خمسة قرون على الفداء

ما يزال ضريحهم شاهدًا على البسالة حتى اليوم
زاهر سلطان
May 20, 2022

خمسة قرون على الفداء

ما يزال ضريحهم شاهدًا على البسالة حتى اليوم
زاهر سلطان
May 20, 2022

تسقط الأوطان تحت الاحتلال، فيبذل الشجعان حرياتهم وأرواحهم لتحريرها .ولقد سطر التأريخ أحداثًا وخَلّد أسماءً سجّلتْ حضورها في مواقف فاصلة من عمر الأوطان، وفي تاريخ مدينة الشحر في حضرموت، ثمة أسماء لا يمكن بأي حال من الأحوال محوها من الذاكرة الشعبية، نظرًا لما قدمته في سبيل كرامة الوطن، ورفع الظلم عن أهله.

بمجرد التطرق لتاريخ مدينة الشحر بحضرموت أو تعداد معالمها الأثرية، يبرز ضريح (الشهداء السبعة) كمعلم لا بد من التوقف عنده، والولوج في تفاصيله، كونه يسرد قصة ملحمية في تاريخ المدينة، أبطالها السبعة استحقوا أن تحتفي بهم الأجيال اللاحقة لخمسة قرون من الزمن والتغني بمآثر بسالتهم ونضالهم.

البرتغال.. الخطوة الانتقامية

تبدأ وقائع الأحداث من مدينة عدن، التي تعرضت لغزو عنيف في أوائل القرن السادس عشر من قبل البرتغاليين، حيث كانت السيطرة على مدينة عدن تضمن لهم التحكم بالبحار الرابطة بين آسيا وأوروبا باعتبارها أهم طرق التجارة العالمية.

شيّد أهالي الشحر ضريح الشهداء السبعة ليصبح تذكارًا ورمزًا للتضحية التي بذلها الشهداء في سبيل أرضهم ضد الاحتلال البرتغالي، ومثالًا واضحًا على القيادة التي تتقدم الصفوف، ومع الأيام والسنين صار الضريح مزارًا يقصده الأهالي كل عام مرة أو مرتين، لا سيما أيام الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى.

وخلال وقت قصير، لاحظ البرتغاليون أن المقاومة في عدن تشتد، مما دفعهم إلى التقصّي والبحث عن سبب ضراوة هذه المقاومة، إلى أن اكتشفوا أن المقاومة تستقبل الدعم من مدينة (الشحر) بحضرموت بصورة أكبر من غيرها من المناطق، حينها قرروا توجيه ضربة عنيفة إلى الشحر حتى يتم قطع الدعم لتسهُل لهم بعدها السيطرة على عدن.

حرك البرتغاليون ما بين سبع إلى تسع سفن من الهند إلى الشحر حيث وصلوا قبالة سواحلها في يوم الخميس بتاريخ 28 فبراير/ شباط 1523.

وفي صباح الجمعة، اجتاح 700 جندي برتغالي مدينة الشحر، وبشكل بربري انقضّوا على المدينة المسالمة، وشرعوا بإطلاق النار على كل شخص يصادفونه أمامهم، ويحرقون الدُّور والمحلات وكل ما يمرون عليه. لقد أبان ذلك الاجتياح عن الحقد الذي ملأ قلوب البرتغاليين، والانتقامية التي غذّتها خيبة تقهقرهم في عدن.

الشحر تقاوم

بعد أن أبصر أهالي الشحر -الذين لطالما اتسموا بالسلمية كسلوك ينم عن دماثة أخلاقهم والتزامهم الديني- مدى وحشية البرتغاليين وبشاعة الهجوم، وحجم العنف والضراوة للدخيل الغازي علموا أنه لا يسعهم الرضوخ والاستسلام، وترك البلدة لقمةً سائغة للمعتدين.

في هذا الصدد، يتحدث المؤرخ عبدالله صالح حداد لـ"خيوط"، قائلًا: "هدفت الحملة البحرية من قبل البرتغاليين إلى تأديب الشحر على الدعم الذي قدمته لعدن، وتدمير المدينة حتى لا تتمكن من مواصلة مد يد العون للمقاومة هناك".

ويضيف الحداد: "أن الشهداء السبعة كان لهم الدور الأبرز أثناء التصدي للبرتغاليين، وذلك باستنهاض همة السكان المحليين وإثارة الروح القتالية التي بداخلهم، إذ خطبوا في الناس على المنابر وقادوا الجماهير الغاضبة نحو معركة استمرت لثلاثة أيام استُشهد خلالها المئات، علمًا أن أولئك السبعة كان معظمهم معلمين وليسوا عسكريين، لكن تأثيرهم كان عظيمًا وباعثًا على خوض مهمة الدفاع عن أرضهم وتحريرها بأي ثمن".

"لم يكن المقاتلين من أبناء الشحر فقط، بل شارك في هذه المقاومة أشخاص من جنسيات أخرى؛ من الصوماليين والهنود والمليباريين _نسبة إلى (مليبار) منطقة ساحلية بجنوب الهند_ الذين كانوا مقيمين في المدينة، وكذلك القوات التي جاءت للمساندة من الريدة مشيًا على الأقدام"، يقول الحداد.

من جانبه، تحدث الصحفي، معتز النقيب، لـ"خيوط"، قائلًا: "كان البرتغاليون عند غزوهم للشحر جنودًا ويستخدمون البندقية النارية، فيما الأهالي استخدموا أدوات بدائية بسيطة كالسيوف والرماح والعصي، ويُقَدَّر أن الشهداء تجاوزوا الـ480 شهيدًا، لكن دَور الشهداء السبعة يبقى الدور الأهم إذ قادوا المواجهات وحضّوا الأهالي على القتال ولو بأبسط الأسلحة التقليدية، حتى تمكنوا من ردع البرتغاليين وصدهم بعد ثلاثة أيام من الصمود".

الضريح الرمز

بالرغم أن الضريح يحمل اسم "ضريح الشهداء السبعة" إلا أنه لا يضم سوى ستة قبور فقط؛ هم: الأمير مطران بن منصور، حاكم الشحر، الشيخ سالم بن صالح باعوين، الفقيه يعقوب بن صالح الحريضي، الشيخ حسين بن عبدالله الجمحي الملقب بـ(العيدروس)، الشيخ أحمد بن رضوان بافضل، والشيخ فضل بن رضوان بافضل، فيما الشهيد السابع أحمد بن عبدالله بلحاج بافضل، فقد طالب ذويه وقتئذٍ بأن يدفن في جوار والده في قبة بلحاج بافضل، وكان ذلك.

وقد شيّد أهالي الشحر ضريح الشهداء السبعة ليصبح تذكارًا ورمزًا للتضحية التي بذلها الشهداء في سبيل أرضهم ضد الاحتلال البرتغالي، ومثالًا واضحًا على القيادة التي تتقدم الصفوف، ومع الأيام والسنين صار الضريح مزارًا يقصده الأهالي كل عام مرة أو مرتين، لا سيما أيام الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى.

يقول الأستاذ التربوي، صلاح مصاقع، لـ"خيوط": "إن الزيارة للضريح بدأت بعد تشييد المبنى سنة  1979 من القرن العشرين، حيث كانت الزيارات تتم في اليوم الرابع أو الخامس لعيدي الفطر والأضحى، وكان الزوار يأتون من كل المناطق كسيئون وعدن. حتى إن هذه الزيارات شملت شخصيات قيادية في الدولة على مستوى الرئاسة كالرئيس علي ناصر محمد الذي كان يحضر هذه الزيارات".

يواصل مصاقع حديثه: "الزيارات للضريح كانت تتخللها الرقصات الشعبية كالبرعة أو ما تسمى بالـ(عِدَّة)، واجتماع الزوار وبيع الحلويات وغيرها، لكن هذه الزيارات توقفت سنة 1989 نتيجة هطول أمطار غزيرة دمرت الكثير من المنازل، مما اضطرت المواطنين إلى السكن في المدارس".

مَعْلَم بأمس الحاجة للاهتمام

من جهته، تحدث خالد باظفاري، مدير الهيئة العامة للآثار في الشحر، لـ"خيوط" قائلًا: "يعتبر ضريح الشهداء السبعة أحد أهم المعالم الأثرية في محافظة حضرموت عامة والشحر خاصة؛ لأنه يدون مرحلة هامّة في تأريخ مدينة الشحر أثناء الغزو البرتغالي، وقد كان الضريح في بادئ الأمر دون مبنى حتى نهاية السبعينيات من القرن العشرين، حيث تم إنشاء المبنى المعروف حاليًّا، وذلك لحماية الضريح من العوامل الطبيعية".

لكن الأمطار الغزيرة على مر السنين، إضافة إلى الإهمال تسببَا بحدوث أضرار جسيمة بالمبنى، بل صار جليًّا في الوقت الحالي أن المبنى بحاجة إلى إنقاذ عاجل ليضمن بقاء هذا المَعْلم الأثري، باعتباره قيمة تاريخية ومعنوية بالإمكان الاستفادة منه في الجانب السياحي بما يعزز الاقتصاد، بالإضافة إلى أنه يمكن أن يشكل مادة علمية للباحثين مستقبلًا.

في السياق، يقول عبده سالم كليواش، مدير مكتب الثقافة في مديرية الشحر لـ"خيوط": "إن المبنى الذي يقع بداخله ضريح الشهداء السبعة بُنِـي من اللِّـبْن سنة 1979، لكنه يتعرض للكثير من الأضرار بمرور الوقت، وهو ما جعله متهالكًا وبحاجة ملِحة إلى التجديد". ويستدرك كليواش بالقول: "لكن ثمة مناقصة تمت قبل أشهر لتشييد مبنى جديد بدلًا من القديم وبتمويل منظمة دولية، حتى يتم الحفاظ على الضريح كونه رمزًا من الرموز الأثرية للمدينة".

يرحل البشر ويبقى الوطن، ولعل ضريح الشهداء السبعة خير نموذج لهذا المعنى، غير أن الوطن الحر يظل مدينًا أبد الدهر للتضحيات التي يقدمها الفدائيون في سبيل الكرامة وعدم الخضوع للمحتل، فيما تقع على عاتق الأجيال المتعاقبة مسؤوليةُ الحفاظ على هذا الإرث وصونه، واستشعار حجم الثمن المدفوع مقابل شيء اتفق الشرفاء على تسميته "الحرية".

•••
زاهر سلطان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English