صنعاء تلاحق العباءات الملوّنة

سلطة تحصر مهامها في التضييق على المجتمع
إبراهيم عبدالله
February 6, 2023

صنعاء تلاحق العباءات الملوّنة

سلطة تحصر مهامها في التضييق على المجتمع
إبراهيم عبدالله
February 6, 2023
Photo by: Shohdi Alsofi - © Khuyut

في العاشر من يناير/ كانون الثاني من العام الجاري، عقدت جماعة أنصار الله (الحوثيين) اجتماعًا في المركز الثقافي بصنعاء، مع عددٍ من مالكي محلّات العباءات النسائية في العاصمة صنعاء، لتحديد ما أسموها بضوابط اللباس، وإخطار مالكي المحلّات بالتخلص من جميع أنواع البالطوات والعباءات التي تُخالف الضوابط الشرعية المُحدّدة من قِبلهم.

هذا، وكان الاجتماع قد عُقد مطلع يناير/ كانون الثاني 2023، في المركز الثقافي بالعاصمة صنعاء، بحضور نائب وزير الداخلية، وأمين أمانة العاصمة، ومدير أمن الأمانة، ووكيل وزارة الثقافة، والعديد من المسؤولين والضبّاط، وبحضور العديد من مالكي محلّات ومعامل خياطة وبيع العباءات النسائية الذين تم استدعاؤهم عبر مندوبين كُلّفوا من قِبل أمانة العاصمة بالنزول إلى محلّاتهم وتوقيعهم على حضور الاجتماع في الموعد المذكور، في حين عقد اجتماع آخر لنفس الغرض في 30 يناير/ كانون الثاني.

يقول أحد ملاك محلّات العباءات، ممّن حضروا الاجتماع -فضّل عدم ذكر اسمه- لـ"خيوط": "زارني في محلّي رجلٌ مُسلَّح ولكنه بلبسٍ مدنيّ، أخبرني أنّهُ مُكلّف من أمانة العاصمة، وأبلغني بتاريخ ومكان الاجتماع. دوّن اسمي ورقمي في ورقة مليئة بالأسماء، ثمّ طلب توقيعي عليها فوقّعت. وفي يوم الثلاثاء، ذهبت إلى الاجتماع الذي كان في المركز الثقافي بصنعاء".

وحول ما دار في هذا الاجتماع، يضيف المصدر، الذي فضّل عدم ذكر اسمه: "بدأ الاجتماع بمحاضرات دينية عن الحشمة، ولباس المرأة، وعن الهُوية الإيمانية، وعن الفساد الأخلاقي الذي يحدث بسبب العباءات التي نبيعها، ثم أملوا علينا بعض التعليمات، وشدّدوا على الالتزام بها؛ كعدم توفير أو خياطة أيّ نوع من العباءات أو البالطوات المُخصّرة أو المطرّزة "المُزهنقة" أو الملوّنة، والالتزام باللون الأسود فقط، كما أخبرونا بأنّهم يعتزمون إصدار قرارات تُلزم موظفات القطاع الحكومي والقطاع الخاص باللبس الأسود الفضفاض ولبس الخمار الشرعي، ولذلك يريدون منّا الالتزام بتوفير هذا النوع من العباءات فقط".

مُضايقات استباقية

سبقَ اجتماع "الفضيلة" هذا، ممارسات عديدة، تطور بعضها للانتهاك والمضايقة خلال الأعوام الماضية من قبل جماعة أنصار الله (الحوثيين) تجاه الحياة الاجتماعية والحُريّات الخاصة بالنساء في صنعاء وبقية المُحافظات الواقعة تحت سيطرة الجماعة، ابتداءً من منعهنّ من السفر أو التنقل بين المُحافظات إلا بمحرم، مرورًا بإغلاق الكافيهات والنوادي الصحية الخاصة بالنساء، وصولًا إلى مُصادرة وإحراق ما أسموها بـ"العباءات النسائية المُخالفة للشرع".

إحدى هذه الممارسات، ما حدث في ديسمبر/ كانون الأول سنة 2019، حيث نفّذت الجماعة حملات لمُصادرة وإحراق البالطوات والعباءات من محلّات العاصمة صنعاء، وانتشرت فيديوهات عديدة على مواقع التواصل الاجتماعي توثّق إحراق ما أسموها بـ"ربطات البوالط"، وهي خيوط تُلفّ حول منطقة الخصر في البالطوات والعباءات. انتشار هذه الانتهاكات وتداولها في أوساط الناس، تسبّب بموجة جدل واسعة بين أوساط الناس وفي مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تحول الموضوع لترند ساخر تحت هاشتاج (#معركة_ذات_البوالط).

استفزاز وابتزاز 

سُعاد -اسم مُستعار- هي مالكة أحد محلّات العباءات الجاهزة في العاصمة صنعاء، تتحدّث لـ"خيوط" حول هذه الممارسات، قائلة: "صحيح أنّه لم يصلني استدعاء لحضور هذا الاجتماع، لكن منذُ أن افتتحت محلي قبل عامين وإلى اليوم وأنا أتعرّض لمُضايقات مُستمرّة من قِبل مُسلَّحِين تتناوب زياراتهم إلى محلي، كلُّ واحدٍ منهم يأتي بعذرٍ مُختلف، ويُعرف بأنّه تابع إما لأمانة العاصمة، وإما لهيئة الزكاة، أو لمصلحة الضرائب، لكنّني -في كل الأحوال- أرفض دفع أيّ مبلغ مالي؛ لأنّ أوراق محلي مُستوفية للشروط المطلوبة، لذلك تنتهي زياراتهم بالحديث بأسلوب مُتعجرف عن الفساد الأخلاقي التي تُسبِّبه العباءات التي نبيعها، في نظرهم نحنُ مُتهمات دائمًا بإفساد المُجتمع".

منذُ أن افتتحت محلي قبل عامين وإلى اليوم وأنا أتعرض لمُضايقات مُستمرة من قِبل مُسلحين تتناوب زياراتهم إلى محلي، كلُّ واحدٍ منهم يأتي بعذر مُختلف، لكنني -في كل الأحوال- أرفض دفع أي مبلغ مالي؛ لأنّ أوراق محلي مُستوفية للشروط المطلوبة، لذلك تنتهي زياراتهم بالحديث بأسلوب مُتعجرف عن الفساد الأخلاقي التي تُسببه العباءات التي نبيعها".

لم تقتصر الرقابة الأخلاقية التي تُمارسها جماعة أنصار الله (الحوثيين) في مناطق سيطرتهم على محلّات العباءات فقط، بل تجاوزت ذلك إلى إصدار تعميمات للجامعات والمدارس والمقارّ الحكومية والخاصة، تحدّد لهذه الجهات ضوابط اللباس لموظفات القطاع الحكومي عبر ما أسموها بـ(مدونة السلوك الوظيفي) التي تتضمّن بدورها نصوصًا تحدّد للمرأة شكل ولون وحدود لباسها، انطلاقًا من الضوابط الشريعة، حدّ تعريف الجماعة للمدونة.

في نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 2020، أصدرت عمادة جامعة العلوم والتكنولوجيا- فرع الطالبات، بصنعاء، تعميمًا وردَ فيه: "نظرًا لما تقتضيه المصلحة العامة، ننوه الطالبات بعدم الوقوع في المُخالفات التالية: 1-لبس العباءة المفتوحة أو الضيقة أو القصيرة أو الشفافة 2-وضع مساحيق التجميل 3-إظهار الشعر أو جزءٍ منه 4-رفع الشعر 5-استخدام العطر أو البخور؛ وتتحمّل الطالبة المسؤولية الكاملة عند مُخالفة هذا التعميم".

تعميمات مُشابهة تكرّرت في عدة جامعات حكومية، وخاصة في العاصمة صنعاء، إضافة إلى الرقابة التي يفرضها نادي الخريجين على لبس الخريجات في حفلات تخرجهن، والتي أثارت هي الأخرى ضجّة كبيرة؛ بسبب التعنُّت الذي مارسه النادي.

صراع الهُويّة مع فَرض السواد

محاولات سلطة صنعاء لفرض الأسود كلباس للحشمة، أثار غضب الكثير من اليمنيّات؛ اللواتي أطلقن بدورهن حملة إلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي، شاركن من خلالها صورهن بملابس تُراثية ملوّنة ومطرزة ومزركشة تعكس الهُوية التاريخية للمرأة اليمنية تحت هاشتاج (#الهوية_اليمنية) تعبيرًا عن رفضهن للممارسات الرقابية التي تقوم بها جماعة أنصار الله (الحوثيين) على ملابس النساء.

المُحامية والناشطة الحُقوقيّة، إبتهال الكوماني، علّقت على صور اليمنيات التي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي كردّ فعلٍ على ممارسات حكومة صنعاء، في منشور لها في فيسبوك: "صور تُبهج القلب، جمال ورونق وحلاوة. الأسود عمره ما كان لبس اليمنيّات ولا كان هوية واحدةٍ منّا، بل هو عادة دخيلة غزت المُجتمع اليمنيّ؛ لا ننتمي لها ولا تنتمي إلينا".

تنوّع يعكس ثراءً حضاريًّا وجماليًّا

تتنوّع ملبوسات المرأة اليمنية بتنوّع هوية البلاد الثقافية، وذلك يظهر على الملابس التراثية المُطرزة، المليئة بالألوان التي تعكس ثقافة كلّ منطقة من مناطق البلاد، والتي كانت ترتديها الأُمّهات والجدّات قبل دخول عادة لبس النقاب والعباءات السوداء إلى اليمن.

تعود عادة لبس النقاب في اليمن إلى مرحلة الاحتلال العُثماني لشمال اليمن، حيثُ "أصدر السلطان العُثمانيّ عبدالحميد الثاني (1819-1842) فرمانًا يُلزم النساء بارتداء (النقاب) في كافة أنحاء الإمبراطورية العُثمانية والمناطق التي تخضع لسيطرتها، كما عزّز وجودَ هذه العادة وانتشارها دخولُ التيارات الإسلامية مطلع ثمانينيات القرن الماضي كالمدّ الوهابي أو ما تسمى بـ"الصحوة الوهابية" في المنطقة.

في هذا السياق، أشارت بلقيس اللهبي، مستشارة النوع الاجتماعي في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، في مقابلةٍ لها على قناة بلقيس، إلى أهمية الحملة التي قامت بها النساء اليمنيات، قائلة: "اليمن عانت في السنوات الأخيرة من تشظٍّ غير عادي، حيث اشتعلت الحرب في كامل التراب اليمنيّ، وخلال هذه الفترة ظهرت حالات استقطاب حادّة، تزامن معها أيضًا ظهور هويّات صغيرة، منها هويّات مناطقية ومنها عرقية وأخرى طائفية. في مقابلها، ظهرت هذه الحملات كاستجابة طبيعية تعكس تنوع وثراء وحيوية التاريخ والحضارة الإنسانية اليمنية وهُويته الجامعة التي تتعرّض اليوم للتجريف، وهذا أيضًا حنين اليمنيين لأمّتهم ودولتهم، ولما يجمعهم أكثر ممّا يفرّقهم".

وتابعت اللهبي، في المقابلة نفسها: "هذه الحملات هي مقاومة غير عادية، نستطيع القول بأنّها نابعة من عمق فكرة الدولة لدى اليمنيين، خصوصًا أنّنا نتحدث عن تهديدٍ وجوديّ يصل لدرجة محاولة نزع فضيلة المُجتمع، ومحاولة نزع أهلية المجتمع من أنّه يُربّي أبناءه، ويُحدّد ملبسهم، ومأكلهم، وطُرق تعبيرهم عن ذاتهم. ولذلك حالة هذه المقاومة الموجودة هي حالة جميلة أولًا، ومقاومة راقية وهادئة، وتُجذِّر داخل الإنسان اليمنيّ فكرةَ البحث عن مكنوناته".

سياسة ثيوقراطية، ورقابة أخلاقية

تنتهج جماعة أنصار الله (الحوثيين) سياسيةً ثيوقراطية تقوم على الانتداب عن الله في الحكم والرقابة على المحكومين وتحديد نمط حياتهم الاجتماعية، وهو ما تعكسه ممارساتهم تجاه مختلف القضايا المُجتمعية، وتجاه رؤيتهم للعلاقة الاجتماعية بين الجنسين.

ويظهر ذلك في بعض الخطابات الدينية المشحونة بالتحريض وبتحجيم دور المرأة، ومن خلال تعميماتهم الأخلاقية التي تتّهم مجتمعًا كاملًا بالفساد.

الباحث الاجتماعي في المركز اليمني للبحوث الاجتماعية، عبدالله العُلفي، يقول في منشورٍ له نشره على صفحته في فيسبوك: "أنا وزوجتي (هند) -أم شمس الدين- حضرنا بكل فرح وسرور مع جمع كبير من الآباء، والأمهات للمشاركة في احتفالية تكريم أبنائنا الأوائل في مدرسة الصدارة، تُبهجنا براءةُ حفلٍ جميل يسير بنظام وحفاوة فقدناها منذ زمن، الكل تغمرهم فرحة كبيرة". ويتابع العلفي: "... فجاء مدير مكتب التربية والتعليم بمديرية شعوب، ألقى كلمة باسم التربية والتعليم يعلمنا فيها الأدب والأخلاق، قال فيها: "حضور الآباء والأمهات بهذا الشكل المختلط للاحتفال بأبنائهم؛ مُنافٍ لهويتنا الإيمانية، ويجب على المدرسة والآباء والأمهات من الآن وصاعدًا عدم تكرار هذا الوضع غير اللائق"، ووجّه أن يكون هناك حفلٌ خاص بالآباء، وحفل ثانٍ خاص بالأمهات! عاتبناه بكلّ ودٍّ واحترام، قلنا: "عيب يا رجل، تشكّك في أدبنا وأخلاقنا، نحنُ آباء وأمهات جئنا نفرح بأولادنا الأوائل، ولم نأتِ لغرض الاختلاط والله المستعان على هذا التفكير غير اللائق بمسؤول تربوي"، قال: "هذه سياسة التربية والتعليم، وديننا الإسلامي يحثنا على عدم الاختلاط، والموضوع غير قابل للنقاش". لا أدري من أين جاؤوا  بكل هذا القبح؟!

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English