"عدن ذات زمن"

المدينة التي لا تذهب إلى البحر.. البحر يأتي إليها
محمد الشقاع
June 16, 2025

"عدن ذات زمن"

المدينة التي لا تذهب إلى البحر.. البحر يأتي إليها
محمد الشقاع
June 16, 2025

يأخذنا الكاتبُ والقاصُّ، الصحفيُّ، الدبلوماسيُّ محمد عمر بحّاح، في كتابه الأخير "عدن ذات زمن" (356 صفحة، 29 فصلًا)، مُستعرضًا تاريخَ عدنَ منذ الخمسينيات حتى أيامنا الحالية، بأسلوبٍ أدبيٍّ رقيقٍ سلسٍ، يَغوصُ بكَ في عالمٍ آخَر، وَقْعُه النفسيُّ عميقٌ على مَن عاشَ المرحلةَ، ومَن رأى المدينةَ الساحرةَ في حِقَبِها المختلفة. كتبه بعشق، وهو من أجمل ما قرأت عن عدن الجميلة.

قادِمًا من قريته في منطقة الديس الشرقية بمحافظة حضرموت في سنِّ العاشرة، مُنبهرًا بأنوار المدينة "الكوزموبوليتانية" أثناء الاحتلال البريطاني (19 يناير 1839 – 30 نوفمبر 1967)، خلال 139 عامًا، نشأت حدوثةٌ اسمُها عدنُ، بمينائها الفريد (الثاني عالميًا آنذاك).

غلاف الكتاب

يَبدأ الأستاذُ بحّاح السردَ بهديةِ أخيه محفوظٍ الشغوف بالقراءة – اشترى له كتابين بدلًا من الألعاب أو الملابس – كاشفًا عن تنشئته الأدبية المُبكّرة. يَغوصُ في تركيبة المجتمع، متسائلًا عن سرِّ نجاحه رغم احتوائه جنسياتٍ وأعراقًا ودياناتٍ مختلفة، وراصدًا تحوّلات الحياة من الحقبة الاستعمارية إلى خروج الإنجليز، ثم حقبة الاستقلال، ونكسة الوحدة، وحروب 1994 و2015، حتى الانهيار المعيشي الراهن.

يَجولُ بنا في شوارع وزقاق عدن الحبيبة:

أزقّة / دكاكين / مقاهٍ ومطاعم

روائح / توابل / بخور تهمس بالذاكرة

12 مسجدًا تختزل التسامح

16 مكتبةً تشعُّ حكمةً

60 صحيفةً ومجلة

40 مطبعةً ودور نشر

40 ناديًا رياضيًا

مدينة المساكين

في مدينةٍ لا تتجاوز كيلومترين مربّعين، انصهر الجميعُ في بناءِ عدن. "مدينتي التي عشتُ طفولتي ومراهقتي ومُقتبل شبابي... المدينةُ التي تسكنُ كلَّ مَن مرَّ بها أو عاش فيها، المدينة التي لا تشعر فيها أنك غريب".

يُفكِّك عبقريةَ المكان:

البحر والجبل والشمس

كريتر (القلب النابض: فنون، أدب، تجارة)

التواهي (العقل الإداري والسياسي)

عدن، مدينة المساكين (تعايشٌ روحي: كنائس مسيحية ويهودية وفارسية وهندوسية تحت شعار "الدين لله، والوطن للجميع")، والقانون هو الحكم.

يستعرضُ قصصَ روّاد النهضة والتنوير، وعلى رأسهم المحامي محمد علي لقمان، ثم ميلاد الأغنية العدنية على يد محمد عبده غانم وخليل محمد خليل، وأولى أغنية عدنية "حرام عليك تقفل الشباك"، وكيف وُلدت فكرتُها على سفينةٍ قادمةٍ من لندن.

رائدات عدنيات

يحكي قصة التعليم والمدارس والمعلمة التربوية الفاضلة نور حيدر، وتحويل منزلها إلى مدرسة لتعليم الفتيات قبل فتح مدارس البنات الحكومية (1934)، وقصة الملهمة ماهية نجيب ومجلتها "فتاة شمسان" (1960)، والرائدات العدنيات في الصحافة والإعلام والتلفزيون والفنون...

هنا بين البحر والجبل، نشأَ جيلُ العمالقة في كل المجالات، سَبّاقٌ إلى الحداثة.

الانهيار: طمسُ الذاكرة والمعالم

(بعد 1967 إلى يومنا هذا)

مع كلِّ اسمٍ يذكره بحّاح، مع كل أغنية، اسم مكان، صحفي، معلّم مدرسة، مسجد، مذيع، فنان... يهتزُّ القلبُ حزنًا على عدن، "الهرِمة المنتهَكة المُستباحة". أينما مشيتَ هنا، يلاحقك التاريخ: طوابير "الراشن"، مقاعد الدراسة، ملاعب الطفولة، صيرة، رفقة الأصدقاء، ضحكات الزميلات، الملاعب

يلخّص الأستاذ بحّاح أن فشل "الب(د)ولوتاريا" في بناء فردوس عدن يعود إلى أن الواقع العنيد المتخلّف لا يقبل نظريات ماركس ولينين المستوردة، فلم يستطيعوا حلَّ خلافاتهم إلا بالرصاص، ثم هرعوا إلى صنعاء التي "حوت كل فنٍّ"، واكتشفوا أن ذلك ليس سوى في الأغاني! "والدخول إليها ليس كالخروج منها، وأن نفق جولدمور لا يصنع وحدة، وحتى حربُ الوحدة والموت ليست قادرةً على ذلك. كما أن حَنَقَ الغضبان لا يمكن أن يحقّق الانفصال. وفي الحالتين، لا تزال عدن تدفع سهام الغدر والخيانة والخذلان" (ص166).

صحف تُمحى "بضربة قلم" (من 60 إلى صحيفةٍ واحدةٍ عقيمة!)

أندية تتلاشى (من 40 إلى 6)

سينما تختفي من الوجود بعد قرنٍ من الازدهار

لا أحزاب، ولا صوت يعلو فوق صوت الحزب

كفاءات تُطرَد (150 موظفًا من الإعلام في يومٍ واحد – "بقايا الاستعمار!" – وقِسْ على ذلك بقية الوزارات)

تمثال "الجندي المجهول" يُنتزع من التواهي ويُصهَر في الشمال بعد حرب 1994

شواطئ التواهي تُحوَّل إلى ملاهٍ ليلية تُقصي أهلها من التمتّع ببحرها

طيور الفلامنغو في "المملاح" تدافع عن عدن عندما حاول القادمون من وراء الكهوف والطمع الاستيلاء عليها

الطمس المتعمّد لملامح عدن التاريخية (مسجد أبان والهاشمي): "لِمَ لَمْ يبنوا مساجد جديدة بدل تشويه قديمها؟"

بوابة عدن، مطاحن الهواء في المملاح... إلخ

البطش والاستيلاء على الأراضي، وحتى الجبال لم تسلم منهم. والآن يُبدأ تدمير الإنسان على قدمٍ وساق.

يقول عمر الجاوي عند شاطئ جولدمور:

"كلُّ هذا البحرِ حقُّنا، لكن لا نستطيع اصطيادَ سمكة!"

فيرد عليه بحّاح:

"أخشى أن نسألَ يومًا كالعراقيين: مَاكُوووو بحر في عدن؟!"

حين يلاحقك التاريخ

مع كلِّ اسمٍ يذكره بحّاح (الرعيل الأول من البُناة، جيلُ العمالقة)، مع كل أغنية، اسم مكان، صحفي، معلّم مدرسة، مسجد، مذيع، فنان... يهتزُّ القلبُ حزنًا على عدن، "الهرِمة المنتهَكة المُستباحة". أينما مشيتَ هنا، يلاحقك التاريخ: طوابير "الراشن"، مقاعد الدراسة، ملاعب الطفولة، صيرة، رفقة الأصدقاء، ضحكات الزميلات، الملاعب...

الألم، والخيبة، والحسرة.

عدنُ عصيّةٌ:

يذهبُ أعداؤها ولا تذهب،

راسخةٌ كجبل شمسان، حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها.

"منذ الخليقة كانت عدن هنا، وستظل شاهقةً بين البحر والجبال، لا تنفد حتى ينفد البحر، ولا تزول حتى تزول الجبال" (ص292).

*يبوح بحّاح بأن هدفه من هذا الكتاب أن تصل رسالتُه إلى الأجيال القادمة،

"وألّا يُسرَق حلمُه فقد دفع ثمنَه غاليًا".

ويُحثُّ الشبابَ على البناء، وعلى ما بناه الآباء والأجداد من ماضٍ مشرّف، متجاوزين هفواتِ وزلّات السابقين: الضالين، والمُغرَّر بهم، والمنجرفين وراء تياراتٍ لا تمتُّ إليهم بصلة، من أفكار اشتراكية إلى دينية وغيرها.

يعترف ويقول:

"نحن تاريخُ ألمٍ وانكسارات...

فلا تكرِّروا مأساتنا".

**عدن لا تذهب إلى البحر،

البحر يأتي إليها،

ولا ينحسر عنها.**

"وحين أرادها اللهُ أن تكون،

قال لها: كُوني!

فكانت عدن."

16 يونيو 2025

لندن

•••
محمد الشقاع

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English