سلطتان ضد كرامة الإنسان

الشرعية الاقتصادية لا تُكتسَب باستعراض القوة والاجتماعات
د. مطهر العباسي
October 1, 2023

سلطتان ضد كرامة الإنسان

الشرعية الاقتصادية لا تُكتسَب باستعراض القوة والاجتماعات
د. مطهر العباسي
October 1, 2023
.

تمثّل الوظيفة الاقتصادية للدولة الركيزةَ الأساسية لشرعيتها إلى جانب الشرعية السياسية، فالدولة (نظام الحكم) تستمد شرعيتها الاقتصادية من نجاحها في أداء وظيفتها الاقتصادية على أتم وجه، كما أنّ فشل الدولة في تحقيق تقدم ملموس في الجانب الاقتصادي يفقدها شرعيتها مهما تذرعت بالشرعية السياسية. وفي الدول الديمقراطية، يكون البرنامج الاقتصادي للأحزاب السياسية هو المعيار الرئيسي في اختيار الناخبين لها لإدارة نظام الحكم وتنفيذ السياسات والبرامج الاقتصادية التي وعدت الناس بها، وعندما تخفق الحكومة في تنفيذ وعودها، تكون الانتخابات القادمة هي الفرصة لإسقاطها واختيار حكومة بديلة، وإذا ساءت الأوضاع الاقتصادية فقد يضغط الجمهور وأحزاب المعارضة للدعوة إلى انتخابات مبكرة بهدف تغيير الحكومة وتنصيب أخرى قادرة على الوفاء بتلبية تطلعات الناس في معالجة التحديات الاقتصادية التي يواجهونها.

وبالمقابل، فإن فشل أنظمة الحكم في العديد من الدول النامية، في أداء وظيفتها الاقتصادية، يكون سببًا في اندلاع الصراعات والحروب الداخلية أو في حدوث انقلابات عسكرية للسيطرة على نظام الحكم والدخول في دوامة من الأزمات وعدم الاستقرار، ويتجسد هذا في الوضع الراهن لليمن، فالأزمة القائمة اشتعلت قبل تسع سنوات بادعاءات ومطالب اقتصادية ثم انحدرت إلى صراع وحرب عبثية أدّت إلى أسوأ أزمة إنسانية في العالم وإلى انهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمعظم السكان.

كرامة الإنسان

تتجسد الوظيفة الاقتصادية للدولة في العمل الدؤوب لضمان توفر مستوى مقبول من العيش الكريم (الحياة الكريمة) لجميع المواطنين، فالحفاظ على (كرامة الإنسان) هي المحور الجوهري لوظيفة الدولة في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، بل إنّ كرامة الإنسان أكّد عليها ديننا الإسلامي في نص قرآني صريح: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وللآية دلالة اقتصادية واضحة لكرامة الإنسان، فقد كرم الله تعالى بني آدم بالعقل والعلم، وبهما تمكّن الإنسان من الحركة والانتقال برًّا أو بحرًا أو جوًّا بوسائل متعددة ومتطورة عبر الزمن، ونال الرزق الوفير من طيبات المآكل والمشارب والملابس والسكنى وجميع حوائجه، فالله خص الإنسان بهذه المناقب والفضائل دون غيره من المخلوقات.

كل تلك الإيرادات تصب في ثقب أسود يلتهم الأخضر واليابس، بينما مئات الآلاف من موظفي الدولة يهانون في كرامتهم وفي سبل عيش حياتهم، وكأنهم يعملون وفقًا لنظام السخرة والإكراه، وخاصة في قطاع التعليم العام والجامعي والجهات غير الإيرادية.

وتنص معظم الدساتير الوطنية والمواثيق الدولية على مركزية وظيفة الدولة في صون كرامة مواطنيها وضمان العيش الكريم لهم، إضافة إلى أنّ أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها القمة العالمية في 2015، لتكون دليل العمل التنموي للأسرة الدولية حتى عام 2030.

تؤكد جميع بنودها على ضمان الحياة الكريمة للسكان من خلال الحد من الفقر والجوع، وتعميم التعليم وتحسين الصحة العامة، وضمان مياه مأمونة وبيئة نظيفة، والحصول على خدمات الطاقة وتكنولوجيا الاتصال.

سياسات تُفقِد الشرعية وتُهدِر الكرامة

خلال تسع سنوات من الحرب المدمرة، ساهم أطراف الصراع في بروز أزمة إنسانية تعتبر الأسوأ في العالم، ولدت أكثر من 3 ملايين نازح داخل البلاد، وقرابة مليون لاجئ في الخارج، وجعلت حوالي 80% من السكان تحت خط الفقر، يفتقدون إلى سبل العيش الكريم، وكل ذلك نال سلبًا من كرامتهم وحقهم في حياة آمنة ومستقرة، كما أنّ كلتا السلطتين في صنعاء وعدن، أخفقتا في وظائفهما الاقتصادية في جوانب توفر الاحتياجات الضرورية أو الخدمات الاجتماعية الأساسية أو في ضمان توفر فرص العمل والتشغيل أو في ضمان الحقوق والأمن والأمان للموظفين والمواطنين، كما انتهجتا سياسات اقتصادية كلية مربكة وغير سليمة، كان لها تداعيات كارثية على المواطنين خاصة، وعلى الاقتصاد عامة.

ففي جانب السياسة المالية: تتشابه كلٌّ من سلطتي صنعاء في عدن، في اتباع سياسات غامضة وغير شفافة في إدارة الموارد السيادية، فكلتاهما يعملان بدون ميزانية عامة مقرة من مجلس النواب، وفي ذلك مخالفة صريحة للدستور والقانون، كما أنّ حجم الإيرادات والنفقات العامة غير معلنة وتدار في غرف مغلقة ومظلمة، فمثلًا، يلاحظ أنّ سلطة صنعاء انتهجت سياسة مالية قائمة على الإفراط في الجبايات من الضرائب والجمارك والزكاة تصل إلى عشرات أضعاف ما كانت عليها قبل الحرب، ورغم ذلك ترفض دفع المرتبات الشهرية لموظفي الدولة، وتخلت عن مسؤولياتها في مساعدة الأسر الفقيرة وفي دعم الكهرباء والمشتقات النفطية وفي تمويل مشاريع التنمية، وهي سياسة يمكن وصفها بأنها عوراء أو عرجاء.

وبحسب مصادر مطلعة، فإن حجم الإيرادات العامة من الضرائب والجمارك وغيرها، تراوحت ما بين 900 مليار ريال إلى أكثر من تريليون ريال في عام 2022، وهذا يمكّن الحكومة من تغطية نفقات مرتبات الموظفين شهريًّا، ويظل هناك فائضٌ كبير لمواجهة النفقات العامة الأخرى.

وللأسف، كأن كل تلك الإيرادات تصب في ثقب أسود يلتهم الأخضر واليابس، بينما مئات الآلاف من موظفي الدولة يهانون في كرامتهم وفي سبل عيش حياتهم، وكأنهم يعملون وفقًا لنظام السخرة والإكراه، وخاصة في قطاع التعليم العام والجامعي والجهات غير الإيرادية.

كما أنّ سلطة عدن اتبعت سياسة مالية متهورة تقوم على تمويل نفقات الحكومة من مصادر تضخمية عن طريق طباعة النقود دون وجود غطاء كافٍ من الاحتياطيات الدولية، مما أدّى إلى تدهور القوة الشرائية للريال والتصاعد المفجع لأسعار السلع والخدمات، وتسبّبَ في تدهور مستوى معيشة الناس والنيل من حقهم في حياة كريمة ومستقرة.

وفي جانب السياسة النقدية: اتبعت كلتا السلطتين سياسات متناقضة وغير مسؤولة نتج عنها الندرة الشديدة للسيولة النقدية في مناطق سلطة صنعاء، يقابلها إفراط في السيولة في مناطق سلطة عدن، أدّت إلى تدهور سعر الصرف وارتفاع معدلات التضخم، مما أثّر سلبًا على سبل العيش الكريم لغالبية السكان، كما أنّ سلطة صنعاء أصدرت قانونًا كارثيًّا "لمنع التعاملات الربوية" نتج عنه الشلل الكامل للجهاز المصرفي، بدءًا بالبنك المركزي، ومرورًا بالبنوك التجارية والإسلامية، وانتهاءً ببنوك التمويل الأصغر وصناديق التوفير، وبموجب ذلك القانون تحولت البنوك إلى نسخة مشوهة من شركات الصرافة، قائمة على المراباة بفارق سعر العملة، وممارسة التطفيف بأبشع صوره مع كل من المودعين والمقترضين، وفي ذلك امتهان لكرامة مئات الآلاف من الأسر التي كانت تعيش على العوائد الشهرية لودائعهم البنكية، وكل الدلائل تشير إلى أنّ كل مؤسسات الجهاز المصرفي تمر بحالة الإعسار المالي، وقد تحقق خسائر فادحة وسيكون مصيرها الإفلاس، وقد تخسر الحكومة عشرات المليارات من الريالات، كانت تجبيها كضرائب على أعمال البنوك.

مضمون الوظيفة الاقتصادية للدولة

غاية الوظيفة الاقتصادية للدولة، ضمانُ سبل العيش الكريم للمواطنين، وهذا له دلالات واسعة وعميقة:

- ضمان توفر الاحتياجات الضرورية من الغذاء والكساء والدواء والمأوى والتي تمثل في مستواها الأدنى حد الكفاف ولكنها احتياجات ضرورية تحافظ على مستوى معين من العيش الكريم للفئات الضعيفة والفقيرة من السكان.

- المساهمة في توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية، وهذا يشمل التعليم بكل مراحله وتخصصاته، والصحة بكل أنواعها ومجالاتها، والمياه الصالحة والمأمونة للشرب والصرف الصحي والكهرباء والاتصالات والطرقات والموانئ والمطارات ووسائل النقل المختلفة وغيرها.

- توفر فرص العمل للقادرين من القوى العاملة، وخاصة فئة الشباب بهدف تحسين مستوى الدخل والمعيشة والحد من البطالة والفقر، المهددَين لكرامة الإنسان.

- توفر الإدارة السليمة للموارد المالية والثروات الطبيعية في الدولة، وحسن استغلالها وتوزيع عوائدها في شكل مشاريع تنموية على مختلف المناطق والفئات بصورة عادلة وشفافة، وتغطية نفقات المرتبات لموظفي الدولة ونفقات التشغيل والدعم والإعانات للأسر الفقيرة والمحتاجة، صونًا لكرامتهم في الحياة.

- تهيئة البيئة المناسبة للاستثمار العام والخاص في مختلف القطاعات؛ الزراعة، الصناعة، النفط والمعادن، الخدمات من تعليم وصحة، قطاعات البنية التحتية، وغيرها.

- ضمان توفر العدالة المنصفة لحماية حقوق الأفراد وصون كرامتهم، وتوفر الأمن والأمان لجميع فئات وكيانات المجتمع.

- تنمية العلاقات الاقتصادية مع الدول والمؤسسات الإقليمية والدولية لضمان الدعم الفني والتنموي، وتسهيل حركة التجارة الخارجية من خلال تصدير المنتجات المحلية واستيراد السلع التي يحتاجها المجتمع.

الحاجة إلى مؤسسات وسياسات

كل المهام المرتبطة بالوظيفة الاقتصادية للدولة، تتطلب عنصرين أساسيين: (مؤسسات) و(سياسات)، على المستوى القطاعي وعلى المستوى الكلي؛ ففي الجانب القطاعي، التعليم، مثالًا، على الدولة توفير خدمة التعليم للجميع من خلال المساهمة في بناء وتجهيز مؤسسات التعليم المختلفة من مدارس ومعاهد فنية وجامعات، ورفدها بالكادر البشري من هيئات التدريس والإداريين المساعدين والفنيين وغيرهم.

شرعية نظام الحكم لا يمكن الحصول عليها بالمهرجانات والاستعراضات لمظاهر القوة ولا بالمشاركات في لقاءات واجتماعات إقليمية أو دولية، ولكن الشرعية تُكتسَب من خلال أداء نظام الحكم لوظيفته الاقتصادية في ضمان العيش الكريم لأفراد المجتمع عامة.

إضافة إلى توفير المناهج الدراسية والمعامل الفنية والأثاث المدرسي وغيرها، وإتاحة الفرصة للقطاع الأهلي والخاص للمساهمة في ذلك، كما أنّ على الدولة صياغة سياسة تعليمية سليمة تتضمن أهدافًا متوسطة المدى وغايات طويلة المدى، تتعلق بتعميم فرص لتعليم الجميع، ذكورًا وإناثًا، وضمان عدم تسرب الفئات العمرية في سن التعليم إلى خارج المؤسسات التعليمية، وهكذا بالنسبة لقطاعات الصحة وخدمات المياه والكهرباء وغيرها.

وعلى المستوى الكلي، على الدولة تبني سياسات اقتصادية كلية ناجعة وملائمة، وبناء وتعزيز قدرات المؤسسات المنفِّذة لتلك السياسات، وهذا يشمل، على سبيل المثال، السياسات المالية والنقدية والتجارية والاستثمارية وغيرها، فالسياسة المالية معنيٌّ بها وزارة المالية والمصالح التابعة لها (الضرائب، الجمارك، الزكاة، وغيرها)، والسياسة النقدية مسؤول عن تنفيذها البنك المركزي والجهاز المصرفي، كما أنّ السياسة التجارية مناطة بوزارة التجارة، والسياسة الاستثمارية تتولاها هيئة الاستثمار، وهناك سياسات أخرى تعنى بالتشغيل والبيئة والحماية الاجتماعية وغيرها من السياسات العابرة للقطاعات.

الاستنتاجات

- إنّ كلًّا من سلطتَي صنعاء وعدن أخفقتا في أداء الوظيفة الاقتصادية، وهذا يعني أنهما ساهمتا في امتهان كرامة الإنسان اليمني وفي تدهور مستوى معيشته وحياته الكريمة، مما يؤكد على فقدانهما للشرعية الاقتصادية والشرعية السياسية على حدٍّ سواء. 

- إنّ شرعية نظام الحكم لا يمكن الحصول عليها بالمهرجانات والاستعراضات لمظاهر القوة ولا بالمشاركات في لقاءات واجتماعات إقليمية أو دولية، ولكن الشرعية تُكتسب من خلال أداء نظام الحكم لوظيفته الاقتصادية في ضمان العيش الكريم لأفراد المجتمع عامة.

- سلطتان ليس لديهما أدنى تصور لمعالجة التحديات الاقتصادية الراهنة أو المستقبلية، فالارتجال والتخبط والعشوائية سمات لعملهما في إدارة الشأن الاقتصادي، ولكنهما بارعتان في التنصل من استحقاقات دستورية وقانونية تجاه المواطنين والموظفين، واستقرار الأسعار ودفع مرتبات موظفي الدولة أمثلة على ذلك.

- إنّ سوء الأوضاع الإنسانية والاقتصادية التي يعيشها المواطن اليمني يُحتم على طرفي الصراع ولوردات الحروب في سلطتي صنعاء وعدن الجنوح للحوار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تدهور معيشة الناس وإدارة الموارد السيادية للبلاد بطريقة منصفة وشفافة وخاضعة للمساءلة والمحاسبة.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English