رواية ( أساور مأرب) ؛ رواية للروائي محمد الغربي عمران ، وهي من إصدارات دار نشر عناوين ، وجاءت في 238 صفحة من المقاس المتوسط . ومنذ العتبة الأولى ، وأعني بها العنوان ، يقف القارئ متسائلا ً عن معناه ، ولعل قارئا آخر تسعفه ذاكرته فيتذكر رواية الروائي المصري الراحل يحيى الطاهر عبدالله ذات العنوان ( الطوق والإسورة )، ويجره ذهنه للربط بين المعنيين ، فالأسورة هناك كانت معاملا رمزيا للعادات والتقاليد البالية ؛ وأراها هنا في هذه الرواية تحمل ذات المعنى ، أو قل بمعنىً أدق أنها تحمل معنى التخلف الحضاري ، ولهذا فقد ربطه الروائي بمأرب ، ومعلوم أن مأرب هي صورة من صور الحضارة اليمنية القديمة.
والرواية حملت في ثناياها روايتين اثنتين إحداهما رئيسة ، والأخرى مساندة لها، أو قل هما خطان سرديان متداخلان ؛ مما يجعل السرد في الرواية متناوبا ، والصوت متعدداً، ولم يكن السرد سائرا بشكل خطي بل استخدم الغربي عمران تقنية الاسترجاع كثيرا في هذا العمل بصورة تدفع القارئ دفعا إلى التركيز على مجريات الأحداث كي لا يفلت منه حبل التداعيات ، ويفلت منه بالتالي زمام الرواية.
ترميز الأسماء
ظهر السارد في الصفحة الأولى، ثم أسلم القياد للراويتين كنز وهيلين ، وعاود الظهور في الخاتمة. وعلى هذا فراوية وبطلة الخط السردي الأول هي ( كنز )، ومن عادات الغربي عمران في رواياته أنه لا يأتي بأسماء أبطاله جزافا ، بل هو يجعل من أسمائهم رموزا ؛ ولذا فاسم بطلته كنز هنا إنما يرمي إلى هذه البلد التي هي كنز لم يستطع أهلها أن يجدوه وينتفعوا به كما يجب ، فظل كنزا مدفونا لمّا يهتدي أهل اليمن إليه. وكنز في الرواية فتاة بدوية من بدو مأرب تعيش مع أسرتها المكونة من أبيها وأمها وجدتها وأخيها الصغير ، في حين أن راوية و بطلة الخط السردي الثاني واسمها هيلين، هي مساعدة طبيب أجنبية رمز لها بالحرف الإنجليزي (H ) ، وهي التي أطلقت على البطلة كنز التي عُثر عليها مصابة ، وتم نقلها إلى معسكر تعمل فيه البطلة H ،فأطلقت عليها مسمى ( الحالة Y ) ، وفي أثناء أحداث الرواية في خطيها الأول والثاني تبرز شخصيات متعددة، وأبطال وبطلات ثانويين كثر.
وإذا كانت الرواية العربية قد شهدت حضور روايات قامت على ثنائية الشرق والغرب كما في "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم ، أو "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح أو "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس غيرهما ، وحملت قصة النداهة للروائي يوسف إدريس ثنائية الريف والمدينة ، فإن رواية "أساور مأرب قد قامت على ثنائية التخلف والتقدم الحضاري ، فكانت هيلين معادلا رمزيا للتقدم الحضاري بما صورته الرواية من قدرتها على التحرك والتصرف في حياتها دونما سيطرة من أحد ، وسفرها وعيشها واختيارها لصديقها بالطريقة التي تمليها عليها حريتها ، رغم ما في حياتها من ارتباكات إلى أنها تملك قرارها بيدها ، في حين أن كنز وهي المعادل الرمزي لليمن تحيا حياة التخلف، وهي نهب للمتسلطين يعبثون بها وبجسدها وشرفها ، وهي المرأة التي تحيا حياتها في خوف وفزع ، وهروب دائم ، لا تملك لنفسها قرارا ولا اختيارا.
إنها اليمن التي كلما أرادت أن تنهض وتلحق بالركب الحضاري الذي سارت فيه الأمم الحاضرة ؛ وجدت من أبنائها من يدفعها عنوة إلى حياة التخلف والبداوة
وفي خضم الأحداث تسعى هيلين لأن تنتشل كنز من وهدة التخلف، وحياة الخوف والرعب التي تحياها ؛ لترحل بها إلى حيث هي في العالم الغربي تحيا حياة الأمن والأمان والحرية ، تقول هيلين لكنز في إحدى رسائلها: "مغادرتك خارج وطنك ليست من باب الترف ، بل إنقاذ لإنسانيتك".
حياة العبث
هكذا لخص الغربي عمران رؤيته الفكرية لوضع اليمن ، فاليمن في وضعها الحالي لاتحيا حياة الإنسانية بما تشهده من حروب إقليمية ومحلية ، وما تلقاه من عبث العابثين من خارجها، ومن داخلها .
وإذا كانت فتحية بطلة قصة النداهة ليوسف إدريس قد هربت من زوجها وطفليها في رحلة عودتهم للقرية ، وعادت مرة أخرى بمحض إرادتها للقاهرة / المدينة، فإن كنز المأربية عادت إلى صحرائها مرغمة بعد أن تغشاها الخوف على نفسها وصغيرتها ، وقد كانت قاب قوسين أو أدنى من السفر والخروج من أسر السلاسل والأغلال والأساور التي تقيدها.
يصور الغربي عمران الموقف بجمال منقطع النظير في قوله على لسان السارد: "خرجت حاملة صغيرتها ؛ تهرول عائدة باتجاه الثغرة التي دخلوا منها . مرقت من أمام دهشة المسلحين لا تلوي على شيء، غير أن تنجو بنفسها هاربة باتجاه كثبان الصحراء".
كما يصور حيرة اليمن في اختيار طريقها الحضاري على لسان البطلة كنز حيث تقول في إحدى رسائلها لهيلين:
" لا أخفيك أن قلبي لحظتها يخفق رهبة وخوفاً / مرعوبة من القادم ، مما لا أعرفه ، أحكي لك دون أن يوجد في ذهني شيء محدد ، فقط أشكو نفسي إليك ، فهي لاتعرف ماتريد ! دوما أخاف من القادم ، لذلك يسكنني التردد. "
صورة من صور الارتباك والتخبط الذي ترزح تحت سطوته هذه البلد التي لا تستطيع أن تقرر سير خطواتها جراء هذا العبث الخارجي والداخلي. إنها اليمن التي كلما أرادت أن تنهض وتلحق بالركب الحضاري الذي سارت فيه الأمم الحاضرة ؛ وجدت من أبنائها من يدفعها عنوة إلى حياة التخلف والبداوة.