أحلام صغيرة تفترش الأسفلت

أطفال يُجبرون على إعالة أسرهم في شوارع صنعاء
وفاء سليم
February 11, 2024

أحلام صغيرة تفترش الأسفلت

أطفال يُجبرون على إعالة أسرهم في شوارع صنعاء
وفاء سليم
February 11, 2024
.

في السادسة من كل صباح، يستيقظ مختار ذو الثالثة عشرة من عمره، لا ليذهب إلى مدرسته كأقرانه من الفتيان، ولكن للبحث عن لقمة العيش وتوفير احتياجاته هو وعائلته المكونة من أم وأربعة أطفال، من خلال جمع العلب البلاستيكية الفارغة وبيعها من أجل الحصول على قليل من المال.

يجر مختار عربته الصغيرة، التي تُظهر براءة طفولته المسلوبة من خلال زينته البسيطة على العربة واهتمامه بها، فنلمح وميض أمل بغدٍ مشرق رغم قساوة الحياة، ونلحظ من وراء ابتسامته المكسورة الكثيرَ من المعاناة، فالصغير لم يختَر هذه الحياة كغيره من أطفال اليمن، الذين تقطعت بهم سبل العيش، في ظل واقع مرير يعيشه أغلب اليمنيين منذ تسعة أعوام. واقعٌ يعكس عجز الأطراف المتصارعة في اليمن طيلة السنوات الماضية، التي جعلت من الأطفال وذويهم منزوِين في هامش الشقاء، يحلمون بحياة جميلة كانت تنتظرهم، بَيد أنها أصبحت مؤجلة.

يتعرض الآلاف من الأطفال في اليمن للعديد من الانتهاكات بمختلف أنواعها، التي خلّفت أضرارًا جسدية ونفسية جسيمة، كما أنها حرمتهم من حقهم في العيش بسلام منذ بداية النزاع القائم في اليمن، عقب سقوط العاصمة صنعاء في أيدي جماعة أنصار الله (الحوثيين) وبَدء غارات التحالف العربي المؤيد للحكومة المعترف بها دوليًّا، مما فاقم من تدهور كل مقومات الحياة، لا سيما الاقتصادية والاجتماعية، وكان ضحاياها الملايين من الأطفال، الذين لا يزالون يدفعون ثمن صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل.

يستمر ذلك حتى بعد إعلان المبعوث الخاص للأمم المتحدة هانس غروندبرغ، وقفَ الأعمال القتالية العسكرية في الثاني من أبريل/ نيسان ٢٠٢٢، بعد الاتفاق على هدنة بين طرفي النزاع ثم تمديدها إلى أن تم إخمادها نسبيًّا في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي 2022 حتى اللحظة.

لا يقتصر استغلال الأطفال على الذكور فقط، حيث تقوم الكثير من العائلات باستغلال الفتيات أيضًا على الرغم من أنهن أكثر عرضة للتحرش والتعنيف في الخارج.

بالرغم من ذلك، لا يزال الأطفال يعيشون نفس الأثر، حيث إنّ إيقاف الصراع المسلح بشكل واسع لم يغيّر بشكل إيجابي في حياتهم، بل تفاقمت معاناتهم إلى أدنى مستوى مع تحول فئة كبيرة منهم إلى حياة الشارع، إما ليعولوا أسرهم في سوق العمل، أو للتسول وغيره، في الوقت الذي تؤكد فيه منظمة اليونيسف أنّ هناك نحو مليونَي طفل في اليمن تسرّبوا من التعليم، منهم 500 ألف طفل نازح.

في السياق، يقول الطفل مختار، الذي نزح مرتين أثناء النزاع من الحديدة إلى صنعاء، لـ"خيوط"، إنّ المساعدات الإنسانية لم تصلهم إلا خلال الأشهر الأولى من النزوح، وهذا ما اضطره لترك الدراسة والعمل في جمع العلب البلاستيكية.

معاناة متفاقمة

بوجه شاحب ونظرات تُخفي وراءها الكثيرَ من الأسرار، يتحدث الطفل أسامة خلدون (9 أعوام)، عن أنه يقضي ما يقارب ست عشرة ساعة متجولًا في شوارع العاصمة صنعاء، يحمل ميزانه معه، وبعضًا من المناديل لبيعها، متنقلًا بين أرصفة شوارع منطقة الصافية وشميلة (شمال غربي صنعاء)، إذ فقد الصغير أحلامه وأصبح يحمل عبئًا ومسؤوليةً لا تتناسب مع جسده النحيل، خاصة وقت الظهيرة، حيث يتعرض أسامة لأشعة الشمس الحارقة.

يقول أسامة لـ"خيوط"، إنّ والده يطالبه مساء كل يوم بخمسة آلاف ريال؛ أي ما يقارب 13 دولارًا، وإذا لم يقم بدفع المبلغ المطلوب كاملًا، فإنه يتعرض للضرب المبرح، في حالة تعكس السادية لدى بعض الآباء المتواكلين والذين يجعلون أطفالهم عرضة للمضايقة في الخارج والتعنيف والضرب في المساحة الآمنة الوحيدة للأطفال، وهي المنزل.

يفتقر معظم الأطفال في اليمن لأدنى مقومات الحياة، إذ يعيش 80% من سكان اليمن في فقر مدقع؛ بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية؛ وذلك أسهم في تزايد خطر الإصابة بسوء التغذية بين الأطفال بمعدل اثنين من كل خمسة أطفال، خاصة أنّ اليمن يُعدّ من المجتمعات الفتية، حيث يمثل 40% من سكانه، من هم أقل من 14 عامًا، إذ تشير اليونيسف إلى أن هناك 11.3 مليون طفل بحاجة إلى مساعدات إنسانية طارئة، منهم (2.3) مليون طفل دون سن الخامسة.

في السياق، يقول الطفل حسين المنتصر (14 عامًا)، لـ"خيوط"، إنّ والده يأتي به هو وإخوته الثلاثة كل صباح إلى صنعاء، قادمًا من منطقة بني "حشيش"، منطقة ريفية تقع شرقي العاصمة اليمنية لبيع بعض الأواني المنزلية، في حين يقوم بتنبيههم بألّا يعودوا إلى "القرية" إلا بعد أن يكملوا بيع البضاعة كلها، ويُعتبر ذلك مرهقًا جدًّا لأطفال لا تتجاوز أعمارهم الخمسة عشر ربيعًا؛ إذ يتنقلون بين المنتزهات والشوارع، ويضطرون أحيانًا للذهاب إلى المنازل وطرق الأبواب على ساكنيها لتصريف البضاعة التي لديهم.

يضيف حسين: "يحذّرنا والدي من العودة إلى المنزل بالبضاعة؛ لذا عندما يكون السوق باردًا ولا نجد من يشتري منا القلاصات والسكاكين والكفوف، نمرّ للبيوت لبيعها، لكي نستطيع العودة إلى القرية قبل المغرب وحلول المساء".

لا يقتصر استغلال الأطفال على الذكور فقط، حيث تقوم الكثير من العائلات باستغلال الفتيات أيضًا، على الرغم من أنهن أكثر عرضة للتحرش والتعنيف في الخارج، إذ تؤكد فتحية غلاب، أخصائية اجتماعية، لـ"خيوط"، أنّ كثيرًا من الأسر تعمل على استغلال أطفالها للعمل خارج المنزل، وبظروف سيئة لا تتناسب مع أعمارهم، ولا قدرتهم الضئيلة على تحمل الأذى النفسي وحتى الجسدي الذي يتعرضون له.

تروي غلاب هذه القصة من وحي تجربتها في العمل كأخصائية اجتماعية، في إحدى المدارس بصنعاء: "كانت هناك طالبة في الصف السابع تأتي والدتها لإخراجها قبل انتهاء الدوام الدراسي، وفي كل مرة كانت تأتي بعذر بسيط، إلا أنني كنت أسمح لها بالخروج، ولكن عندما زاد الأمر منعت الطالبة من المغادرة قبل انتهاء الدوام الدراسي، ثم أُفاجَأ بأن الأم أجبرتها على ترك الدراسة".

أُجبِرت الطالبة على ترك الدراسة، لأنها مُنعت من الخروج قبل انتهاء الدوام الدراسي؛ فوالدتها كانت تأخذها من المدرسة لتساعد شقيقتها في بيع "اللحوح" (نوع من المخبوزات)، أمام إحدى المحال التجارية، حيث تشير غلاب إلى أنّ استخدام بعض الأسر لأطفالهم في عملية البيع، يأتي بهدف الاستعطاف أكثر من كونه بسبب الحاجة والعوز، كما تضيف بالقول: "علينا أن نلقي اللوم على الأم في غياب الأب؛ لأنها قادرة على العمل وجلب الرزق لأطفالها، دون المساس بطفولتهم وخدش براءتهم نتيجة ما يتعرضون له في الشارع".

طفولة مؤجلة 

تعد ظاهرة تشغيل الأطفال دون الخامسة عشرة من الظواهر الأكثر انتشارًا في وقتنا الراهن، على الرغم من مطالبات الكثير من المنظمات الحقوقية والجهات المهتمة بالطفل بمحاربة عمالة الأطفال إلا أن تردي الأوضاع الاقتصادية نتيجة الصراع القائم في اليمن منذ 9 سنوات، إضافة إلى انتشار الجهل بحقوق الطفل واحتياجاته، أسهم في تفشي ظاهرة تشغيل الأطفال، وإسكات كل الأصوات المناشدة بإيقافها؛ لاعتبار ذلك ثقافة مجتمعية سائدة. 

بدوره، يقضي عز الدين مرشد، البالغ من العمر 15 عامًا، معظم فترات النهار مرافقًا أحد الحدادين في ورشته بمقابل ألفَي ريال يوميًّا، بالرغم من خطورة مهنة الحدادة التي قد تعرضه لإصابات جسيمة تؤدي في بعض الأحيان إلى الإعاقة الدائمة، إلا أن عز الدين فخور بكونه يعمل، حيث يقول لـ"خيوط": "الشغل ليس عيبًا، ما الذي سأفعله بالمدرسة، لا مدرسين ولا تعليم، حتى المتعلمين يتخرجون إلى الشوارع بدون وظائف".

ساعد التسرب المدرسي في تفشي ظاهرة عمالة الأطفال في نطاق واسع، كما أن تدني المستوى التعليمي وغياب المعلمين وفرض رسوم على طلبة المدارس الحكومية جعل غالبية الأسر تشجع أطفالها على العمل، ليس هذا فحسب، بل شجع أصحاب المهن على قبول الأطفال وإعطائهم فرص عمل بدلًا من البالغين؛ لأنهم يتقاضون دخلًا أقل، ويتم استغلالهم لساعات عمل أطول، أيضًا هم أكثر سرعة في إنجاز الأعمال دون تذمر أو تكاسل، فغالبيتهم لا يحتاجون إلى أوقات للراحة كالبالغين.

تكتظ الشوارع والأحياء والأماكن العامة في مختلف المدن اليمنية بعشرات الأطفال الذين يعملون باعة جائلين، أو متسولين، في حين تنتشر أعدادٌ أخرى في العمل بمهنة صيد الأسماك، وفي الحقول الزراعية وقطف أوراق نبتة "القات"، وفي الأسواق للعمل في مهن وأعمال متعددة لا تناسب سنهم.

الباحث الاجتماعي، عادل الحيدري، يقول لـ"خيوط"، إن المشكلة في هذا الموضوع اقتصادية ومعيشية بالدرجة الأولى، حيث يكافح الكثير من الناس لتوفير لقمة العيش التي أصبحت شاقة ومضنية؛ الأمر الذي يجعل الأطفال في مقدمة ضحايا هذه الظروف الصعبة التي تجردهم من طفولتهم وأحلامهم وتدفعهم إلى حياة الشارع المضنية، التي يألفونها ويستبدلونها بالمنزل والمدرسة التي لم تعد هناك من جدوى للالتحاق بها؛ لأن مشقة هذه الحياة التي أُجبروا على خوضها قد أفرغتهم من أحلام الطفولة.

كانت الحكومة اليمنية قد أقرّت في عام 2002 قانون حقوق الطفل في اليمن الذي يحدد الحد الأدنى لسن العمل القانوني في 14 عامًا. ولكن، في الوقت الذي يحظر فيه القانون تشغيل الأطفال دون سن 15 عامًا في العمل الصناعي، لم يضع أية قيود على عمل الأطفال في الأعمال والأنشطة والمشاريع الأخرى الخاصة.

وأدّت الحرب والصراع في اليمن، إلى تفاقم مستويات عمل الأطفال عما كانت عليه في السابق، كما أنّها تسببت بعكس مسار التقدم الذي كانت اليمن، كغيرها من البلدان العربية، قد أحرزته في مكافحة عمل الأطفال من خلال ما انتهجته من سياسات مكافحة.

كانت "خيوط" قد رصدت سابقًا ما يشهده اليمن من تزايدٍ خطيرٍ في أعداد الأطفال المنخرطين في سوق العمل بفعل الحرب والصراع الدائر في البلاد، وما تسبّب به من نموِّ كثيرٍ من الآفات والظواهر المجتمعية، وتفجير أكبر أزمة إنسانية على مستوى العالم.

واستنادًا لرصد ميداني ضمن تحقيق نشرته "خيوط"؛ تكتظ الشوارع والأحياء والأماكن العامة في مختلف المدن اليمنية، بعشرات الأطفال الذين يعملون باعة جائلين، أو متسولين، في حين تنتشر أعدادٌ أخرى في العمل بمهنة صيد الأسماك، وفي الحقول الزراعية وقطف أوراق نبتة "القات"، وفي الأسواق للعمل في مهن وأعمال متعددة لا تناسب سنهم على الإطلاق. 

ويقدر عدد الأطفال العاملين في اليمن، بحسب آخر بيانات رسمية صادرة قبل العام 2015، بنحو (1.6) مليون طفل، بينما يقدر عدد الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و17 عامًا، بنحو 7.7 ملايين نسمة، ويشكلون 34.3% من إجمالي السكان اليمنيين.

في حين أنّ معدل العمل أعلى عند الأطفال الأكبر سنًّا مقارنة مع الأصغر سنًّا، حيث يبلغ معدل الأطفال العاملين الذين تتراوح أعمارهم بين (5 و11) عامًا 11%؛ يتوزعون بين 12.3% للإناث، وحوالي 9.8% للذكور، وترتفع هذه النسبة إلى 28.5% لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين (12 و14) عامًا، وإلى 39.1% لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين (15 و17) عامًا. 

•••
وفاء سليم

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English