجافى في علاقاتها بالمختلف، ولا تتمنى له غير الزوال مع النساء والعيال. بإشارة من أصغر إصبع في المعهد الديمقراطي، اجتمع شتات 30 حركة وحزبًا ومكوِّنًا، متناقضة ومتناحرة. لماذا؟ ماذا هناك؟ ما لكم كيف تحكمون؟

تاريخ نشاط المعهد الديمقراطي في بلادنا، لم يُفضِ إلى إصلاح النظام السابق ودمقرطته، ولا ساعد على بناء نظام آخر ديمقراطي، وكل ما عمله هو تدريب ذلك النظام على أمور أخرى غير البناء. الغريب أنّنا لم نسمع عن وجود المعهد الجمهوري إلى جانب الديمقراطي في بلادنا، هل تقاسما مناطق النفوذ؟

لم تتضح الرؤية بعد، ولكن المؤكّد تمامًا أننا قادمون على إعادة التموضع وبناء صياغة جديدة للاحتراب. 

•••
د. أحمد سنان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English