الامتدادات والتداعيات الإقليمية والدولية لثورة فبراير

تدويل الثورة عطل الفترة الانتقالية
علي ميّاس
February 13, 2021

الامتدادات والتداعيات الإقليمية والدولية لثورة فبراير

تدويل الثورة عطل الفترة الانتقالية
علي ميّاس
February 13, 2021

تمثل التحولات الجذرية في البلدان العربية أبرز الشواهد على وحدانية المصير ورسوخ مشاعر التضامن القومي في وجدان العرب، إذ إن ثمة محطات تاريخية برهنت سهولة انتقال الزخم الثوري من وعاء عربي لآخر بتزامنٍ لحظي مثير. ففي ثنايا الحربين العالميتين، بقي العرب في وضع السبات؛ بينما شبّت في أرجاء المعمورة الحرائق والحروب، وحينما تهيأت الظروف المواتية -خصوصًا في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية- لإحداث تحولات تلبي تطلعات الشعوب العربية تساقطت المستعمرات الغربية كحجار الدومنيو، وأخذت الحركات الوطنية على عاتقها مهمة بناء مؤسسات الدولة الوطنية بشكلها "الوستفالي". بدايات العقد الفائت 2011 استعاد التاريخ حركته مرة أخرى، مستنسخًا تجارب ثورية متماثلة في بلدان عربية مختلفة من المحيط إلى الخليج، إذ تسللت الثورة من النوافذ الجانبية للأنظمة المستبدة والغارقة في الفساد والمحسوبية. فضمن المسار التاريخي لثورات الحركات الوطنية أنجزت ثورة 26 من سبتمبر في اليمن، لتحقق جزءًا من المصالح الجيوسياسية للعالم العربي[1]. فيما كانت المشاهد التي بثتها وسائل الإعلام مطلع العقد الفائت، لانتفاضة الشارع العربي، ترسيخًا للمشترك التاريخي لدى العرب، حيث احتشدت الجماهير بالميادين في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية لتمزيق شرنقة الخوف وطرد المستبد وأزلامه.

منذ أوائل العام 2011، تأثر الشباب اليمني بشكل مباشر بمجريات الأحداث في الوطن العربي، بعد أن أضرم الشاب التونسي العاطل عن العمل محمد بوعزيزي (26 سنة)، النار في جسده احتجاجًا على ممارسات النظام الحاطّة من الكرامة، في حين بات الفضاء السياسي العربي عمومًا أشبه بحالة اتحاد بعد الانفتاح المعرفي وسهولة التواصل عبر منصات التواصل الاجتماعي وإمكانات التجمهر الشعبي في تجمعات واسعة بتزامن قياسي، ما سمح بانتشار الموجات الاحتجاجية من تونس إلى اليمن ودول أخرى[2]. وقد مثّل تخلي الرئيس المصري الراحل حسني مبارك عن السلطة في 11 فبراير 2011 حافزًا لانطلاق الشرارة الأولى للاحتجاجات في نواحٍ مختلفة من اليمن، وقد شابها الكثير من العفوية والعشوائية في التنظيم في بدايتها. واقتصرت طموحات الشعب اليمني في تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة.

حدت التطورات الدراماتيكية للأحداث في اليمن مجلس الأمن الدولي لاعتماد القرار 2014 بالإجماع في 21 أكتوبر 2011، معبّرًا بوضوح عن حجم قلق المجتمع الدولي من احتمالات انهيار الأوضاع في اليمن. وقد عمل هذا القرار على تدويل الأزمة اليمنية. ونقل مطالب التغيير من الإطار المحلي لتكون مطلبًا دوليًّا أيضًا

قوبلت التجمعات السلمية من قبل نظام صالح بالاستخدام المفرط للقوة والقمع الممنهج لفضها، وعلى إثر المجزرة التي ارتكبها قناصة النظام بجمعة الكرامة في 18 مارس 2011، بدأ تصاعد العنف يلوح في الأفق، ما دفع المجتمع الدولي إلى الدخول مبكرًا في خط الأزمة اليمنية. بحلول منتصف أبريل، قدم مجلس التعاون الخليجي خطة انتقالية تمنح صالح حصانة محلية من الملاحقة القضائية مقابل استقالته. وبحسب المبادرة، سيشكل صالح حكومة وحدة وطنية بقيادة المعارضة، ويسلم السلطة لنائبه بعد ثلاثين يومًا، ويتنحى رسميًّا بعد تسعين يومًا[3]. وفي 23 نوفمبر 2011، جرى في المملكة العربية السعودية التوقيع على خطة انتقال السلطة المنصوص عليها في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة.

في الداخل اليمني، عمل نظام صالح لعقود على شخصنة الدولة وزعزعة الاستقرار الداخلي عبر تشجيع سياسة الأضداد، وعلى الصعيد الإقليمي أخفق الرجل في العديد من الاختبارات لتحقيق الأمن والازدهار ما أفقده المصداقية، بل كان يُنظر إلى سياساته كتهديد للأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، لأسباب كثيرة، ليس أقلها؛ فشله في تلبية الاحتياجات الضرورية لاستتباب الأمن الإقليمي والدولي في العديد من القضايا المهمة، حيث كان اليمن ذو الموقع الحساس يواجه تمردًا لا ينتهي في الشمال من قبل جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وحركة انفصالية متصاعدة في الجنوب "الحراك الجنوبي"، وتزايدًا مطّرد للأنشطة الإرهابية في المدن اليمنية من قبل "القاعدة في شبة الجزيرة العربية"[4].

إن القراءة المجهرية للامتدادات الإقليمية والدولية لثورة 11 فبراير في اليمن، تشي بخصائص ذات ملمح فريد بالمقارنة مع نظائرها في البلدان العربية الأخرى، خصوصًا فيما يتعلق بمسارات الصراع الجيوسياسي، إذ تشعر المملكة العربية السعودية أن اليمن امتداد لأمنها القومي، وتخشى من سيطرة قوى معادية كإيران عليها[5]. الإمارات بدورها تكشف عن مطامع في السواحل والجزر اليمنية رغبةً بتوسيع مصالح ميناء جبل علي الإماراتي[6]. بينما بينت "الحرب على الإرهاب" مدى التحاق الولايات المتحدة الأمريكية بالملف اليمني، وذلك باعتبار اليمن مساحة آمنة لترتيب أوضاع التنظيمات الإرهابية، ما يشكل خطرًا كبيرًا على المصالح الأمريكية في المنطقة والعالم[7]. بينما لعبت المخاوف بشأن أمن التجارة البحرية العالمية، التي يمر ثلثها عبر باب المندب (مضيق يصل البحر الأحمر بخليج عدن)، دورًا أيضًا في جعل اليمن بؤرة اهتمام دولي.[8]

خلال الثورة اليمنية 2011، بدا لافتًا أن العامل المشترك للأطراف المعنية باليمن، كمجلس التعاون الخليجي والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن والجهات الفاعلة الأخرى ذات الصلة، هو منع الدولة اليمنية من الانهيار. فيما بات ينظر إلى اليمن على أنه تهديدٌ محتمل للجميع، غير أنه ليس موضع خلاف كبير، كما هو الحال في بقية دول الربيع العربي[9]، بل على العكس حظي الملف اليمني بتوافق دولي واسع، هذا الإجماع لم يكن ظاهريًّا موجودًا في الملف السوري والليبي.

وعلى أهمية ما قيل، كان من المتوقع ألّا يكون الطريق أمام بناء الدولة المدنية الحديثة في اليمن مخمليًّا، على الرغم من إشراف مجموعة سفراء الدول العشر، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي على المرحلة الانتقالية، تولى الجميع مهمة رعاية المبادرة الخليجية والإشراف على تنفيذ بنودها لإتمام عملية الانتقال السلمي للسلطة في اليمن. وقد عينت الأمم المتحدة جمال بن عمر "مستشارًا خاصًّا للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون اليمن". في أبريل 2011، وذلك بغرض قيادة الوساطة بين أطراف الأزمة اليمنية "الرئيسيين"، وأدّت إدارته للملف اليمني إلى الفشل في الاتفاق على تنفيذ المراحل الانتقالية والتوصل إلى حل مُرضٍ لكافة القوى السياسية. 

حدت التطورات الدراماتيكية للأحداث في اليمن مجلس الأمن الدولي لاعتماد القرار 2014 بالإجماع في 21 أكتوبر 2011، معبّرًا بوضوح عن حجم قلق المجتمع الدولي من احتمالات انهيار الأوضاع في اليمن. وقد عمل هذا القرار على تدويل الأزمة اليمنية. ونقل مطالب التغيير من الإطار المحلي لتكون مطلبًا دوليًّا أيضًا.[10] فيما أيد قرار مجلس الأمن الدولي 2051، الذي أصدر في 12 يونيو 2012، جهود الرئيس عبدربه منصور هادي وحكومة الوحدة الوطنية، بالدفع بالعملية السياسية إلى الأمام، وتأكيد التزامه بوحدة اليمن وسيادته واستقلاله السياسي وسلامته الإقليمية. وكشفت جلسة مجلس الأمن التي عقدت بشكل غير مسبوق في صنعاء أوائل العام 2013 عن صورة مكثفة لحجم الدعم الدولي لمساعدة اليمن، تجاوز المنعطف "الأزموي" والعراقيل المفتعلة من قبل نظام صالح وحلفائه. ولطالما راهنت القوى المناوئة لنظام صالح على دور المجتمع الدولي في ممارسة ضغوط لتجنيب البلاد منزلق الحرب الأهلية واحتمالات الفوضى وانهيار الدولة[11].

غير أن المعضلة اليمنية تجلت بوضوح في العبث الذي مارسه المبعوث الأممي جمال بن عمر، فعوضًا عن القيام بواجباته كوسيط فني لترتيب مفاوضات تبحث في النقاط الخلافية العالقة من أجل احتواء تداعيات الأزمة اليمنية، ذهب بعيدًا نحو تجسيد رهاناته السياسية الخاصة، مستغلًا توازن الضعف لدى القوى السياسية اليمنية لفرض خطوات أحادية وملوّحًا باستخدام سوط العقوبات ضد المعترضين، وقد أوحت الإحاطات المضللة لمجلس الأمن الدولي بأن اليمن يسير نحو تحول ديمقراطي تاريخي وبناء حديث لمؤسسات الدولة، والواقع أنه نجح باستحقاق في "عرقنة" الوضع السياسي في اليمن، مستحضرًا تجربته المشبوهة في العراق عبر إنجاز مجموعة من الخطوات، هي: الإسهام في تحييد وانهيار مؤسسات الدولة، والإشراف على هيكلة الجيش، وترسيخ مفهوم المحاصصة كآلية لتقاسم السلطة، وإقامة مؤتمر الحوار الوطني، وتبديل شكل الدولة البسيطة إلى دولة مركبة[12]. اختلفت وجهات النظر المحلية حول النموذج الذي اعتمده المبعوث الأممي، إلا أنها أجمعت على أن خطوات العملية الانتقالية التي قاد جهودها لم ترعَ حوارًا سياسيًّا يمنيًّا وفقًا لمرجعية المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية وقرارات مجلس الأمن.

بدا الممر الضيق، الذي سيَّر المبعوث الأممي اليمن من خلاله، مرصوفًا بشحنات عالية من الافتراق والفوضى والعنف، وكان ذلك كافيًا لكي يصدر مجلس الأمن الدولي القرار 2140 في 26 فبراير2014، لوضع اليمن تحت غطاء البند السابع، وإجازة استخدام التدابير الضرورية، بما فيها استعمال القوة للحفظ على السلم والأمن الدوليين أو إعادته إلى نصابه. مع ذلك استمرت مراميه المريبة حتى دفع البلاد في ظرف دقيق إلى أتون نزاع مسلح بعد أن مهد الطريق أمام اختطاف مؤسسات الدولة، وقلب موازين القوى على الأرض لصالح جماعات مسلحة في أواخر العام 2014، ما تسبب في انقسامات سياسية حادة ونزاعات قائمة على الهوية، زادت من مخاطر تقسيم البلاد جغرافيًّا.

أدت مساوئ إدارة المرحلة الانتقالية من قبل المبعوث الأممي، والرهانات الخاسرة لنظام صالح وحلفائه جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وكذا التحولات الجيوسياسية على مستوى المنطقة في العام 2014 -لا سيما تلك المرتبطة بالحرب على الإرهاب- إلى قذف اليمن في جحيم الاحتراب والفوضى والدمار. في 26 مارس 2015 أتم اليمن ثلاثة عشر شهرًا منذ استصدار مجلس الأمن قرار وضعه تحت البند السابع، فانطلقت عاصفة الحزم بقيادة التحالف العربي. وبعد مضي ما يقارب سبع سنوات على عمر النزاع المسلح في اليمن، يبدو أن أمن المنطقة على المدى القصير والمتوسط ​​والمنظور سيعتمد بشكل كبير على الحفاظ على وحدة واستقرار اليمن، وإيجاد نظام سياسي مرن ودولة قوية تمتلك القرار السيادي دون إكراه داخلي أو تدخل خارجي.

الهوامش:

[1] برنامج شاهد على العصر قناة الجزيرة، "حرب اليمن؛ رؤية العبقرى الشاذلى"، 7 فبراير 2013، مقطع متاح على اليوتيوب على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=oSt6tzjPQTk

[2] إحسان الفقيه، "فشل الديموقراطيات في الوطن العربي بعد ثورات الربيع (تحليل)"، وكالة الأناضول، 5 فبراير 2019، متاح على موقعها.

 [3] Philip Barrett Holzapfel, “YEMEN’S TRANSITION PROCESS”, United States Institute of Peace, 2014, p14.

 [4] Abdullah Al-faqih, ”The Yemen Uprising: Imperatives for Change and

Potential Risks”, Real Instituto Elcano, 21 Mar 2011, p5.

[5] إياد أحمد، "الثورة ومآلات الحرب"، ورقة بحثية غير منشورة، جامعة صنعاء، 2016، ص10.

[6] نادين عباس، "الإمارات تكشف عن مطامع احتلالها لجنوب اليمن"، 9 مايو 2019، متاح الموقع الرسمي الميادين نت.

[7] ماجد الربيدي، "مقاربة الرئيس الأمريكي المنتخب جوزيف بايدن للأزمة اليمنية"، منصة خيوط، 14 نوفمبر 2020، متاح على الرابط التالي: https://www.khuyut.com/blog/biden-approach-to-yemeni-crisis

 [8] Philip Barrett Holzapfel, “YEMEN’S TRANSITION PROCESS”, United States Institute of Peace, 2014, p15.

[10] مركز الجزيرة للدراسات، "آفاق تدويل الأزمة اليمنية"، 5 نوفمبر 2011، متاح على الرابط التالي: https://studies.aljazeera.net/ar/article/366

[11] نفس المرجع السابق.

[12] رياض الأحمدي ومحمد سماحة، "سيرة ذاتية لا تبعث على الاطمئنان؛ ما لا يعرفه اليمنيون عن جمال بنعمر"، 21 ديسمبر 2013، متاح على الموقع الرسمي لنشوان نيوز.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English