تدمير ممنهج للتعليم في صنعاء

حملات ترهيب وهيمنة رسمية
خيوط
March 17, 2021

تدمير ممنهج للتعليم في صنعاء

حملات ترهيب وهيمنة رسمية
خيوط
March 17, 2021
Photo by: Ali Al-Sunaidar

مع اندلاع موجات الربيع العربي (منذُ 2011)، شملت الموجة اليمن، وتوسع على إثر ذلك مشاركة القوى والمكونات السياسية في تسيير شؤون السلطة، حيث بدا التعليم كأولوية، ما دفع حكومة الوفاق السياسي التي تشكلت في 2014، إلى إعلان العام 2015، عامًا للنهوض بالتعليم.

لاقى هذا المسعى الحكومي تأييدًا مجتمعيًّا ومساندة المنظمات والجهات المانحة، ما حدا بهم وضع تصورات لتوجيه الجهود نحو إصلاح تعليمي شامل، إلا أن اندلاع الحرب الشاملة، عطّل هذا التوجه، بل ذهبت لتلقي بظلالها الكارثية على ما تبقى من المنظومة التعليمية.

في محافظة صنعاء، وحدها، تسبب القصف الجوي لطيران التحالف إلى تدمير للكثير من مدارسها، وخاصة في مديريتي بني حشيش والحيمة الخارجية التي شهدتا فيها المدارس تدميرًا كليًّا، ومديرية سنحان وبعض مدارس أمانة العاصمة التي تعرضت لتدمير جزئي.

كما أصبحت الكثير من المدارس ملاذًا للنازحين من مناطق الصراع، منها محافظة صنعاء، ما جعل مجرد التفكير في النهوض التعليمي خارج اهتمامات الفاعلين السياسيين والاجتماعين والمدنيين، بل أصبحت القوى المتصارعة المهيمنة، تستخدم المؤسسات التعليمية في نطاق هيمنتها، استخدامًا عسكريًّا.

وكانت المؤسسات التعليمية، تحظى قبل الحرب برقابة متوسطة على العاملين في هذا القطاع، كما سُجل نوع من الالتزام النسبي للمعلمين والطلاب، مع وجود منهج مدرسي واضح، لا يشوبه أي اعتوار طائفي، مع القليل من الفساد الذي شكّل تهديدًا وجوديًّا على العملية برمتها.

لكن بعد العام 2015، لم تعد معيقات العملية التعليمية مقتصرة على الفساد فقط، لكن هناك اتهامات طالت السلطة في صنعاء، باختلالات أخرى. يقول المدرس "م ح"، وهو موظف في وزارة التربية والتعليم: "لم يعد يوجد تعليم، هناك نوع من النشاط لا يتعدى محاولة محو الأمية".

يمثل اقتحام سلطة أنصار الله (الحوثيين) للمدارس، وأخذ الطلاب منها دون علم ذويهم للمشاركة في فعاليات ثقافية ذات طابع سياسي وطائفي، تحدّيًا آخر لا يقل خطورة، خاصة وأن دخول المدارس أو التمركز في ساحاتها يتم بالأطقم العسكرية، وبالقادة المدججين بالسلاح، ما يشكل رعبًا للأطفال

ويضيف: "كيف تتوقع التعليم في قيادة الوزارة الحالية التي لا تحمل أي مؤهلات لإدارتها، والمعلمون إن حضروا فهو إسقاط واجب، كيف تريدهم أن ينضبطوا وهم بدون مرتبات؟!".

واعتبر هذا المدرس أن حضور هؤلاء المعلمين هو تحت طائلة "الضغوط بالفصل من الوظيفة، وقد تم بالفعل فصل الكثير من المعلمين من قبل سلطة أنصار الله الحوثيين، لذا تجد بعض الطلاب على الكراسي والبعض الآخر وقد تحوّل إلى صور شهداء معلقة على جدران المدرسة. من حضر حضر ومن غاب غاب".

ويشير إلى أن بعض الذين تم استقطابهم للتجنيد، ضمن صفوف مقاتلي جماعة أنصار الله (الحوثيين)، يمنحون شهادات دراسية، حتى وإن لم يحضروا أي حصة دراسية.

أما الغش، فيقول هذا المدرس إنه أصبح "حقًّا أصيلًا للطالب، وأن الأخير يمكن أن يشكيك إلى الجهات النافذة إن لم يتم السماح له بالغش".

وكشف المدرس، عن أنه خلال الفترة الراهنة، تتجهز وزارة التربية والتعليم بصنعاء لإعداد طريقة جديدة لامتحان الصف الثالث الثانوي، بحيث تصبح الإجابة في ورقة واحدة عبر التظليل على الإجابة الصحيحة، مع العلم أنّ الطلبة لم يستكملوا المقررات الدراسية نتيجة وباء كوفيد-19 وتوقف الدراسة.

وهي خطوة يعتبرها، تسهيلًا من السلطات لعملية الغش "فلا يقوم الطالب بالكتابة على دفتر الإجابة، بل يقوم بالتظليل على نموذج الإجابة، والتصحيح سوف يكون إلكترونيًّا، وهذا يتطلب تغيير استراتيجية التعليم والرقابة والامتحانات والتقويم والتقييم للعملية التعليمية برمتها".

وقال المدرس إن هذا الأسلوب سيسهل عملية الغش بصورة ضارة بالعملية التعليمية.

وشكا المدرس من تدخل جماعة أنصار الله (الحوثيين)، في العملية التعليمية بشكل سافر، وقال: "يتدخلون في كل شيء ويرتجلون القرارات بدون العودة إلى الضوابط والأنظمة الإدارية للوزارة والمصلحة العامة".

وبالنسبة للاحتياجات، فهي "كثيرة جدًّا، التعليم لا يحتاج إلى إصلاح بل يحتاج إلى إعادة بناء من الصفر في كل المجالات، لأن كل القائمين على التعليم في اليمن -سواءً الحوثيين أو غيرهم- هدفهم إقناع الجيل الحالي بأنهم على حق".

المدرس محمد قاسم 40 سنة (اسم مستعار) وهو مدرس في مدرسة الثلايا، اتفق من جانبه مع زميله بأن "التعليم انتهى، فالمعلم محبط والطالب محبط ومدير المدرسة محبط كذلك، لأنّ الحال مثل بعضه، وكلنا بالهوى سواء" وفق حديثة.

يشرح قاسم جزءًا من سلوك الطلاب داخل هذا الانفلات: "يدخلون ويخرجون براحتهم، ومندوب جماعة أنصار الله (الحوثيين) في المدرسة يعتبر نفسه الكل بالكل، يُسيّر الجميع مثل ما يريد، من المدرسين والمدير والطلاب؛ كلهم تحت رحمة المشرف".

ويتطرق هذا المدرس، لتهديد إضافي للعملية التعليمية: "إذا تكلمت يهددونك بالأمن الوقائي (جهاز استخباراتي أسسه الحوثيون بعد سيطرتهم على العاصمة)، ويعتبرونك طابورًا خامسًا، ومع (العدوان)".

أما الطلاب "الذين يلتحقون بالجبهات للقتال مع الأمن أو اللجان ينجحون أتُوماتيكيًّا (دون أي جهد)، ولا يجرؤ أحد على إسقاطهم، بحكم أنهم مجاهدون، فيما بقية الطلاب يلجؤون لدفع نقود في فترة الامتحانات وينجحون! التعليم انتهى".

وعن دور مكاتب التربية، يقول قاسم: "انتهى دورها، ويقتصر عملها حاليًّا على فرض مبلغ ألف ريال شهريًّا على أولياء الأمور نظير كل طالب في الثانوية، وخمس مئة ريال على الطالب الملتحق في الأساسي".

وكانت سلطة أنصار الله (الحوثيين)، قد فرضت على المدارس الحكومية، مبالغ مالية، تحت مسمى (المشاركة المجتمعية)، وتقول إنها تذهب لدعم المدرسين الذين يقومون بالتعليم، والذين لم يتلقوا رواتبهم منذ سنوات، ما زاد من معاناة الأسر، التي ترى هذه المبالغ فوق طاقتها.

هذه المبالغ "تذهب لمندوب الحوثيين ومدير المدرسة، فيما يحصل المعلم على فتات، وأحيانًا يُحرم منها"، بحسب المدرس. "لذا لا يرسب في الامتحانات إلا الطلاب الذين ليس لديهم ظهر يدعمهم (وساطة ومحسوبية) أو ليس لديهم فلوس، أما البقية فينجحون دون أي مقياس لمستوى التحصيل العلمي".

الكتاب المدرسي هو الآخر، مشكلة مزمنة في جسد العملية التعليمية، "غير متوفر وتم تعديل بعض المقررات في مادة التربية الوطنية والتربية الإسلامية. ويلخص المدرس قاسم ما تتعرض له المدارس في أمانة العاصمة، بـ"الكثير من الانتهاكات بدءًا من الإدارة التعليمية المستلبة، والتي لا تملك أي سلطة، وانتهاءً بتحكم الحوثيين بكل شيء فيها".

وطالت التدخلات في العملية التعليمية، حدًّا لا يمكن تصوره، حيث قال لنا أحد المدرسين في مدرسة الشعب بمديرية باب اليمن، بأمانة العاصمة، إنه و"بدون سابق إنذار تم بيع حوش المدرسة لأحد التجار الكبار في باب اليمن، وبناء محلات تجارية كبيرة مكونة من دورين في ساحتها".

يقول شخص اّخر درس سابقاً في هذه المدرسة: "كانت هذه مدرستي، لقد عبثوا بها، لم تعد الآن مدرسة وأصبحت مركزًا تجاريًّا! انتهى كل شيء جميل حتى ذكرياتنا في الطفولة، تم تشويهها".

أمية.. في قلب عاصمة البلاد

كانت مدرسة بلقيس للبنات، تعتبر من المدارس الحكومية النموذجية في أمانة العاصمة، لكن مؤخرًا تمت خصخصتها وتحويلها إلى مدرسة (خاصة)، وللبنين بدلًا عن البنات.

تحولت رسوم التسجيل الرمزية إلى مبالغ كبيرة، حيث تبلغ رسوم تسجيل طلاب المرحلة الابتدائية مبلغ 65 ألف ريال، بينما المرحلة الأساسية 75 ألف ريال، والمرحلة الثانوية 85 ألف ريال.

لذلك تم حرمان الطلاب والطالبات في تلك المنطقة من حقهم في التعليم المنصوص عليه بالقانون، فالفقراء -وهم غالبية السكان- لا يجدون ملاذًا آخر، ولا يستطيعون دفع تلك المبالغ، فيما كان الضرر على الفتيات أكبر، إذ مع فقدانهن مدرستهن، منعن من اتخاذ مدارس حكومية بعيدة بديلًا لمواصلة تعليمهن. لذا تركت الكثير منهن التعليم، وفضلن البقاء في المنازل، ما يهدد برفع مستوى الأمية بين الفتيات، وأين؟ في قلب عاصمة البلاد.

وفي السياق، تعاني مدارس العاصمة من عدم توفر الأمن الشخصي، سواء للمدرسين أو للطلاب والطالبات، بسبب قربها من مناطق تعرضت للقصف الجوي من قبل طيران التحالف بقيادة السعودية والإمارات. ويمثّل العودة إلى تلك المنشآت التعليمية، كابوسًا دائمًا، فعند سماع أي تحليق جوي، عادة ما يحدث حالة من التدافع والفوضى بين التلاميذ ومعظمهم أطفال.

رغد المليكي (11 سنة)، إحدى طالبات الصف الخامس أساسي بمدرسة فاطمة الزهراء بمديرية الثورة، وتقع بالقرب من سور معسكر (الفرقة الأولى مدرع)، الذي ظل واحدًا من الأهداف الثابتة والمحتملة منذ بداية النزاع.

وكانت المدرسة قد تعرضت لأضرار جزئية، في قصف سابق، ولذا عندما يصادف أن تسمع رغد صوت المحرك النفاث للطائرة تشرع تلقائيًّا بالصراخ والبكاء، وفتح الباب ومحاولة الهرب راكضة في الممرات، وهي تمسك على أذنيها بكلتا يديها. تحاول مدرساتها تهدئتها باحتضانها إلى أن يذهب الصوت المرعب.

دورات سياسية وطائفية

على الجانب الآخر، يمثل اقتحام سلطة أنصار الله (الحوثيين) للمدارس، وأخذ الطلاب منها دون علم ذويهم للمشاركة في فعاليات ثقافية ذات طابع سياسي وطائفي، تحدّيًا آخر لا يقل خطورة، خاصة وأن دخول المدارس أو التمركز في ساحاتها يتم بالأطقم العسكرية، وبالقادة المدججين بالسلاح، ما يشكل رعبًا للأطفال.

طالب في مدرسة (ابن خلدون)، يقول إنه في "27 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، حضر طقم عسكري إلى مدرستنا في الصباح الباكر، في بداية أول حصة دراسية، ثم بعدها بلحظات دخل أحد المدرسين إلى الصف وقام باختيار مجموعة منا، قائلًا: سوف تذهبون كفريق كشافة".

يواصل الطالب: "كان عددنا عشرة من فصل واحد فقط (الثامن أساسي)، وكان المدرس ينتقي الأطول فقط، خرجنا وكان هناك طلاب آخرون من الصف التاسع والسابع".

مثّل انقطاع الرواتب عن موظفي العملية التعليمية، الضربة الأكثر إنهاكًا للقطاع التعليمي، خاصة وأن هذا الأمر تزامن مع تدهور اقتصادي مريع، وفقدان العملة الوطنية لقيمتها، وبالرغم من أن بعض المدرسين يستلمون رواتبهم على فترات، في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا، يبدو مدرسي مناطق سيطرة أنصار الله (الحوثيين)، بلا سند أو مناصر

وبحسب إفادة الطالب، فإنهم اجتمعوا في ساحة المدرسة، كانوا حوالي 50 طالبًا، ومن ثم توجهوا إلى النادي الرياضي، ترافقهم سيارة عليها ميكرفونات وتبث أناشيد قتالية (زوامل)، وطقم آخر.

يقول هذا الطالب: "لم أكن أشعر بالقلق، ولكن عندما أعطونا عصبات للرأس، وطلبوا منا ربطها، بدأ ينتابني الخوف، كنت أظنهم سيأخذوننا إلى جبهة القتال، وعندما وصلنا إلى النادي الرياضي، كانوا يلقون علينا محاضرات عن الجهاد ودعم الجبهات".

في نهاية الدوام، تم إعادة الطلاب إلى صفهم، على ظهر الأطقم العسكرية التي جلبتهم. يتحدث حسام عن أن "كثيرًا من أصدقائي قبل أن تقلنا الأطقم، كانوا يختبئون، وآخرين يهربون ويعودون إلى بيوتهم، وقد اعتقدوا أنهم سوف يؤخذون للقتال".

عاد هذا الطالب في مدرسة ابن خلدون إلى منزل عائلته، ووجد أمه خائفة ومرعوبة، بسبب تأخره عن المنزل، بعد أن أخبرها شقيقه الأصغر منه، أن طقمًا عسكريًّا، أخذهم للقتال. في اليوم التالي توجه والد حسام إلى المدرسة، وأخبرهم أنه سيقوم بإخراج أبنائه من المدرسة نهائيًّا إذا تكرر هذا الأمر، وأخرجوا أطفاله دون موافقته.

انقطاع الرواتب وتدهور الوضع الاقتصادي

مثّل انقطاع الرواتب عن موظفي العملية التعليمية، الضربة الأكثر إنهاكًا للقطاع التعليمي، خاصة وأن هذا الأمر تزامن مع تدهور اقتصادي مريع، وفقدان العملة الوطنية لقيمتها، وبالرغم من أن بعض المدرسين يستلمون رواتبهم على فترات، في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا، يبدو مدرسي مناطق سيطرة أنصار الله (الحوثيين)، بلا سند أو مناصر.

ومن القصص التي صادفتنا، عن خبير تربوي في مركز أبحاث تربوية، أصيب بجائحة كوفيد-19، لكن المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية رفضت استقباله، لعجزه عن دفع قيمة علاجه، فانتهى به الأمر إلى الوفاة، وهو يبحث عمّن يستضيف حالته.

وهناك قصص لا تنتهي، عن عاملين وعاملات في الحقل التربوي، أصيبوا بأمراض نفسية، بسبب تدهور الجانب المعيشي لهم. أستاذ جامعي يعمل في مخبز، وآخر يبيع سندوتشات على قارعة الرصيف.

الكثير من المنخرطين في العملية التعليمية، غادروها، واتجهوا لأعمال أخرى، وبدلًا من أن يتم تسليم رواتبهم لتجنبهم الفاقة والعوز، يتم استغلال غيابهم القسري عن مدارسهم، لإحلال مدرسين من خارج العملية التعليمية.

عبدالله سالم "45 سنة" (اسم مستعار)، مدرس ثانوية، يعتبر نفسه يعيش في عزلة في ظل سيطرة أنصار الله (الحوثيين)، يقول: "كنا نعتقد أنهم رجال دولة، لكن للأسف اكتشفنا أنهم فاسدون وخيبوا ظننا".

ويتحدث عبدالله عن مثالب الحوثيين: "لم يصرفوا مرتباتنا، كنت أقوم بالتدريس في إحدى الثانويات، وعندما انقطعت المرتبات ذهبت أبحث عن عمل في المدارس الخاصة لكن وجدتهم يستغلون المدرسين استغلالًا بشعًا".

ففي المدرسة الخاصة، كان عبدالله يتقاضى مبلغ 25 ألف ريال، نظير فترة دوام من الصباح وحتى فترة الظهيرة، لكي يعول أسرته لكنه واجه معضلة في المدرسة الحكومية: "يريدونني أن أدرّس بدون مرتبات وبالقوة، بينما هددني مندوب الحوثيين بالسجن إذا لم أقُم بوظيفتي أو باستبدال مكاني الوظيفي بآخر".

يشرح هذا المدرس كيف أن الجماعة لا تعير استفهاماتهم جوابًا: "عندما تسـألهم، كيف نعيش؟ يردون عليك: "ليس لنا علاقة، تدبّر شؤونك، من أين أتدبر أموري؟ نحن نعيش على الراتب".

لذلك وعندما غادر عبدالله مدرسته، للبحث عن عمل، تم الرفع به إلى مندوب أنصار الله (الحوثيين) في المدرسة، باعتباره منقطعًا عن العمل، وتم استبداله بآخر أقل تأهيلًا، ولا يمتلك من الشهادات سوى شهادة الثانوية، مع أن المادة التي أوكل إليه تدريسها، علمية.

وفي مسعاه للحصول على وظيفة، عمل المدرس في فرن لبيع الخبز، غير أن الدخل الذي كان يتلقاه كان لا يكفيه وأسرته فاضطر مغادرتها، في الوقت الذي تلقى فيه عرضًا من مشرف جماعة أنصار الله (الحوثيين) (في الحي الذي يقطنه) بالالتحاق بإحدى جبهات القتال مقابل راتب شهري، لكنه رفض هذا العرض.

عمل المدرس بعد ذلك في إحدى البقالات (متجر مواد غذائية) لحوالي ثلاثة أشهر، واصطدم مرة أخرى بحاجز الدخل الضئيل، فالتحق ببوفية (مقهى) ليعمل نادلًا يقدم الشاي والشطائر على طاولات الزبائن، لكن لا أمل، مع وضع اقتصادي متردٍّ كل يوم، وارتفاع لا يتوقف للأسعار، ليكتشف أن الدخل الذي يعطيه أرباب هذه الأعمال، لا تكفيه، لسد رمق جوع أسرته.

في النهاية، عمل هذا المدرس سائقًا في حافلة نقل جماعة (سعة 14 راكب)، وصمد هذه المرة، ولأكثر من عام. أخبرنا، أنه يعمل من الساعة السادسة صباحًا إلى الحادي عشرة ليلًا، مع ذلك مشاكل هذا البلد لا تنتهي، فمع أزمة المشتقات النفطية الأخيرة، تصل قيمة صفيحة البترول (20 لترًا) ما بين 25 ألف ريال (41 دولارًا)، و13 ألف ريال (21 دولارًا).

الآن، في مهنته الجديدة، يشتكي المدرس من الإتاوات المفروضة على الحافلات في مواقفها المحددة، لذلك تذهب النقود التي يجمعها كل يوم، كقيمة وقود وزيت للحافلة وإتاوات، إلى جانب وجبة الغداء والقات والماء والسيجار، وما يتبقى يدفعه في نهاية اليوم أجرة لصاحب الحافلة، الذي يتكفل بدفع مبلغ من 1000 إلى 2000 ريال للمدرس السابق، بحسب الدخل والحركة اليومية.

يشتكي: "المعيشة صعبة جدًّا وغلاء الأسعار فاحش، والدخل الذي أحصل عليه بالكاد يمنعنا من أن نخرج للتسول، والعيش مستورين في الغرفة التي أستأجرها مع حمام ومطبخ، في منطقة سعوان".

لدى هذا المدرس أربعة أولاد، بنتان، وولدان، يدرس اثنان منهما، بينما الآخران في المنزل، يقول: "السنة القادمة سأقوم بتدريس أحدهما، ولو أن التعليم -حاليًّا- ليس منه فائدة، لكن احتمال أن يتغير المستقبل، أما أنا فليست لدي أي رغبة في تدريسهم، أعود من العمل متعب جدًّا، وتالف الأعصاب، بسبب مشاكل مندوبي (الفرزة) ورجال المرور والناس ونقودهم التالفة، لا تفتح عينيك في الصباح إلا على معركة مع هذا العالم".

وعن علاقته الأسرية، يقول عبدالله، إنه لا توجد لديه مشاكل أسرية، إذ إنه متفاهم مع زوجته، "ولو حصلت بعض المشادات أحيانًا فهي نتيجة ظروف الحياة الصعبة، لكننا نعود لنتفق سريعًا".

وبشأن المساعدات الإنسانية، يقول: "لا أحد يساعدنا، لكن في بعض الأشهر نستلم بعض الدقيق، ومؤخرًا بدأت بعض المنظمات بمساعدة المدرسين، بصرف مبلغ مالي رمزي كل ثلاثة أشهر تقريبًا، ومع ذلك حتى هذه المبالغ تخضع لاستقطاعات غير قانونية".

وينتهي عبدالله إلى القول: "حتى المساعدات المادية يصرفها القائمون عليها بالوساطة والمحسوبية، الحياة صعبة على كل الناس، والأسعار ارتفعت من بعد 2015 إلى 300 بالمئة، والحصار والأمراض منتشرة، وإذا صرفوا مرتباتنا، وأُلغيت قرارات الحوثيين التي قاموا من خلالها باستبدالنا، سوف أعود إلى وظيفتي".


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English