قلب أحب بشجاعة نسر

يد السقاف التي قدحت نارا
محمد عبدالوكيل جازم
December 31, 2022

قلب أحب بشجاعة نسر

يد السقاف التي قدحت نارا
محمد عبدالوكيل جازم
December 31, 2022

 يقول عبدالجبار السحيمي: "اليد الباردة لا تكتب، القلب البارد لا يحبّ، والإنسان البارد لا تخاف عليه أمه". لعلنا نعرف جميعًا أنّ يد الدكتور أبو بكر السقاف قدحت نورًا ونار كوت الفاسدين بلفحها، وأنّ قلبه أحبّ بشجاعة النسر المحلق دائمًا، وأن أمه -من دون ريب- بدأت تخاف عليه حال ولادته. حضرتني هذه المقولة وأنا أقرأ نبأ وفاته.

مرة أخرى -خلال أيام- يكرّ الموت بمخالبه العمياء فيختطف إلى عالمه المجهول أحدَ جبال اليمن الشامخة: أبو بكر السقاف، في حين كان هذا الموت نفسه قد أهال التراب على الشاعر عبدالعزيز المقالح، قبل أيام؛ توسطهما رحيل الفنّان التشكيلي البارز ياسين غالب، وقبلهم خسرت اليمن علامات بارزة في الحركة الوطنية: المناضل محمد الفسيل، والسياسي محسن العيني، والمؤرخ سعيد الجناحي، وغيرهم. 

لمن أراد أن يعرف عظمة المفكر الكبير أبو بكر السقاف، الذي تُوفِّي يوم الثلاثاء 13 ديسمبر 2022م؛ فليتتبع عطاءه وما كُتب عن تاريخه، وما قدّم من تضحيات في سبيل الحلم بدولة يمنية جامعة، يسودها العدل والمساواة والمجتمع المدني. نعم، قدّم تضحيات كبيرة في سبيل الدفاع عن المقهورين والمسحوقين من أبناء الشعب اليمنيّ؛ حيث إنّه كانت له الريادة في استخدام المنهج الماديّ الاستقصائيّ من أجل الدفاع عن الحرية والكرامة. اليوم، على الإنسان الذي اتحد به المفكر أبو بكر، أن يتتبع هذا الإرث الذي تركه بكل تجلياته، وعليه أن يمضي في استخدام نفس الوسيلة المنهجية القويمة، لأنّني أرى بأنّ في رؤيته البحثية المعمقة مخرجًا لتاريخ الكبوة اليمنية الطويلة.

ثمّة شهادة محايدة جاءت من طه سيف نعمان، الذي روى في مقابلة أجراها معه الصحفي محمد الغباري، ووثّقها في كتابه "الرؤى المتضادة"، يقول بأنّه في إحدى ليالي السجن فوجئ بأن السجّانين أدخلوا رجلًا مغسلًا بدمه، معالمه مموهة وملامحه بالكاد يمكن رؤيتها، وتعلو وجهه الرضوض واللكمات القوية، ولقسوة التعذيب الذي تلقّاه بسبب آرائه المعارضة وتصوراته العميقة في الحلم بدولة جديدة، وجد المعتقلون صعوبةً في إيقاظه من غيبوبته، وصعوبةً في التعرّف عليه ومداواته أو نزع القماش الذي تداخل بلحمه؛ لكنّهم فعلوا ذلك بالكيفية التي أتيحت لهم، وعرفوا في نهاية الأمر أنّ هذا الشخص هو الفيلسوف الكبير أبو بكر السقاف، وهنا زال الالتباس، فالجميع يدرك أنّ السقاف رجلٌ مبدئيّ، وأنّ صوته المعارض كان من أعلى الأصوات ومن أشدّها غضبًا وتلمسًا لمناطق ضعف السلطة، وأنّ هذا التعذيب الوحشي كان القصد منه إسكات هذا الصوت الفخيم.

يقول صاحب كتاب (التمويه في المجتمع العربي السلطوي): "والمثقف في المجتمع العربي يعاني من المساومة أكثر من أيّ إنسانٍ آخر، نظرًا للدور الذي يمكن أن يقوم به، ولكون المساومة تكون مصحوبة عادة بتهديدٍ مباشر أو غير مباشر، بل قد تصل المساومة إلى درجة تفرض على المثقف أن يختار بين سلامته الفردية، وسلامة أسرته وذويه، وبين التشتت والنفي والغربة" (1). ويدرك الكثيرون اليوم أنّ المثقف ازدادت معاناته مع دخول الأجهزة الدقيقة إلى الحياة اليومية لكن الدكتور أبو بكر كان مسلّحًا بوعيٍّ إضافيٍّ من الدرجة الأولى، وهذا ما كان يحاول نقله إلى تلاميذه في جامعة صنعاء دائمًا. أهمّ ما اتسمت به شخصية السقاف، ما أضافته إليه قراءاته في الفلسفة القديمة. قال عنه عبدالله حسن العالم في مقدمة كتاب بعنوان (دفاعًا عن الحرية والإنسان): "وقد وُفِّق في هذا الاختيار؛ إذ إنّ الفلسفة كما يعرّفها الفلاسفة، هي تأمّلات حرة في الكون بدون قيود مفروضة من الدولة أو الكهنة، والتفكير الحرّ هو ما يناسب روح أبي بكر السقاف (2)".

أدرك فقيدنا بشكلٍ مبكر الضررَ المتراكم الذي وقع ويقع على الإنسان اليمني طوال التاريخ في هذا الركن من العالم، فقد تمركزت اليمن، وتحوصلت داخل نفسها منذ أزمان بعيدة، فحين تهدّم سد مأرب تفرّقت طاقات مخزونها، لتبني أطرافًا لها على حواف الجزيرة العربية، وهو الأمر الذي أغرى الغزاة، فجاءها الطامعون من كلِّ حدب وصوب، كما أنّ كتب التاريخ تذكر أنّ اليونان والرومان تطلّعوا للسطو على شواطئها الممتدة؛ كما تذكر توالي الأحباش والفرس على احتلالها واستنزاف خيرات موقعها.

كل هذا جرى هضمه في فلسفة السقاف، إلّا أنّ تفكيره العميق انصبّ على الدولة اليمنية الحديثة التي لم يرِد لها أن تفلت منّا؛ يقول في كتابه (الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي): "إنّ المشكلة إذن، في حجب الماضي عن الحاضر، فهذا الماضي هو الزاد الكافي لدخول العصر. نحن أمام ضلال فكري وسياسي مركب، لا يعرف الماضي ولا الحاضر، الذي لا يرى له طريقًا (3)". 

تمتّع فقيدنا بوعي استباقيّ، وهذا ما يضمره كتابه المذكور سابقًا، وهو الكتاب الذي أصدره السقاف في ثمانينيات القرن المنصرم، وبسبب التضييق القاتل على الحريات يومها نزل الكتاب باسم مستعار: "محمد عبدالسلام"، قبل عامين فقط أُعيد الاعتبار للكتاب والمفكر، نزل الكتاب وعليه اسم الدكتور أبو بكر السقاف، تعرّض الكتاب لفترة حكم الإمامة معلنًا سخطه من التشيع العميق لفكرة مركزية الإمامة في الحكم وحصر ذلك في مذهب وحيد وأسرة وحيدة، ثم انطلق إلى تفاصيل مهمّة، مثل الحركة الدستورية وقيام ثورة 26 سبتمبر، والدور المصري وعلاقته بدول الجوار، ملقيًا الضوء على كتاب الشهيد محمد النعمان "الأطراف المعنية في اليمن" الذي اختلف معه كثيرًا إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من تسجيل شهادة له حول مدنيته ومعارضته الشديدة للإمام مُحمّلًا الطرف الآخر من الذين يشاركونه مواقفه السياسية -بالاغتيال- نظرًا لالتصاقهم بقوى إقليمية ورجعية. وفي فصل آخر يتحدث عن النظام الجمهوري ووقوفه المتذبذب بين السلطنة والقبيلة، بالإضافة إلى التبعية المزدوجة، ثم نفط مأرب وما فيه من مستقبل سياسي من عدمه لليمن. ونظرًا لحيوية هذا الكتاب الذي وضع أصابعه على جرح اليمن النازف، علق الشاعر عبدالله البردّوني عليه في كتاب الثقافة والثورة في اليمن، قائلًا: "لقد وقعت مسيرة الثورة في نكسات لم تشر الكتابة إلى المسؤولين عنها، وانزلقت في ردات تشبه الرجوع إلى ما قبل الإمامة، ولم يتصدَّ لهذا إلا كاتب واحد، تصدّى للارتداد والانتكاس والتسلط والطائفية السلطوية، وسجّل ملاحظاته على قصورها في كتاب "الجمهورية بين السلطنة والقبيلة (4)". 

في كلّ أداء السقاف العلمي والمادي والثقافي، كانت الفلسفة -بجذورها اليونانية الإغريقية- تطل برأسها من بين كتاباته وأدائه؛ فأثناء تدريسه في جامعة صنعاء كان أحد الداعين والمؤسسين لهذا القسم الذي درّس فيه مادتَي "فلسفة حديثة"، و"علم الجمال"، وهو الفضاء الذي رأى من خلاله مستقبلًا جديدًا لليمن؛ فالدول العظمى لا تدخل التاريخ من باب الصدفة، وإنّما من باب العلم الذي تكون الفلسفة العميقة أولى جذوره -كما آمن- وقد رأيناه في جامعة صنعاء، وهو لا يكتفي بإلقاء المحاضرات التعليمية في القاعات، وإنّما كمثقف ملتزم يسترسل مع طلابه -خارج الدرس- في إقامة الفعاليات والحلقات الإبداعية الشعرية والأدبية والثقافية والفلسفية، متمثّلًا بذلك الفعل رموز الفلسفة القديمة عند الإغريق اليونانيين الذين أقاموا فلسفتهم عبر الحلقات الدراسية. وإنّني إلى اليوم ما زلت أتذكر صوره التي نشرتها صحف المعارضة اليمنية عقب اختطافه هو والكاتب اليساري الملتزم زين السقاف، حيث ظهرَا في وضعٍ يندى له الجبين وآثار التعذيب والكسور الطرية تملأ جسديهما، كان ذلك نتيجة لأدانته الواضحة لحرب صيف 94م، فقد اقترح جناح البيض تعيين السقاف وزيرًا للتربية والتعليم أثناء الحرب الكارثية في بلادنا، ولكن السقاف رفض المنصب؛ لأنّه كان يبحث عن وطنٍ للجميع، وطن ينتصر للحرية والديمقراطية والسلام. في كتاباته التي كانت عبارة عن مرافعات فكرية واستقصائية لحماية البسطاء والمغلوبين على أمرهم اعتمد خطًّا واحدًا، وهو الدفاع الشجاع والمستميت عن حرية الفرد أينما وجد، وقد دافع في عدد غير محدود من المقالات عن مواطنين لا تربطه بهم سوى علاقة المواطنة المتساوية على كامل التراب اليمني والإنساني. 

يلتقط السقاف كتاباته من المناطق الهامشية، فهو يعبر عن أناس لا أحد يلتفت إلى أوجاعهم، ويحرص على أن يكون تناول قضاياهم محايدًا بدرجة أساسية، لكنّه يعبر عن إنسانيتهم وحقوقهم كمواطنين لهم الحق في العيش بحرية وكرامة، يكتب عن شخصيات من يتأمل فيها سيجد أنّها شخصيات وأبطال أعمال روائية وقصصية يكتب عنها رجل شجاع لا يعرف من العالم سوى الدفاع عن هؤلاء المساكين الذين لا منابر لهم ولا مصدات قبَلية أو عشائرية، ويجدر بنا أن نرفع له تمثالًا من البرونز المختلط بالفولاذ في مياديننا، ولا مناص من أن نتذكر أنّ جسده في سبيل رأيه استقبلَ كل الطعنات؛ فصدها ببسالة، وتحطّمت على متراس صدره العاري كل ضربات الغدر وهراوات الجلادين؛ إنه بطل واقعي من لحم ودم، بطلٌ تتداخل في تكوينه ذرات فولاذية من الحديد الصلب، يكتب الشعر حفرًا بالسيف على طريقته المستمدة من الواقعية الاشتراكية. ويحقّ لنا أن نقول إنّ ما تركه من إرث يصلح لكلِّ زمان ومكان ويستحق أن يُدرّس في مدارسنا وجامعاتنا، فلا توجد فجوات تقريرية في كتاباته، وكلُّ مقالةٍ كتبها في الصحافة اليمنية والعربية هي مادة للدراسة الفلسفية والفكرية الإبداعية العميقة. 

________________

  1- محمد عباس نور الدين، التمويه في المجتمع العربي السلطوي، صادر عن المركز الثقافي العربي، ط1، 2000م، ص42.

 2- عبدالله حسن العالم، من مقدمة كتاب "أبو بكر السقاف دفاعًا عن الحرية والإنسان"، إعداد: منصور هائل، منتدى الجاوي الثقافي، 2011، ص6.

 3- أبو بكر السقاف، الجمهورية بين السلطنة والقبِيلة في اليمن الشمالي بدون جهة نشر، 2020، ص25.

 4- عبدالله البردّوني، صادر عن مطبعة الكتاب العربي، دمشق، 91م، ص73.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English