التصعيد في البحر الأحمر.. ماذا بعد؟

وقف الحرب في غزة، سبيلًا وحيدًا لاستعادة أمن الملاحة الدولية
عبدالرشيد الفقيه
March 20, 2024

التصعيد في البحر الأحمر.. ماذا بعد؟

وقف الحرب في غزة، سبيلًا وحيدًا لاستعادة أمن الملاحة الدولية
عبدالرشيد الفقيه
March 20, 2024
.

بعد أكثر من شهر كامل من اندلاع الحرب في غزة، وبعد تفاقم الأوضاع الإنسانية، وإحجام المجتمع الدولي عن مسؤوليات وقف الإبادة الجماعية للفلسطينيين وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أعلنت جماعة أنصار الله (الحوثيين)، في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، احتجاز سفينة تجارية إسرائيلية في البحر الأحمر، وإجبارها على التوجه إلى ميناء الصليف بالحديدة، وهي أولى عمليات استهدافها للسفن والناقلات البحرية الإسرائيلية أو المتجهة من وإلى إسرائيل عبر مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب، ردًّا على العملية العسكرية التي استهدفت قطاع غزة، وسط تخاذل وتواطؤ المجتمع الدولي عن واجبات حماية الفلسطينيين ووقف الجرائم الإسرائيلية، وعلى امتداد أسابيع من الحرب في غزة، ومنذ 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وحتى 14 مارس/ آذار الجاري، أعلنت قوات جماعة أنصار الله (الحوثيين)، مسؤوليتها عن نحو 50 هجومًا من أصل حوالي 102، قال البنتاغون إنها استهدفت السفن والناقلات البحرية الإسرائيلية، في مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن.

ووسط مساعٍ إسرائيلية وأمريكية وغربية، من أجل حصر الصراع بين إسرائيل وحماس، في قطاع غزة، وعدم السماح بتوسيع الصراع إلى مدى إقليمي أوسع، لحماية إسرائيل أثناء عملياتها العسكرية وفظاعاتها المروعة ضد الفلسطينيين، شنّت القوات الأمريكية والبريطانية، ابتداءً من مساء الخميس، 11 يناير/ كانون الثاني 2024، وحتى 14 مارس/ آذار، 44 غارة على أهداف للحوثيين، وفقًا للبنتاغون، أطلقت في جولتها الأولى، نحو مئة صاروخ، طالت 60 هدفًا، وقتلت 5 مسلحين. كما شنّت فجر الثلاثاء 23 يناير/ كانون الثاني 2024، في نسختها الثانية، نحو 18 هجمة، طالت مواقعَ في صنعاء والحديدة والبيضاء وتعز، ولاحقًا أعلنت غير مرة عن شنّ سلسلة من عمليات الاستهداف التي طالت عشرات المواقع في المناطق اليمنية الواقعة تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين).

وبتتبّع خارطة تلك الهجمات وتقييمها، بشكل مستقل، فإنّ الأغلب الأعم منها، قد طالت أهداف ميتة، سبق أن استهدفتها مرارًا هجمات مقاتلات التحالف والسعودية، ممّا يجعل منها، محض عمليات استعراضية وعبثية، تفتقر إلى الفاعلية والجدوى والاستراتيجية، رغم كل حملات الدعاية الغربية الضخمة، التي رافقت تلك العمليات، منها تصريحات قادة واشنطن ولندن، المُتكررة، حول تحقيق تلك العمليات لمهمة تعطيل القدرات الهجومية للحوثيين، وهي تصريحات ومزاعم أكثر وأكبر، بما لا يقاس، من حقائق تلك الهجمات، حيث كانت على ما يبدو من ضخامتها، جزءًا من حملات الدعاية الانتخابية الداخلية، في عام الانتخابات.

وقد عمدت الدعاية الضخمة التي رافقت هجمات التحالف الأمريكي البريطاني على أهداف عديدة في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثيين من اليمن، إلى فصل عمليات الاستهداف والتصعيد في البحر الأحمر عن تطورات الوضع في غزة، بهدف تجريد العمليات الحوثية من أبعادها الأخلاقية والإنسانية بصفتها عمليات مُرتبطة بالوضع في غزة، مع التركيز على سرد الحجج على أن العمليات العسكرية هي للدفاع عن العالم ومصالحه ورفاهه، لتعويض افتقارها الكُلي لأي مضامين أخلاقية أو إنسانية أو قانونية، وللتملص من حقائق كون تلك العمليات، دفاعًا عن إسرائيل لتأمين استكمال عملياتها العسكرية المُروعة التي تقوض فظاعاتها كل أسباب حياة وبقاء الفلسطينيين.

وبمعزل عن التأويلات والانطباعات والأمنيات، وبمقاربة مجردة للحقائق والوقائع، فإن التصعيد في البحر الأحمر وكل ما ترتب عليه، اندلع بسبب الحرب الإسرائيلية في غزة، ومرتبط بالوضع الخطير في القطاع وتتوسع عملياته وتداعياته بسبب استمرار الفظاعات التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين، وبسبب تدهور الوضع الإنساني دون أي رادع، وتبعًا لذلك فلا يمكن أن تنتهي تلك العمليات، ولا يمكن أن يتوقف التصعيد في البحر الأحمر، حسب تأكيدات قيادة جماعة الحوثيين، مرارًا، إلّا بوضع حدٍّ للحرب في غزة، وبوضع حدٍّ لتدهور الوضع الإنساني فيها، وللجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، منذ بَدء العمليات العسكرية الإسرائيلية التي أعقبت هجوم الفصائل الفلسطينية على منطقة المستوطنات في غلاف غزة، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

ومنذ سبتمبر/ أيلول 2014، وعلى مدى قرابة عشر سنوات من الحرب في اليمن، فالثابت أن الملاحة الدولية عبر مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن، ظلّت بمنأى عن نيران الصراع، الذي رغم طول أمده، وتعدد الأطراف الإقليمية والدولية المتورطة فيه، لم تُسجَّل خلاله أي عمليات استهداف للناقلات والسُّفن التجارية التي عبرت مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن قبالة السواحل اليمنية، رغم أنها كانت وقتئذٍ في دائرة الوصول الناري والعملياتي لأطراف الحرب اليمنية، ومنهم جماعة أنصار الله (الحوثيين)، فيما ظلت مسائل أمن وسلامة الملاحة الدولية، طيلة السنوات العشر، في إطار التصريحات والتحذيرات الإعلامية وحسب.

لا أحد يخدم إيران وحلفائها، أكثر مما تفعله إسرائيل وداعموها، فخلال الفترة الماضية حققت إيران، وكل التشكيلات الراديكالية في المنطقة، مكاسبَ مجانية واسعة، لم تحققها أو تحلم بتحقيقها على امتداد عقود طويلة، وعلى أكثر من مستوى، ويكذب من يقول إنها لا تكتسب كل يوم نفوذًا أوسع، وشعبية أكبر، على حساب ما تخسره إسرائيل وأمريكا وبريطانيا والغرب وحلفاؤهم في المنطقة.

وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أمام عرض عسكري لضباط من البحرية الإسرائيلية، في حيفا، يوم الأربعاء 2 أغسطس/ آب 2018، أي قبل نحو خمس سنوات من 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قد توعد إيران بـ"مواجهة عسكرية لتحالف دولي، سيشمل كل الأفرع العسكرية لإسرائيل، في حال حاولت إيران إغلاق مضيق باب المندب عبر حلفائها".

وبمعزل عن تقييم مدى فاعلية هجمات التحالف الأمريكي البريطاني، على عدة أهداف خاصة بقوات جماعة الحوثيين، فلا يُمكن إغفال أنها قد شُنّت في ظلّ انكشاف أخلاقي وقانوني وسياسي، أمريكي وبريطاني وغربي، غير مسبوق، بعد المساندة المُطلقة لجرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، ودعم حربها المروعة، ماليًّا وعسكريًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا، أضف إلى ذلك، حالة بيّنة لافتقار صُنّاع القرار في البلدين، للحد الأدنى من متطلبات فهم السياق الراهن في المنطقة، واليمن، بما في ذلك إدراك مركزية القضية الفلسطينية، بالنسبة للأغلب الأعم من سكان الوطن العربي، والآثار العميقة لتفاعلات تلك القضية، في ظل تآكل وتلاشي الثقة، بأمريكا وبريطانيا، في إطار دوائر الحلفاء قبل الخصوم.

وتكشف عناوين ومضامين خطاب التحالف الأمريكي والبريطاني، الرسمي وغير الرسمي، المرافق لعملياته ضد جماعة الحوثيين في اليمن، ومن ذلك استدعاء فزاعة إيران وشرورها وأخطارها- عن الفجوة الهائلة والعميقة بين حقائق الوضع، وبين صُنّاع القرار والخطاب، حيث بات وعي الناس يستوعب مطامع إيران وشرورها وأخطارها وفخاخها، ويدركون بذات القدر، مطامعَ وشرور وأخطار وفخاخ وألاعيب وحيل وأكاذيب أمريكا وبريطانيا وإسرائيل.

وفي واقع الأمر، لم يعد من الصعب إدراك أن لا أحد يخدم إيران وحلفاءها، وكل التشكيلات الراديكالية في المنطقة، أكثر ممّا تفعله إسرائيل وداعموها أمريكا وبريطانيا والمجتمع الدولي في غزة، وخلال الأسابيع القليلة الماضية، حقّقت إيران، وكل التشكيلات الراديكالية في المنطقة، مكاسب مجانية واسعة، لم تحققها أو تحلم بتحقيقها على امتداد عقود طويلة، وعلى أكثر من مستوى، ويكذب من يقول إنّ إيران والتشكيلات المتحالفة معها، وكل التشكيلات الراديكالية في المنطقة، لا تكتسب كل يوم نفوذًا أوسع في المنطقة، وشعبية أكبر، على حساب ما تخسره إسرائيل وأمريكا وبريطانيا والغرب وحلفاؤهم في المنطقة.

إنّ الثابت الآن بالتجربة، أنّ نهج الإدارة الأمريكية وحلفائها في مقاربة الحرب في فلسطين، وتداعياتها في المنطقة، ومن ذلك التصعيد في البحر الأحمر، تؤدي فعليًّا إلى نتائج عكسية كارثية، حيث تتراكم على إسرائيل وداعميها حمولة ثقيلة من الفظاعات المروعة غير المسبوقة المُرتكَبة ضد الفلسطينيين، وترتفع وتيرة التصعيد في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، حيث تزيد فاعلية الهجمات الحوثية، التي تُحقّق عمليًّا جملةً من الأهداف الجانبية غير المُعلنة، بالإضافة إلى أهدافها المعلنة من تلك الهجمات، كمُختبر حي لتطوير واستعراض وسائلها وقدراتها الهجومية، وفوق ذلك، تتزايد احتمالية اتساع رقعة التصعيد ضد الملاحة المتعلقة بإسرائيل إلى طرق الملاحة الدولية البديلة عبر رأس الرجاء الصالح.

أستطيع القول بوضوح، وأنا أحد المناهضين للسياسة الإيرانية والتشكيلات المُتحالفة معها، إنه يمكننا انتقاد ومهاجمة أدوار إيران، والتشكيلات المتحالفة معها، وكل التشكيلات الراديكالية الأُخرى في اليمن، وسوريا، والعراق، ولبنان، وفي غير مكان من المنطقة، وحتى داخل إيران ذاتها، فلدينا من الحقائق والحُجج والبراهين والمُثل والجسارة، ما يكفي لذلك، باستثناء أدوارها في فلسطين، والقضية الفلسطينية، فهي القضية الوحيدة التي يستحيل أن نجد الحدّ الأدنى من الحقائق والحُجج والبراهين، الكافية لمهاجمة ونقد تبنّيها ومساندتها، من إيران أو من غيرها، سواءً كان تبنيها ومساندتها لدوافع دينية أو عقائدية، أو كان لأسباب جيوسياسية، أو لأغراض دعائية ماكرة، أو لأي غرض آخر كان، فبالإضافة إلى أنّ عملية النقد، في تلك الحالة، ستكون مكشوفة أخلاقيًّا وموضوعيًّا، وتفتقر للنزاهة والدقة والمسؤولية، فإنها ستكون كذلك، مُفتقرة للحد الأدنى من الذكاء والفطنة والمروءة والحس السليم.

وخاتمة القول، وخُلاصته، وبكل الحسابات، فإنّ إنهاء التصعيد والفوضى في البحر الأحمر، لن يتحقّق بالعمليات العسكرية العبثية التي تزعم تدمير قدرات الحوثيين الهجومية، ولا بالدعاية الضخمة ومرافعات هجاء الحوثيين وسرد مساوئهم، بل إنّ أقصر الطُّرق إلى إنهاء التصعيد والفوضى في البحر الأحمر، وبأقل قدر من التكاليف، يبدأ وينتهي بوقف مغامرات نتنياهو وحكومته المُتطرفة، ووقف طوفان الفظاعات التي تُرتكب ضد الشعب الفلسطيني، ووقف حمّام الدم في غزة، ووقتئذٍ فقط يمكن أن تجد المرافعات والمحاججات، والمساعي الحميدة لفضح الأشرار، حيزًا من اهتمام الناس وانتباههم.

•••
عبدالرشيد الفقيه

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English