نُخب حضرموت: من يقود الرأي العام؟

بين انكفاء الصوت التقليدي وصعود الوعي الرقمي
عبدالله البيتي
May 5, 2025

نُخب حضرموت: من يقود الرأي العام؟

بين انكفاء الصوت التقليدي وصعود الوعي الرقمي
عبدالله البيتي
May 5, 2025

في لحظةٍ بدتْ عابرةً انكشفتْ حقائقُ كانت كامنةً تحت سطحِ الصمت. حادثةُ الاعتداءِ البشعِ على الطفلِ بائعِ الآيس كريم في مدينةِ المكلا لم تكنْ مجردَ واقعةٍ مؤلمةٍ تمضي إلى النسيان، بل تحوّلتْ إلى شرارةٍ فجّرتْ غضبًا شعبيًّا لم يَخْمُدْ حتى اللحظة. لم تكن الحادثةُ بحدّ ذاتها هي ما هزَّ الضميرَ الجمعيَّ، بل ما رافقها من صمتٍ مريب وغيابٍ فادحٍ لأصواتٍ اعتاد الناسُ أن تتصدّرَ المشهد في مثل هذه اللحظات.

ما حدث كشف عن تحوُّلٍ عميقٍ في بنيةِ التأثير داخل المجتمعِ الحَضْرَميّ؛ حيثُ تراجعَ الصوتُ التقليديُّ أمام صعودِ قوىً جديدةٍ لا تنتظرُ الإذن ولا تعبأُ بالمقامات. لم تعُدِ الكلمةُ حكرًا على المنصّاتِ الرسمية ولا حبيسةَ الصياغاتِ المنمَّقة. خرجَ الضميرُ الشعبيُّ من عزلته وراحَ يصوغُ لغتَه الغاضبةَ ويُعلِنُ عن نفسِه دون وسيط. لقد مثّلتْ هذه اللحظةُ سقوطًا مُدوِّيًا للنخبِ القديمة، وولادةً لقوةٍ رقميةٍ صاعدةٍ تفرضُ وجودَها وتصنعُ الرأيَ العام، بل وتؤثِّرُ في القرار وتعيدُ ترتيبَ مشهدٍ طالما بدا راكدًا.

ملخّص الحادثة

في حيِّ (رُوْكَبْ) شرقَ مدينة المكلا، تعرّضَ الطفلُ يحيى الكامل (13 عامًا)، وهو ينحدر من محافظةِ إب، لاعتداءٍ من قِبلِ رجلٍ بالغٍ أثناء مزاولتِه بيعَ الآيس كريم في الشارع. سرعانَ ما أثارتِ الحادثةُ موجةَ غضبٍ واسعة، إذ أطلقَ ناشطون محلّيون حملةَ تضامنٍ كبيرةً على وسائلِ التواصل الاجتماعي، طالبوا خلالها بمحاسبةِ الجاني ومحاكمته علنًا.

وفي وقتٍ قياسيّ استجابتِ الجهاتُ الأمنيةُ وألقتِ القبضَ على المعتدي، في خطوةٍ بدتْ أقربَ إلى استجابةٍ لنبضِ الشارع منها إلى إجراءٍ اعتياديّ. تسارعت الأحداث بشكلٍ لافت، وأُعيدت الثقةُ -ولو جزئيًّا- في قدرة الشارع على الفعل، وفي إمكانية استعادة الكرامة المسلوبة بقوة الكلمة والموقف.

لكن هذه الهبّةَ لم تكنْ وليدةَ لحظتِها فحسب، بل كانت تعبيرًا عن غضبٍ متراكم، وشعورٍ طويلٍ بالإهمالِ والتجاهل، ورغبةٍ دفينةٍ في استعادةِ العدالة والكرامة. خرجَ الناسُ من صمتِهم، وفرضوا أولويّاتِهم، وأسقطوا رمزيّةَ وجوهٍ تقليديةٍ لم تعُد تعبّرُ عنهم، أو تُمثّلهم.

غياب النُّخب التقليدية

لطالما تحرّكتْ حضرموت على إيقاعِ نخبٍ معروفة: شيوخُ قبائل، خطباءُ منابر، وقياداتٌ حزبية، لعبوا أدوارًا محوريةً في إدارة الشأن العام والوساطة والتوجيه. لكن في لحظة الحقيقة لم يظهرْ منهم أحد. لا بيان، لا موقف، لا محاولةَ للوساطةِ أو حتى إدانة. الغيابُ لم يكنْ مجردَ تقاعس بل بدا أقربَ إلى انكشاف مؤلم لنهاية مرحلة.

هؤلاءِ الذين اعتادوا الحضورَ في كلِّ مشهد، اختفَوا حين احتاجَهم الناسُ حقًّا. ومن خلال هذا الغياب ظهر كم ابتعدت تلك النخب عن نبض المجتمع، وكم تحوّل دورها من قيادة رأيٍ إلى صدى باهتٍ لتوازنات قديمة لم تعد تحكم الواقع.

تشكيلُ الرأيِ العام كان في السابق مهمةً تنبع من أعلى، تُمارَس عبرَ خطب الجمعة أو البيانات الرسمية. أما اليوم فقد انقلبت المعادلة. يمكنُ لتغريدةٍ، أو مقطعِ فيديو لا يتجاوزُ الدقيقة، أن يُشعلَ موجةً من الغضبِ أو التعاطف تُغيّر مواقف وتُحرّك سلطات.

هذا الغيابُ ليس طارئًا، بل نتيجةُ مسارٍ طويلٍ من الانفصالِ عن همومِ الناس. ظلّ خطابُهم يدور في دائرةٍ مغلقة، متكئًا على لغةٍ خشبيةٍ، وولاءاتٍ حزبية أو جهوية، بعيدًا عن الواقعِ اليوميِّ. ومع تفاقمِ الفجوة نشأتْ حاجةٌ ملحّةٌ إلى مرجعيّةٍ جديدة تعيد وصل المجتمع بنفسه، وتُعبّر عن آلامه وآماله.

سلطة الهاتف المحمول 

تشكيلُ الرأيِ العام كان في السابق مهمةً تنبع من أعلى، تُمارَس عبرَ خطب الجمعة أو البيانات الرسمية. أما اليوم فقد انقلبت المعادلة. يمكنُ لتغريدةٍ، أو مقطعِ فيديو لا يتجاوزُ الدقيقة، أن يُشعلَ موجةً من الغضبِ أو التعاطف تُغيّر مواقف وتُحرّك سلطات.

الهاتفُ المحمولُ بات أداةَ سلطةٍ لا تقلُّ شأنًا عن أيِّ منبرٍ تقليدي. فيه تُكتبُ القصص وتُصاغُ الروايات وتُخاضُ المعارك الرمزية. وما يميز هذه النخبة الرقمية الصاعدة هو صدقها العفوي وتواصلها العضوي مع الناس. لا وساطةَ لغوية ولا أوضاع اعتبارية. فقط إنسانٌ يرى، ويشعر، ويتكلم.

لقد أطلقَ شبابُ المكلا حملةَ تضامنٍ مع الطفلِ يحيى الكامل بلا تنسيقٍ أو دعمٍ مؤسسي. لم يحتاجوا إلى إذنٍ من شيخٍ أو تصريحٍ من جهة. عبّروا بلغتِهم الخاصة التي تُشبه الناسَ وتُخاطبُهم مباشرةً. وفي ساعاتٍ صار صوتُهم قضيةَ رأيٍ عام وتحوّلتْ مشاعرُهم إلى قوةِ فعلٍ حقيقية.

هكذا برزتْ نخبةٌ جديدة لا تستمدُّ شرعيتَها من لقبٍ أو منصب، بل من قدرتِها على التعبيرِ والوصول، من مصداقيّتها واتصالِها العميقِ بالشارع. نخبةٌ قد تكون شابة، غاضبة، وربما فوضوية أحيانًا، لكنها صادقة وحقيقية.

وهذا يطرحُ سؤالًا مركزيًّا: من هو المؤثّرُ اليوم؟ هل هو من يمتلكُ رؤيةً وهمًّا جماعيًّا؟ أم من يُحسن استخدامَ الوسيطِ التقنيِّ للوصولِ والتأثير؟ ربما يجمعُ البعضُ بين الأمرين، لكن المؤكَّد أن النخبةَ القديمةَ لم تعُدْ وحدَها في المشهد، إن لم تكنْ قد خرجتْ منه تمامًا.

من الاحتجاج الرقمي إلى الفعل الواقعي

ما جرى لم يكن مجرد ضجيجٍ عاطفيٍّ عابرٍ. لقد أثبت الضغط الرَّقمي قدرته على تحويلِ التّفاعل الافتراضي إلى فعلٍ واقعيٍّ ملموسٍ. السُّلطة التّي ربما ترددت في التّجاوبِ في البداية، وجدتْ نفسها فجأةً محاصَرةً بمطالبِ النَّاس، مقيَّدةً بأعين الجمهور، مطالَبةً بالتحرك تحت ضوء الشاشات لا في ظلال المكاتب المغلقة.

في هذا المشهدِ تتشكل لحظة جديدةً في علاقةِ المواطنِ بالدولةِ: لحظة تقوم على الرقابة الجماهيريّة والاستجابةِ اللحظية والمحاسبة العلنية. لم يعُد القرارُ يُصنَع في العتمة، بل يُنتَزَعُ تحت ضوء الهاتف المحمول وبقوة التّفاعل الاجتماعي المتصل الذي لا يهدأ.

لقد تماهى الناس مع آلام طفلٍ لا ينتمي إلى مدينتِهم، وتضامنوا معه كما لو كان ابنَ حيّهم، في تعبيرٍ نادرٍ عن عمقِ الحسّ الوطنيّ الشعبيّ، واستعادةٍ رمزيةٍ لفكرة اليمن الواحد من قلب الشارع، لا من فوق منصات الخطابة أو صالونات السياسة.

ولم يعد الفعل الرقمي محصورًا في التَّنديدِ أو التعبيرِ عن الغضبِ، بل بات أداةَ ضغطٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ نافذةٍ، تُرغم المؤسسات على التفاعل وتُحرج المتقاعسين، وتعيد رسم أولويات الشأن العام. في هذا الفضاء المفتوح تُصاغُ الحملات وتُربك مراكز النفوذ، ويُدفع المسؤول -مهما علا موقعه- إلى الظهور والتبرير، لا لأنَّ القانون يطالبه، بل لأنَّ الشارع الرَّقمي باتَ سلطةً رقابيةً أخلاقيةً لا ترحم، جمهوره هو القاضي، ووسائطه أسرع من كلِّ مؤسسات الدولة مجتمعة. وهكذا يُعادُ تعريف معنى السلطة، ويتغير شكل العلاقة بين صانع القرار والمواطن، في تجربةٍ تُعَدُّ من التَّحولات الأعمق التي يشهدها الواقع اليمنيّ المعاصر.

تآكل الثقة وتجدد الهوية المجتمعية

ما جرى ليس تبدّلًا في أدواتِ التأثير فحسب بل تحوّلٌ جذريٌّ في فَهْمِ المجتمعِ لنفسِه. الصورةُ القديمةُ للنخبةِ كوصيٍّ على الوعيِ الجمعيّ تآكلت. وحلّت محلّها ثقةٌ جديدةٌ في الفعلِ المباشر، في المبادرةِ الذاتية، في صوتِ المواطنِ العاديّ.

إنها لحظةُ إعادةِ تعريفٍ لـ (الهويةِ المجتمعية) إذ لم يعُدِ الناسُ ينظرون إلى أنفسِهم كمجرّدِ متلقّينَ للقرارِ أو التوجيه، بل كفاعلين، مؤثّرين، وقادةِ رأي. ومع هذا التحوّل تتشكّلُ قيادةٌ جديدة لا تعتمدُ على ما كان، بل على ما يمكنُ فعلُه الآن، على ما يمكنُ قوله اليوم، لا ما قيلَ بالأمس.

مجتمع يعيد تشكيل ذاته

قضيةُ الطفلِ يحيى الكامل لم تكنْ استثناءً، بل مرآةً لتحوّلٍ أوسعَ في حضرموت وربما في اليمنِ كلّها. اللافت في هذه القضية أن الضحية ينحدر من محافظة إب الواقعة في أعالي اليمن، بينما وقع الحدث في المكلا على ساحل حضرموت؛ وهذا ما يضفي على المشهد بُعدًا جغرافيًّا-اجتماعيًّا مهمًّا. 

ففي بلدٍ يعاني من استقطاباتٍ مناطقيّةٍ وسياسيّةٍ حادّة، برزتْ هذه القضية لتعيدَ التذكير بقدرة الشارع الشعبي والنخبة الرقمية الجديدة على تجاوز الانتماءات الضيقة، وتبنّي خطابٍ وحدويٍّ جامعٍ يرتكز على القيم المشتركة لا على الانتماءات الجهوية. 

لقد تماهى الناس مع آلام طفلٍ لا ينتمي إلى مدينتِهم، وتضامنوا معه كما لو كان ابنَ حيّهم، في تعبيرٍ نادرٍ عن عمقِ الحسّ الوطنيّ الشعبيّ، واستعادةٍ رمزيةٍ لفكرة اليمن الواحد من قلب الشارع، لا من فوق منصات الخطابة أو صالونات السياسة. 

في حضرموت وربما في اليمنِ كلّها. لم يعُد مقبولًا أن تُطوى القضايا في الظلّ، أو أن يُدار الشأنُ العام بصمت. اليوم من يرى الظلمَ ويملكُ الشجاعةَ لقول (لا) يُصبحُ تلقائيًّا جزءًا من نخبةٍ جديدة: نخبةِ الشارع، نخبةِ الهاتف، نخبةِ الضميرِ الحيّ.

وحين يجتمعُ الوعيُ بالحسِّ الشعبيّ، والتقنيةُ بالإرادة، فإنّ ميزانَ القوةِ يتغيّر وتُكتبُ فصولٌ جديدةٌ في التاريخ. لقد دخلنا عهدًا جديدًا لا يصنعُه الساسةُ وحدَهم، بل يخطُّه الناسُ العاديون بأصواتِهم، بشجاعتِهم، وبإصرارِهم على ألا يُدارَ مصيرُهم في غيابِهم.

ولعلّ الدرس الأهم الذي تقدّمه هذه اللحظة، هو أن المجتمعات ليست جامدة. إنها تعيدُ اكتشاف ذاتها حين تُستفزّ، وتعيدُ ترتيبَ أولويّاتها حين تُهمل، وتصنع نخبَها الجديدة حين تخذلها النخبُ القديمة. وهذه سُنّة الحياة: من لا يتجدّد، يتقادم. ومن لا يُصغِ لصوتِ الناس، سيجد نفسه خارج التاريخ.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English