الأطفال المجندون في اليمن..

مأساة على هامش الحرب وفي متنها
بلال الشقاقي
March 21, 2021

الأطفال المجندون في اليمن..

مأساة على هامش الحرب وفي متنها
بلال الشقاقي
March 21, 2021

في الـ12 من مارس/ آذار 2021، أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن، عبر حسابها على تويتر، أنها "تمكنت من لمّ شمل 14 قاصرًا مع ذويهم، بعد فترة طويلة من الفراق"، كانت سلمتهم إليها الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا. أفادت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن الحكومة، قالت بأن أولئك الفتيان القُصّر تم احتجازهم لديها وهم يقاتلون في صفوف أنصار الله (الحوثيين) في جبهة مأرب. 

تزامن هذا الإعلان مع ازدياد حدة المواجهات والمعارك مؤخرًا على تخوم مدينة مأرب وعدة مُدن أخرى، والتي زادت معها وتيرة تجنيد المقاتلين من الأطفال القاصرين الذين تم انتزاع الأقلام من أيديهم وإحلال البنادق بدلًا عنها، وتحولوا في ليلة وضحاها إلى مقاتلين. قُتل الكثير منهم، ومن حالفه الحظ وكُتب له النجاة، عاد إما بعد تجربة اعتقال، أو بإعاقة دائمة أو إصابة جسدية أو نفسية.

امنيتي الوحيدة المشي مجددًا

جالسًا على كرسيه المتحرك، وبعينين مليئتين بالرغبة المصحوبة بالألم، يراقب عبدالكريم سالم (15 سنة) الأطفال من نفس عمره وهم يلعبون أمامه كرة القدم، بينما هو لا يستطيع أن يحرك ساكنًا، بسبب أصابته بشظية اخترقت عموده الفقري. أصيب عندما كان يقاتل في إحدى الجبهات بمحافظة الجوف أواخر العام 2019، وتسببت له هذه الإصابة بإعاقة لم يتمكن بعدها من المشي على رجليه. يخرج صباح كل يوم بصحبة والده المُقعد على كرسي متحرك هو الآخر، بعد إصابته في رجليه وفقدانه إحدى يديه في إحدى الجبهات التي كان يقاتل فيه هو أيضًا. يمسك عبدالكريم بكرسي والده الكهربائي المتحرك ويذهبان في جولتهما اليومية وسط شوارع الحي الذي يسكنونه، ومن ثم يعودون لفتح دُكانهم الصغير أو كما تسمى باللهجة اليمنية: "صندقة". يبيعون فيها بعضًا من المواد الغذائية وأشياء أخرى يتم عملها في المنزل كالخبز و"اللحوح"، ويمثل هذا الدكان مصدر دخل أساسي لـعبدالكريم وأسرته؛ "صحيح أنه لا يغطي تكاليف كل احتياجاتنا الأساسية، لكنه على الأقل يكفينا سؤال الناس، ويغطي الاحتياجات الضرورية لعائلتي"، هكذا عبّر عبدالكريم عن رضاه عن مشروعه الصغير هذا. 

عبدالكريم: كنت أحلمُ أن أصبح طبيبًا أعالج الناس، أما الآن كل ما أتمناه أن أتمكن من إجراء العملية الجراحية التي أخبرنا الأطباء أنه من غير الممكن إجراؤها في اليمن، أمنيتي الوحيدة أن أمشي من جديد

أوقف عبدالكريم دراسته، وهو في الصف التاسع من المرحلة الأساسية. يقول إنه اضطر لترك الدراسة والذهاب إلى القتال في الجبهة حتى يوفر مصروفات البيت الأساسية، بعد إصابة والده، الذي كان المعيل الوحيد للأسرة، وهي الإصابة التي سببت له إعاقة منعته من العمل. 

يقول عبدالكريم في حديثه لـ"خيوط": "كنت أتمنى أن أُكمل دراستي الثانوية وأحصل على مجموع درجات كبير يمكنني من الحصول على منحة لدراسة الطب في ألمانيا، كنت أحلمُ أن أصبح طبيبًا أعالج الناس، أما الآن كل ما أتمناه أن أتمكن من إجراء العملية الجراحية التي أخبرنا الأطباء أنه من غير الممكن إجراءها في اليمن، أمنيتي الوحيدة أن أمشي من جديد".

علي الآنسي، محامي وناشط في مجال حقوق الطفل، يذكر في حديث لـ"خيوط"، أن الكثير من الأطفال المقاتلين يتم الزج بهم في خطوط النار المباشرة بدون تدريب، إذ كل ما يعرفونه هو حمل السلاح وإطلاق النار في الهواء. لذلك -بحسب المحامي الآنسي- يسقط عدد كبير من القتلى، وتحدث الكثير من الإصابات في معظم الجبهات، نتيجة قلة التدريب وانعدام الخبرة. وهو ما أكده عبدالكريم بأنهم أخذوه لحضور دورة تثقيفية لمدة أسبوعين، وأخرى عسكرية علّموه خلالها طرق إطلاق النار الأساسية، وأخرى بدائية، قال إنه لم يستفد منها شيئًا على أرض الواقع عند ذهابه إلى القتال في ساحة المعركة.

مشهد الدم والأشلاء والجثث المحترقة أصابته بصدمة أفقدته وعيه، ولم يفق إلا وهو محتجز بين أيدي القوات المشتركة التابعة للتحالف، التي جاء لقتالها.

جسد بلا روح

لم تكن الإصابات والإعاقات الجسدية هي الأضرار الوحيدة التي أصابت الأطفال المجندين، فقد خلفت مشاركتهم في الحرب، مشاكل نفسية لا حصر لها، إضافة إلى التجارب القاسية لعائلاتهم، والتي لم يستطع أغلبها تجاوزها بسلام.

أحمد المنتصر (13 سنة)، كان من ضمن من أُفرج عنهم في صفقة تبادل الأسرى والمعتقلين التي تمت برعاية الأمم المتحدة أواخر العام 2020، بين أنصار الله (لحوثيين) من جهة، والحكومة المعترف بها دوليًّا والقوات الأخرى المدعومة من التحالف العربي بقيادة السعودية من جهة أخرى. تم أسر أحمد في جبهة الساحل الغربي بمحافظة الحديدة من قبل القوات المشتركة المدعومة من "التحالف العربي"، وهو يقاتل في صفوف أنصار الله (الحوثيين) بداية العام 2017. عاد بعد ثلاث سنوات في الأسْر مصابًا باضطرابات نفسية، بسبب ظروف الاحتجاز التي عاشها، وقبلها عاش تجربة الحرب والمواجهات التي خاضها. حاولنا الحديث مع أحمد، إلا أنه ظل صامتًا، غارقًا في عالمه، لم نتلقَ منه أي رد، كان يتجنب حتى النظر إلينا. 

تقول والدته لـ"خيوط"، إن ابنها عاد شخصًا آخر؛ لم يعد أحمد الذي تعرفه، "يُفضل دائمًا البقاء وحيدًا في غرفته، ولا يتكلم معنا ولا مع أحد إلا إذا بادرنا بالكلام معه، يجيب بشكل مختصر، ومن ثم يرجع لصمته الذي أصبح سمته الغالبة". تضيف والدته أنها في كل ليلة تقريبًا، تهرع إلى غرفته بعد سماع صراخه العالي، من جراء الكوابيس التي لا تفارقه ليلًا. وختمت حديثها والحسرة تعلو وجهها: "ابني أحمد عاد لي جسدًا بلا روح". 

يروي والد أحمد لـ"خيوط"، الحادثة التي تم أسر أحمد على إثرها، والتي قال إن أحمد أخبره بها بعد صعوبة شديدة في حثه على الكلام: "نجى أحمد بالصدفة من غارة جوية استهدفت الطقم العسكري الذي كان على متنه مع مجموعة من الجنود الآخرين، الذين قتلوا جميعهم نتيجة هذه الغارة. يقول أحمد إنه ذهب لقضاء حاجته بعيدًا إلى حد ما عن مكان تواجد الطقم، إلا أنه فوجئ بصوت غارة جوية، أحس بعدها باهتزاز الأرض من تحت قدميه. عاد مسرعًا إلى الطقم ليراه وهو يحترق وأشلاء جثث الجنود والمقاتلين متناثرة من حوله. يقول إن مشهد الدم والأشلاء والجثث المحترقة أصابته بصدمة أفقدته وعيه، ولم يفق إلا وهو محتجز بين أيدي القوات المشتركة التابعة للتحالف، التي جاء لقتالها. 

يخضع أحمد حاليًّا لجلسات علاج نفسية مكثفة في إحدى المصحات النفسية في صنعاء، وتقول الطبيبة المشرفة على حالته أنه تعرض لصدمات نفسية وعصبية كبيرة، سببت له فصامًا حادًّا ورغبة شديدة في العزلة واضطرابًا في النوم واليقظة، إضافة إلى اضطرابات نفسية وذهنية أخرى. 

في حين لا يزال عبدالكريم وأحمد وغيرهما الكثير من الأطفال، يعانون من تبعات تجنيدهم وإشراكهم في القتال، يؤكد فريق الخبراء على أن هذه الأرقام التي تحقق منها الفريق، لا تعكس سوى صورة جزئية من حجم وطبيعة تجنيد الأطفال في اليمن

الصراع فاقم المشكلة

أحمد وعبدالكريم هما نموذجان فقط، من أطفال يمنيين كُثر، تم تجنيدهم للقتال في خطوط النار المباشرة، خلال السنوات الست الفائتة من الحرب في اليمن. لم تكشف الجهات المسؤولة عن أعداد القتلى والجرحى في صفوف الأطفال المقاتلين.

جميع أطراف الصراع في اليمن، تقوم بتجنيد الأطفال واستخدامهم في الأعمال الحربية والأمنية المختلفة، هذا ما أكده تقرير فريق الخبراء البارزين التابع للأمم المتحدة، نُشر أواخر العام 2020، الذي وثق نحو 259 حالة مؤكدة من التجنيد والاستخدام للأطفال في اليمن، جندتهم عدة أطراف في النزاع واستخدموا في الأعمال العدائية. وأشار التقرير الى ارتفاع نسبة الوفيات والإصابات في صفوف من استخدموا في القتال من هؤلاء الأطفال المجندين.

كان لجماعة أنصار الله (الحوثيين) النصيب الأكبر من هذا التجنيد، حيث كانوا مسؤولين عن تجنيد 163 طفلًا، لا تتجاوز أعمار بعضهم 7 أعوام. ويذكر التقرير أن هؤلاء الأطفال "تم تجنيدهم في الغالب من المدارس والمناطق الفقيرة والقرى النائية، ومن مراكز الاحتجاز ومخيمات النازحين، عن طريق الحوافز المادية واستغلال الجانب الديني العقائدي". ونوه التقرير إلى أن الفقر والجوع، في جميع الحالات التي شملها التحقيق، كانا عاملين قويين جعلا الأطفال عرضة للتأثر بالحوافز النقدية وضحايا لتلاعب القائمين على التجنيد بعقولهم. والملفت للنظر، كان تأكيد فريق الخبراء البارزين عن تلقيهم تقارير موثوقة بشأن "تجنيد "الحوثيين" لـ34 فتاة (تتراوح أعمارهن بين 13 و17 سنة)، لاستخدامهنّ في التجسس وفي تجنيد أطفال آخرين، وكحارسات ومسعفات، وفي مهام الأمن النسوي، الذي من مهامه الأساسية دعم الحوثيين من خلال تلقين النساء والفتيات أيديولوجية الجماعة، والحفاظ على النظام في مراكز الاحتجاز الخاصة بالنساء، وتنفيذ أنشطة إنفاذ القانون.

في الطرف الآخر، يذكر التقرير أن "24 طفلًا هو عدد من جندتهم قوات الحكومة [المعترف بها دوليًّا] والقوات الأخرى المدعومة من قبل التحالف [العربي]". وأشار تقرير الخبراء إلى أن "أطفالًا جُندوا من تعز ولحج، ثم نُقلوا إلى السعودية لتلقي التدريب، واستُخدموا فيما بعد كمقاتلين، قتل بعضهم، واحتُجز آخرون على أيدي الحوثيين". 

وفي حين لا يزال عبدالكريم وأحمد وغيرهما الكثير من الأطفال، يعانون من تبعات تجنيدهم وإشراكهم في القتال، يؤكد فريق الخبراء على أن هذه الأرقام التي تحقق منها الفريق، لا تعكس سوى صورة جزئية من حجم وطبيعة تجنيد الأطفال في اليمن. وأن جيلًا من الأطفال في اليمن قد تعرَّضوا لضرر لا يُقاس من جراء تجنيدهم وإساءة معاملتهم، وحرمانهم من أبسط حقوق الإنسان الأساسية، بما في ذلك التعليم".


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English