رحيل عسكر السودان

ضمانات نجاح الانتفاضة
عبدالباري طاهر
July 19, 2022

رحيل عسكر السودان

ضمانات نجاح الانتفاضة
عبدالباري طاهر
July 19, 2022

في الرابع من يوليو/ تموز 2022، أعلن البرهان انسحابه من المفاوضات التي ترعاها الثلاثية الدولية بعد أن اصطدم الجميع برفض قوى الثورة السلمية التفاوض مع العسكر، وبعد أن نصح الأمريكان والسعوديون العسكر بالخروج من الحكم. 

كان الأمريكان، ومعهم السعوديون، وهم مساندون للعسكر في السودان- يدركون صعوبة كسر الإرادة الشعبية المتجسدة في الانتفاضة الشعبية المتصاعدة، ومنذ انقلاب البرهان وحميدتي والكباشي على سيدهم البشير مع الإبقاء على نظامه، اعتبر بيان البرهان خطوة تكتيكية مكشوفة؛ لأنها تبقي على مجلس السيادة- القوة الحاكمة، رغم تغيير الاسم، وخروج المدنيين.

اسُتقبِل بيان البرهان بتصعيد الاحتجاجات، وبداية الاعتصامات، وشملت هذه الاحتجاجات العديد من المدن السودانية، وكانت النقلة الأهم توافق قوى الانتفاضة على تشكيل قيادة تصل إلى مئة تضم تنسيقيات المقاومة بنسبة 50% تتمثل فيها مختلف مدن المقاومة، والنصف الأخير موزع بين الأحزاب السياسية، والمقاومة المسلحة، والنقابات.

تمثيل المناطق المختلفة في القيادة غاية في الأهمية والإنصاف؛ فقضايا الغبن الجهوي في السودان فادح، كما أنّ تغييب العديد من المناطق كان وراء تفجر الصراع في الشمال والجنوب والذي أدّى إلى انفصال الجنوب.

ما تعيشه دارفور، ومناطق النوبة، والنيل الأزرق، والشرق (البجة) مردّه التغييب، لكن حضور الأحزاب الحديثة، والنقابات، والشباب، والمرأة، والمستقلين سيكون من أهم ضمانات نجاح الانتفاضة.

التنوع والتعدد الذي أدركته القوى الحديثة والتيارات السياسية الديمقراطية، وأكّد عليه مسار الأحداث منذ الاستقلال وحتى اليوم والذي من أجله قامت الانتفاضات المتكررة- هو جوهر وطبيعة المجتمع السوداني، لكن المأساة تسيُّد لون واحد، وإن مثل الأغلبية.

نجاح القوى الحديثة في الخلاص من تسيّد العسكر، والقوى التقليدية في المجتمع، والأحزاب الطائفية، والإسلام السياسي (الجبهة الإسلامية القومية)- يعني الانتصار على الثورة المضادة، ثم إن تململ الجنود، وصغار الضباط ضد قيادات الجيش، وقوات الدعم السريع مهم؛ لأنّ القيادات العسكرية منذ الاستقلال 1956 كانت الأداة الأساس للثورة المضادة المتطاولة منذ ثلاثين عامًا.

الانتفاضة السودانية المتجذرة منذ أكتوبر 1964، تدق آخر مسمار في نعش حكم الإسلام السياسي (الجبهة الإسلامية القومية)، وأداتهم العسكرية: البشير، والبرهان، وحميدتي- قائد الدعم السريع، وربما لأول مرة في التاريخ تتشكل منسقيات مقاومة في عموم السودان، وتتشكل قيادة لكل المكونات المدنية والسياسية الحزبية والنقابية.

يمتلك السودان إصرارًا عنيدًا على مدنية الحكم، والخلاص من حكم الغلبة والقوة؛ فهو البلد الوحيد الأفريقي والعربي الذي تتكرر فيه الانتفاضة في تحدٍّ لطغيان العسكر، والإسلام السياسي، والقوى التقليدية؛ ولعل مصدر متانة وقوة المعارضة السودانية المدنية تمسكها بالديمقراطية، وفهمها العميق لطبيعة التنوع، والتعدد، والتراث الثقافي، وتداخل الأجناس والأعراق في السودان؛ ففي السودان المسلم، والمسيحي، وأصحاب المعتقدات الأخرى، كما أنّ فيه 132 لغة حية حسب إحصاءات السودان عام 1956.

عام الاستقلال كان 52% من أهل السودان يتكلمون العربية، و20 % يتحدثونها بجانب لغة أخرى محلية: النوبيون في الشمال، والبجة في الشرق، والفور في الغرب، إضافة إلى لغات ولهجات أخرى في جهات السودان المختلفة.

التنوع والتعدد الذي أدركته القوى الحديثة والتيارات السياسية الديمقراطية، وأكّد عليه مسار الأحداث منذ الاستقلال وحتى اليوم والذي من أجله قامت الانتفاضات المتكررة- هو جوهر وطبيعة المجتمع السوداني، لكن المأساة تسيد لون واحد، وإن مثّل الأغلبية، وقد كان مصدر خلل، كما أنّ هيمنة العربية بمفهومها العرقي والشوفيني كان سبب ومصدر الصراع، هذا إلى جانب تسلط منطقة واحدة، وتهميش المناطق الأخرى والذي كان في صدارة الصراع حد المواجهة.

من يقرأ ويقارن بين ما كان يقوله ويدعو إليه الزعيم جون جرنج- القائد الفعلي للحركة الشعبية لتحرير السودان، وما يقوله ويدعو إليه حسن الترابي- زعيم الجبهة الإسلامية القومية، يدرك فداحة انتصار الإسلام السياسي المتشدد والقومي الشوفيني ضدًّا على خطابات ومواقف الشهيد محمود محمد طه والإخوان الجمهوريين، كما أنّ مواقف الشهيد طه لا تختلف أيضًا عن مواقف الزعيم الجنوبي جون جرنج.

 كان الترابي الامتداد الأسوأ للاتجاهات المتشددة والاستعلائية الملغية للتنوع والتعدد والندية والإخاء، وكثيرًا ما فرض ما يزعمه "أحكام الشريعة الإسلامية"، وأقام الحدود غير المطبقة في التاريخ الإسلامي كله على وثنيين عراة، وعلى مسيحيين لهم اعتقادهم المختلف، وفي حين كان يردد: "وحدة العقيدة أهم من وحدة التراب"، كان الزعيم جرنج يقيم المساجد إلى جانب الكنائس مميزًا بين التحرر الوطني، والبناء الوطني مدركًا ترابطهما، ويرى أنّ البناء الوطني يتكون من قوميات متعددة، كما أنّ توحيد هذه الجماعات هو التحدي الكبير. 

يقول البعض: يجب أن يكونوا عربًا، ويقول آخرون: يجب أن يكونوا أفارقة. يتحصن بعضهم بعروبته، ويتحصن بعضهم الآخر بإسلامه، ويلجأ آخرون -نتيجة إحباطهم عندما يكتشفون أنهم لا يمكن أن يكونوا عربًا؛ لأنّ الله لم يخلقهم كذلك- إلى التحصن بالدعوة الانفصالية؛ وهذا ما حدث في الجنوب بعد استشهاد جون جرنج، ثم إنّ الإصرار على نهج التمييز والإلغاء، وهو مصدر الحرب في دارفور ومناطق مختلفة من السودان- لا يزال مستمرًا.

اعتمد النميري على أمن الدولة برئاسة نائبه عمر الطيب ليس في مواجهة الشعب وحده فقط، وإنما أيضًا في مواجهة الجيش والشرطة، وكانت هذه القوة التي تحتل المدن الرئيسية مزودة بأسلحة في مواجهة قوات الجيش، وتمتلك صلاحيات واسعة، وفي حين اعتمد البشير على قوات التدخل السريع (الجنجويد) كجيش في مواجهة الجيش والشعب في انتفاضة 6 أبريل 1987- انحاز الجيش للانتفاضة، أما موقف قيادة الجيش، والتدخل السريع، فمنحازة بالمطلق لنظام البشير، ولكن تجارب الانتفاضات السودانية تؤكد انحياز الجنود والعديد من الضباط للشعب، والانضمام للانتفاضة في اللحظات الحاسمة.  

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English