قصص من الساحل الغربي

الفاقة والحرب؛ من منهما يغذي الآخر؟
عمار حسن
January 2, 2021

قصص من الساحل الغربي

الفاقة والحرب؛ من منهما يغذي الآخر؟
عمار حسن
January 2, 2021
© الصورة ل : خالد القاضي

  لا يبدو أن هناك نهاية قريبة في أفق الحرب، التي تبدو كثوب مهترئ؛ لا تزال تتسع خروقه وتستعصي على الراقع، وتترك تشوهاتها على الحياة المدنية بشكل عام.

    تفرض ظروف الحرب -في الساحل الغربي واليمن عامة- على الناس اتجاهات إجبارية يسلكونها إلى أرزاقهم. ومع مرور الأيام تضيق الخيارات، ولا يبقى إلا اقتحام مَوَاطن الموت لأجل البحث عن الحياة.

    فمع ارتفاع الأسعار لم يعد يصدق الناس ما كانت عليه متطلبات الحياة قبل ستة أعوام، مع أنها كانت جائرة عليهم في حينها. ومع شحة فرص العمل في القطاعين العام والخاص، وتوقف صرف المرتبات، والاستغلال الذي يمارسه بعض أرباب الأعمال في القطاعات الخاصة، يقع المواطن فريسة سهلة لأطراف الحرب، التي توفر له راتبًا يعتقد أنه يجنبه وأسرته عناء الجوع والفاقة.

    حتى أولئك الذين أُعيد صرف مرتباتهم من موظفي القطاع العام، فقد عادت المرتبات بالحد الذي كانت عليه قبل ماراثون الأسعار الذي لا يتوقف، ولم يعد الراتب يكافئ الكرامة التي يريد أن يحافظ عليها الموظف، وبالتالي فمصائد الجبهات أغرت حتى المعلم، والطبيب، والفني، بل وحتى الطالب.

    زرت العديد من المدارس في مديريتي المخا وموزع، ورأيتها فارغة إلا من أعداد زهيدة من الطلاب والمعلمين؛ وحين سألت المتواجدين منهم عن السبب؟ أجابوا بأن غالبية المدرسين واللاب انخرطوا في جبهات القتال، أو ذهبوا للبحث عن فرص عمل أخرى تؤمِّن لهم الحد الأدنى من الطعام والشراب.

    سألت فيصل علي محمد، معلم (40 سنة)، عن ذات السبب، فقال: "أعمل موظفًا في التربية والتعليم منذ قرابة عشرة أعوام، وراتبي منذ ذلك الحين لم يتجاوز 42 ألف ريال (70 $)، وأعول 10 أنفُس في البيت، والأسعار بهذا الجنون الذي ترى".

    ويواصل بالقول: "أحيانًا تصلنا أخبار أن الراتب نزل، فأستأجر دراجة نارية بخمسة آلاف ريال، وأذهب إلى مركز مديرية المخا لاستلام الراتب، وفي كثير من الأحيان حين نصل إلى مركز المديرية، نتبين أن الراتب لم ينزل بعد، وأنه قد يتأخر يومًا أو عدة أيام أخرى، فأنتظر يومًا آخر وأستقل دراجة نارية أخرى بذات السعر؛ ما الذي يتبقى من هذا الراتب؟". 

    ويتابع فيصل بالقول: "لهذا اضطر الكثير من الزملاء إلى البحث عن مصادر أخرى للدخل، وأكثرهم توجه نحو الجبهات؛ كونها الأعلى أجورًا، أما أنا ففضلت الذهاب إلى المدرسة للدوام". ويوضح أنه في كثير من الأيام يذهب إلى المدرسة دون تناول وجبة الإفطار، "فليس في البيت ما نأكله، وحتى أولادي، يذهبون إلى المدرسة جائعين".

تلتهم الجبهات الكثير من الرجال البالغين والأطفال الذين تسمح لهم أسرهم تحت ضغط الحاجة بالذهاب إليها، أو حتى إلى سوق العمل، التي أضحت مخاطرها لا تختلف كثيرًا عن جبهات القتال

    وتحدث المدرس، عن صعوبة المعيشة في ظل الوضع الحالي بالقول: 

    "مؤخرًا قلت لابني الأكبر همام (14 سنة)، يجب أن تتوقف عن المدرسة وتذهب للعمل لأجل أن تساعدني في مصاريف البيت. فذهب للعمل والغصة في حلقه، وقلبي يعتصر ألمًا عليه، وبعد أن توقف عامًا عن المدرسة عاد إليَّ يبكي ويقول: "أريد الذهاب إلى المدرسة وإكمال الدراسة"، فاتفقت معه على أن يعمل أسبوعًا ويدرس أسبوعًا، وهذا ما يحصل".

    في كثير من الأحيان أضحت جبهات الحرب في الساحل اليمني الثقبَ الأسود الذي يبتلع السكان على غير قناعتهم، إلا من الفكرة الخداعة من أنهم يحمون أنفسهم وأسرتهم من الوقوع في هوة الفقر والبؤس. ومع أول خطوة في هذا الطريق، تتكشف الكارثة يومًا عن يوم، وتتفاقم المأساة، ويظل البؤس والحرب يدوران في حلقة مفرغة، كل منهما يغذي الآخر.

    تلتهم الجبهات الكثير من الرجال البالغين والأطفال الذين تسمح لهم أسرهم تحت ضغط الحاجة بالذهاب إليها، أو حتى إلى سوق العمل، التي أضحت مخاطرها لا تختلف كثيرًا عن جبهات القتال، في ظل انتشار السلاح وجعله الخيار الأول في حل الخلافات والمشاجرات.

    عبده بن عبده علي فلق (17 سنة)، الفتى القروي والهادئ -كما يتحدث عنه شهود عيان- ذهب للعمل بالأجر اليومي في كشك صغير لبيع المواد الغذائية، داخل فناء مطعم في مدينة المخا. وبينما كان يتحضر للنوم بعد يوم شاق من العمل، لمساعدة والده في إعاشة أسرته، جاء خمسة مسلحين (يعملون في التهريب، كما يفيد الشهود) لأجل العشاء في المطعم.

    وفيما جاء أحد المسلحين من أهالي تهامة للعشاء وهو يستقل دراجته النارية، التي يحمل عليها كيسًا صغيرًا من السكر، رآه المسلحون الخمسة، فاستنكروا عليه جلوسه على السكر، واعتبروه امتهانًا للنعمة وحرامًا.

    دار النقاش والخلاف بينهم على ذلك النحو، حتى أفضى إلى اشتباك مسلح، أودى بحياة الفتى عبده فلق، بعد إصابته بطلق ناري في رأسه، عند الساعة 1:30 ليلًا في الـ13 من يونيو/ حزيران 2020.

    في الساحل الغربي، تتقاسم الأسر بشكل يومي، البؤس، والجوع، والكثير من الخوف، والكثير من القتل، والكثير من البكاء، والكثير من التشوهات البدنية والنفسية، دون أن يلوح أمل قريب بانتهاء كل ذلك.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English