سطوتهم وانتهازيتنا

تتويج لتاريخ من وعي مشوّه!
د. نجيب الورافي
April 26, 2023

سطوتهم وانتهازيتنا

تتويج لتاريخ من وعي مشوّه!
د. نجيب الورافي
April 26, 2023

كل نظام لا تتحقق له السلطة أو السطوة، ما لم يمنحها له من يحكمهم، ولكل سلطة قائمة أدواتها الخاصة التي تدير بها المحكومين لتصبح نافذة الأمر على محكوميها، وتختلف أساليبُ كلِّ سلطةِ حُكمٍ في الحصول على منح أسباب نفوذها وصلاحيتها؛ فالغرب -وهو الأحسن حالًا منّا- يجعل ديمقراطيته أساسًا لتشريع أحقية أنظمته في الحكم بمرجعيات دستورية ثابتة وباستعمال الإعلام وسيلة في توجيه وعي الجماهير واللعب على المكشوف، لعب إيجابيّ محبَّب يستهدف احترام كرامة الإنسان وحقّه في المواطنة والعيش الكريم، بينما تتباين في الشرق أساليب أنظمته الحاكمة في تشريع سلطاتها من بلد إلى آخر، بين الشمولية السياسية الأيديولوجية، الدين السياسي، الطائفة السياسية، العسكرية السياسية، الدساتير الميتة، الديمقراطية الوهمية.

اليمن، وهي من الدول التي يصعب معها وضع تعريف دقيق أو جامع مانع -كما يقال- لهُوية أنظمتها المتعاقبة على حكمها في التاريخ المعاصر، ربما باستثناء حكومة جمهورية اليمن الديمقراطية في جنوب ما قبل الوحدة وفي مدة محدودة، وما عدا ذلك فخلال عقود من تعاقب أنظمة وسلطات، لم تستند هذه الأنظمة من الناحية العملية إلى مرجعية واضحة، فتشكل نظام الحكم بمثابة هيكل رخو أجوف، وتشكّلت تبعًا لذلك طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم التي يفترض أن تمثّل العقد الاجتماعي، دستور الدولة، فوجدت بدلًا عن الدولة المؤسسية المنشودة، مؤسسة النظام، وتمثّلها الجماعة، العصبة، الجيش، المنطقة، أو الحزب المركب من كل ذلك، لينتهي بها الحال إلى مجرد كيان متهالك، أُعِيد إنتاجه ونسجه في نسق تسلطي أحادي، أو بقايا دولة مركبة من أطراف متباينة البنى والتوجهات، شبه موحدة في الموقف والهدف.

على مدى العقود الماضية، سيطر ويسيطر علينا، نحن -اليمنيّين- مبدأ الانتهازية السياسية، من نوع غريب مخالف للمألوف، حتى في الفقه الاقتصادي الميكيافيلي، عشنا زمنًا وفقَ معادلة "أنا أطيعك مقابل أن أنتفع بمفردي"، سواء على مستوى المكونات الاجتماعية والسياسية العليا الفاعلة أم في حدود مصلحة الفرد الواحد، مسؤول الحزب يضمن للحاكم ولاء حزبه، وشيخ القبيلة يضمن أفراد قبيلته أو منطقته، وزعيم الطائفة والسلالة والجماعة الدينية يرفع مصالح من يقودهم، وهكذا، وعلى هذا الأساس تم توزيع الأموال من خزينة الدولة والمناصب ومُنحت الهبات، وغدت المشاريع الأساسية للبلد أمرًا ثانويًّا في نظر الحاكم والمحكوم معًا، غاب مشروع الدولة ومبدأ المواطنة، والعدالة الاجتماعية، وتضاءلت مشاريع البناء والتنمية أمام تيار الأنانية الفردية الجارف.

الأدهى ممّا سبق، هو أنّنا أصبحنا، نبتة هذا الوضع الشيطاني الشاذ والمشوه حتى بلغنا في مسخ ذواتنا على مستوى الفرد والمجموع، درجةَ التسليم واليقين، ثم أنكرنا وكفرنا بما عداه، مدرسة كارثية مريعة تعلم الشذوذ والانحراف لا المنطق والسوية، مدرسة رذيلة، كل مخرجاتها هو امتلاك مهارة الطاعة والإذعان وبراعة اللعب في تقسيم ولائنا لمراكز قوى الأكثر بطشًا ونفوذًا في سلطة أو مال، لم يعد يهزنا رؤيتهم يتقاسمون فيما بينهم السلطة والسطوة علينا، بل وغدا كلانا، نحن وهم، يحارب في سبيل نجاح مخرجه؛ نحن نحارب من أجل مزيد من الولاء المذل والمهين، وهم يحاربون بنا من أجل مزيدٍ من الاستبداد وإحكام القبضة علينا.

لا عجب أن تؤول حالنا الآن إلى حرب شاملة كالتي نعيشها وتعتصرنا أوجاعها وعظم مآسيها، فليست سوى تتويج لتاريخ من وعي مشوه بحروب صغيرة ماضية استوطنت أعماقنا، متعدّدة الأشكال وموحدة الهدف وهو انتهازيتنا، ولا عجب أيضًا أن ترخص مصالحنا في الطرف التافه لمعادلتها لدرجة الصفر. في ظلّ سطوة الحرب الحالية وسلطتها، تراجعت مشاريع الحوار والسلام، ومعها انحدر رصيدنا الانتهازي النفعي إلى سحيق العيش المجاني في أتونها الطاحن والماحق، فلأنّنا تعلمنا التكيّف مع تدمير الوعي ونسيان المنطق، انسقنا إلى الإيمان بالخرافة، ولأنّنا تمكّنا من أن نجيد الكذب والمواربة وغياب الضمير، وجدنا مصالح وطننا ومصالحنا في هذا الهباء والخراب المتراميين.

جرتنا الحرب إلى مربعها الملغوم بالقتل اليومي المجاني والعبث والفوضى وممارسة السطوة في القمع وتكميم الأفواه، كل ذلك يحدث بمبرر الحرب وسلطتها الغاشمة، صرنا في مرماها أكثر انتهازية وعبودية، نتسابق لإظهار الطاعة بالمجان، نتنافس في الصمت والخوف وفصام الذات والرياء بلا مقابل، سوى أن نثبت أننا مجرد أشباح فشلٍ في هذا الهباء المتلاطم. ماتت الدولة، تلاشى هامشها، وآلَ مصير الحكم المؤسسي إلى قبضة ولي الأمر الفرد، الذي يقول ويأمر ونحن نتسابق للقعود في حضرته فنسمع ونطيع.

كانت الحرب هي الصخرة التي تحطمت عليها مؤسسة الدولة اليمنية، وانقسمت معها إلى سلطات حرب على امتداد الجغرافية اليمنية، في الشمال والجنوب والشرق والغرب، وأمام هذا الانقسام تشظت إرادة اليمنيّين وتشتّتت أحلامهم في الحياة، وانقسمت ولاءاتهم بين الأطراف المتصارعة.

على المستوى الرأسي انقسم الساسة والأحزاب والمكونات، وعلى المستوى الأفقي صار المواطن منقسمًا على عماه وواقعه المعتم، رهن حاجته المسلوبة والمحتكرة بيد هذا الطرف أو ذاك، بات أسير خطط التجويع وأدوات الاستغلال والاستبداد، سطوة صنعت مناخًا انتهازيًّا صالحًا لطاعة الناس لها؛ إما طوعًا بدافع غريزي مرَضيّ مزمن، أشبه بسلوك القطيع، وإما غصبًا تحت الإكراه.

سطوات مختلفة متنازعة بينها وموحدة القبضة على رقاب اليمنيين! على مدى ثماني سنوات وهي تحارب بالرغيف والمعاش، حد راتب الموظف؛ ما يتقاضاه من أجر لقاء ما يعمل، وهو مما لا يمس في أكثر حروب العالم وحشية وبشاعة، لكنه حدث في يمن الحرب، وعنه حدث هذا الانقسام المعاشي في النسيج الوظيفي للدولة الواحدة، هوة سحيقة مميتة، وضعت البلد بين خيارين أحلاهما موت؛ خياران هما الصمت والجوع! وبينهما يقف اليمنيون حائرِين يتذرعون بالصبر على المكاره ينتظرون الفرَج إلى أجلٍ غيرِ مسمّى.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English