النص متخففًا من البطولة

(1-2) عن اليسار في اليمن وسلطان زيد وحكاياته
محمد عبدالوهاب الشيباني
December 17, 2020

النص متخففًا من البطولة

(1-2) عن اليسار في اليمن وسلطان زيد وحكاياته
محمد عبدالوهاب الشيباني
December 17, 2020

 لم تزل المذكرات الشخصية للسياسيين، والمثقفين، والميسورين اليمنيين تغطي النزر اليسير من تاريخ اليمن السياسي، وتاريخ الحركة الوطنية خلال المئة عام الماضية؛ لأن ما كُتِب ونُشِر خلال الفترة المتعينة هذه -كشهادات متعددة- ظل محكومًا بكثير من الاعتبارات الشخصية والاجتماعية والسياسية بدرجة رئيسية، لهذا تبدو الصورة معتمة، والحقائق مغيَّبة.

    معظم المذكرات لم يتحرر كُتّابُها من ضغوط الحسابات المختلفة، لهذا كثيرًا ما كانت مثل هذه الكتابات تعبِّر عن ذوات وأنوات متضخمة، تسندُ لأصحابها أدوارًا أكبر من تلك التي ساهموا فيها فعلًا، أو تخرجهم من جلودهم الأصلية، وتُلبِسهم جلود غيرهم، أو أن تلك الكتابات ترتجي السلامة؛ لأن صاحبها أو "ورثته" يظنون أنهم سيفقدون الكثير من مصالحهم، إن صارت محتويات النصوص صادمة أكثر بصدقها في تعرية الواقع ومُسيِّري السلطة وأربابها.

    ولهذه الأسباب، ولغيرها أيضًا، يُجمعُ الكثيرون من المهتمين أن تاريخ الحركة الوطنية في اليمن لم يدوَّن بحيادية حتى الآن، وإن اعتوارات وتشوهات جمَّة لم تزل تتلبس هذا التاريخ بمنعرجاته الجغرافية والزمنية.

    جملة هذه الأفكار انتابتني وأنا أسجل هذه الانطباعات العجولة عن قراءتي لمحطات من سيرة الأستاذ سلطان أحمد زيد، التي شرفني بقراءتها وتصحيح محتواها الطباعي الأعزاء لجنة الإعداد، الذين بذلوا كل ما يستطيعونه لجعل المادة الطويلة المسجَّلة بالصوت نصًّا سيرويًّا ممكنًا.

سلطان زيد

    الذي بين أيدينا نصٌّ متخفف من الادعاء البطولي، لكنه يحاول وبكثير من الصدق والجرأة أن يكون شاهدًا حيًّا على نصف قرن من تاريخ اليمن المعاصر، وابتدأت، بصوت الراوي، من مطلع الخمسينيات، حتى تباشير ثورة فبراير 2011، وهو التاريخ الذي أبصره وعاشه "ابن زيد" الطفل ابن الفلاح في القرية، والتلميذ في عدن، والمدرِّس في شبوه، والعسكري في المركز الحربي في تعز،  والطالب والقائد الطلابي في الاتحاد السوفيتي، والموظف المرموق في المعهد القومي، ورئيس نادي الخريجين، والمعتقل في زنازين محمد خميس، والقائد الحزبي في الجبهة الوطنية والشبيبة واتحاد الشعب، والناشط الأممي والخبير الحقوقي في منظمة العفو الدولية، والكاتب والباحث و... إلخ. 

محتوى الكتاب سلسلة متصلة من الحكايات تُجسِّم وتقرِّب صورة تكوين صاحب السيرة الثقافي والسياسي، التي فيها من الطرافة والغرابة والمكابدة الكثير، والتي يمكن أن تكون تكثيفًا للصورة العامة لكثير من كفاح الشبان اليمنيين

    كل هذه السيرة الكثيرة والكبيرة تحاول تقديم الصورة من زاوية أخرى، غير تلك التي يحاول الكثير إما ابتسارها أو تعتيمها، وفي الغالب "تنصيعها" لأسباب وحسابات مختلفة.

    هذا الكتاب سيثير، بالإضافة إلى محتواه، إشكالًا تقنيًّا من حيث قصدية التأليف، فهل هو سيرة تامة، أم استعادات لمحطات في حياة صاحبها؟ فهي في محتواها مذكرات من حيث الإسناديات التي يرويها بضمير المتكلم، لكنها في تقطعاتها الزمنية وتداخلاتها النصيَّة مع التحليل تارة، والخبر والاستشهاد والتضمين والمعلومة تارة ثانية، تصير مقروءًا هجينًا يقع بين السيرة والنصوصية، وإن كانت الأقوى فيه السيرة. الأهم في هذا كله اعتقادي أن قراءة هذا الكتاب لن تكون عابرة ومسالمة، لأن الخضَّات التي ستفعلها في متلقيها لن تكون هينة، لجهة مساءلة الكثير من المسلمات واليقينيات عن الأشخاص والأحداث.

    كانت تلك هي كلمتي التي سجلتها بعد إتمامي قراءة محتوى كتاب "محطات من تاريخ حركة اليسار في اليمن؛ تجربة خاصة"، الذي سيصدر خلال أيام، فصارت برغبة من لجنة إعداده أشبه بمقدمة، قبل أن تصير عنصر الغلاف الأخير، في تشريف لي، لم أتوقعه مطلقًا.

    محتوى الكتاب سلسلة متصلة من الحكايات تُجسِّم وتقرِّب صورة تكوين صاحب السيرة الثقافي والسياسي، التي فيها من الطرافة والغرابة والمكابدة الكثير، والتي يمكن أن تكون تكثيفًا للصورة العامة لكثير من كفاح الشبان اليمنيين، الذين كانت مدينة عدن، في الخمسينيات والستينيات، ومن بعدها مدن وعواصم العالم الأول حاضنة لرحلتهم في الحياة؛ وسنعرض في هذا الجزء لسياق حكائي مترابط، يشير إلى مرحلة محددة تبدأ من الثلث الأول من الخمسينيات حتى مطلع الستينيات، وتحديدًا منذ انتقاله من مسكن خاله في البريقة، حين كان طالبًا مبتدئًا في مدرسة النهضة الأهلية في الشيخ عثمان، إلى الإقامة في كريتر للالتحاق بالمعهد الإسلامي سنة افتتاحه في العام 1954، وسكنه في "زريبة أبقار" (مقهى فارع الشهيرة في حي القطيع)، وتاليًا انتقاله للعيش في مسجد حامد في الزعفران، بعد تركه لسكن الحاج بعد حادثة السينما، ثم عمله بمطبعة، وعلاقته بالاتحاد اليمني في تلك السن المبكرة.

    طبعًا المهمل ما قبل هذا السياق هو المتصل بمولده بإحدى قرى العزاعز في الشمايتين محافظة تعز في العام 1944، التي تعلم في كتاتيبها، وتاليًا بسفره إلى عدن في العام 1952.

 عن زريبة الحاج فارع وموسيقى الفئران يقول: 

    "أول سكن لي أثناء الدراسة في المعهد الإسلامي بحي القُطيع "زريبة أبقار" يملكها الحاج فارع العزعزي صاحب مقهى "التيسير"، والد محمد فارع الطبيب لاحقًا. وكان مديرها الرجل الطيب أحمد حيدر، كنا ننام أنا ومحمد المسّاح فوق العجور (أعواد قصب الذرة)، ونستمع إلى "موسيقى الفئران" التي تصدح من حولنا، وكنا عندما نريد أن نذاكر دروسنا نذهب إلى عند أحمد حيدر، لأن لديه "سراجًا" صغيرًا، فكنا نقرأ الكتب بدلًا من استماعنا لأصوات الفئران، وخوار البقر، ونشتم روائح "الضفع"!

    بعد ذلك انتقلنا مع الحاج فارع إلى منزله الجديد في حافة اليهود في كريتر، فكنا ننام هناك في السطح، ونصحو مع الفجر. الحاج فارع كان يبيع "التّمبل"، الذي يحضره بسلال من الهند ونحن نصفي التّمبل، وعند الصباح نذهب إلى المدرسة. أتذكر الحجة "ليلى" العاملة عند أسرة الحاج فارع، وهي إنسانة طيبة وكريمة، فقد كانت تترك لنا القليل من الأرز لكي نأكله في العصر، وبعد ذلك أقوم بأخذ الطفلة إقبال بنت العزي محمد عقلان وأذهب بها إلى الحديقة، ووالدتها تعطيني "شلن" (عملة نقدية)، مقابل هذه الخدمة الترفيهية".

 من السينما إلى مسجد في الزعفران

    "في إحدى الليالي ذهبنا للسينما، وعلم الحاج فارع بذلك وأبرحنا ضربًا، فكان هذا سبب خروجنا من بيته، حيث انتقلت دون صديقي "المساح" إلى مسجد حامد في حافة الزعفران، والسبب الذي جعلني أذهب إليه هو أن إمامه أحمد زين كتب له والدي رسالة مع ابن عمه عبدالقادر الزين، يطلب منه بقائي في المسجد، لكي أصبح فقيهًا من باب الحرص على التدين.

    بطبيعة الحال كان المسجد أحسن من بيت الحاج فارع، تتوفر فيه بعض الحرية، ننام ونصحو باكرًا، ونرتب فرشنا ونرتدي الزي المدرسي، الذي كان عبارة عن بنطلون كاكي قصير ومن فوقه بنطلون، وكنا الوحيدين أبناء المناطق الشمالية، خاصةً "الحجرية" من سمح لهم بارتداء البنطلون الطويل والمسألة مرتبطة هنا بالحذر الزائد من التعرض للتحرش الجنسي، الذي تضخم في أذهان محيطنا.

    أتذكر من زملائي في المدرسة: جابر عبده فارع، وجمال محمد عبده، وعبدالعزيز سلطان، وعبدالصمد العبسي، ورشيد رديني، وأمين نعمان، ومنصور العبسي، وأبناء ميفعة وباجمال. كان بنطلوني الطويل هو الوحيد الذي معي، في الليل أفرشه تحت البطانية وأصحو في الصباح، وهو مكويّ تمامًا.

    في الأثناء كتب أبي لـ عبدالقادر الزين (إمام مسجد العسقلاني بعدن)، وهو رجل متنور بفهمه وإدراكه لمعنى الفكر والثقافة المدنية، ومتحرر من التدين المتزمت، وابنه أمين كان يعمل مديرًا للعمال في مطبعة "اليقظة"، التي كان يملكها ويرأس تحريرها عبدالرحمن جرجرة - يطلب منه أن أعمل في المطبعة، كون الشيلينات الأربعة التي يرسلها كمصاريف لم تكن تكفي حتى للفطور، فأصبحت أعمل من أجل توفير رسوم ومستلزمات الدراسة ومصاريفي الشخصية.

السينما وقد باتت تعرف بالمدرسة الثانية بعد التعليم، أستطيع القول بأنها لعبت دورًا كبيرًا في توسيع مداركي، خصوصًا مع بداية سن المراهقة حيث يزداد الميل للفن والشعور بالحب تجاه الجنس الآخر.

    أعمل بعد الظهر في المطبعة في صف الحروف والتدريب على اكتساب مهارات جديدة، فأصبح دخلي ستة شلن. هذا يعني أضعافًا كثيرة عن المبلغ الذي كان يرسله والدي، فشعرت بالراحة والحرية، فأصبحت أدرس وأعمل.  

    كان أمين الزين لديه كتب كثيرة، المهم اكتشفتُ هذا الكنز الثمين الموضوع داخل الصندوق بسقف المسجد، وبدأت أقرأ القصص والروايات؛ "الأم" لماكسيم جوركي، و"الشقيقتان"، ومؤلفات جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وأطلِع على الشعر وبعض الصحف اليومية، ومجلتي "الكاتب، وروز اليوسف"؛ كما كنت أقرأ المقالات المجازة للنشر التي زودتني كثيرًا بمعرفة قضايا الفكر والسياسة والفن، بعدها توليت مهمة صف صفحة الشباب، وكان إلى جواري فريق من الزملاء المحبين، منهم محمد ناصر من الاتحاد الشعبي لاحقًا، وصديق باذيب، وعلي أمان في صفحة الفنون، وأحمد شريف الرفاعي، وكثير من الكتّاب. أعتقد أن عبدالله عبدالرزاق باذيب كان يكتب حينها باسم مستعار، فأعطاني هذا الوضع معارف أكثر في القراءة واستزادة للمعرفة. كنت أجد وقتًا أيضًا لقراءة الصحف الليبرالية التي تتبع توجه المستعمر.

    بالإضافة إلى الاستفادة من العمل في المطبعة، كنا نذهب لمشاهدة الأفلام في سينما اسمها "هوريكن"، إن لم تخنّي ذاكرتي، المطلة على الجبل، وتعمل بسقف مفتوح؛ فكنا نشاهد من الأعلى العروض مجانًا، لعدم توفر ثمن التذكرة، فنتعرض للمطاردة والمنع من مشاهدة الأفلام، وحينما أحصل على مال أدخل السينما بعد شرائي التذكرة. 

    استمتعت بمشاهدة كثير من الأفلام للممثلين: فريد الأطرش، يوسف وهبي، الريحاني، فاتن حمامة، نادية لطفي، وعمر الشريف، والأعمال الفنية الاجتماعية آنذاك. 

    السينما وقد باتت تعرف بالمدرسة الثانية بعد التعليم، أستطيع القول بأنها لعبت دورًا كبيرًا في توسيع مداركي، خصوصًا مع بداية سن المراهقة حيث يزداد الميل للفن والشعور بالحب تجاه الجنس الآخر. لا أنسى في السياق قصص نجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس وغيرها من المؤلفات التي عمّقت لدي مشاعر الحب تجاه معاني الوجود والنزوع لحب الحياة والتحرر".

من المسجد إلى الاتحاد اليمني

    "في المسجد كانت تتجاذبني أسئلة متعارضة هل أقرأ الكتب الثقافية أم الكتب المدرسية؟ أو ألتزم بأداء الأذان والصلاة حسب تعليمات الإمام؟ خاصةً وأن تيار الكهرباء كان يتم فصله في الساعة الثامنة مساءً، وكان هناك "دكة المترس" على شارع الزعفران بجوارها "كمبة" (عمود إنارة) ينام السُّكان وأهالي الحي وأنا أظل أقرأ القصص والكتب وأحل فروضي المدرسية إلى أن أتعب وأخلد إلى النوم. هكذا دواليك، أصحو باكرًا وأذهب إلى المدرسة، ثم إلى المطبعة في السابعة مساءً، ونتيجة لهذه الظروف غير المستقرة، انتقلت من المسجد إلى مقر الاتحاد اليمني التابع لحركة الأحرار المعارضة للإمام، الكائن في حافة القاضي. كان السكن الجديد بالطبع ملائمًا فهناك بيت به أسِرّة، وغرفة ننام فيها أنا والزميل عبدالوهاب المفتي، وفي الطابق الثاني توجد مكتبة أذهب إليها وقت الفراغ، هناك تعرفت على القاص علي محمد عبده، ومحمد علي الأكوع.

    نظرًا لحدوث مشادة بين عضوي الاتحاد "محمد صالح الأحمدي" و"محمد أحمد شعلان" بينما كنا في خارج السكن، وعند عودتنا كانت شرطة الاستعمار البريطاني قد أغلقت المقر وأفرادها مرابطون في الباب، فطردنا إلى الشارع مرة أخرى. انتابني القلق ولم أكن أعرف حينها إلى أين أذهب، وليس لدي مكان أو وجهةٌ ما أقصدها. كانت حياتنا مضنية وكثيفة بالمعاناة، لم يكن هناك جوٌّ مناسب يساعدك على الدراسة والاعتماد على الذات، أو شخص ما يوجهك ويأخذ بيدك عندما تقرر الصعوبات وتحديات الحياة احتجازك وعدم إخلاء سبيلك".


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English