الأمر وبيضة الدين

طرق النزاع والانتقال
عبدالوهاب الحراسي
August 16, 2022

الأمر وبيضة الدين

طرق النزاع والانتقال
عبدالوهاب الحراسي
August 16, 2022

أكثر الكلمات غموضًا هي هذه: الـ «أمر»؛ كما أنّ لها معانيَ مهينة، هازئة، جارحة، مقلقة، وقد تكون مخيفة! فمنها: مرْءٌ، مرأةٌ، مُرُوْءَة، إمارة، أمير، إمر، مراء، مؤتمر، مؤامرة...

وفضلًا عن أنّ كل الكلمات إشارات –بين مرسل/متلقٍّ– تصالح عليها المجتمع، فإنّ كلمة الأمر تزيد، وتمتاز عليها في أنها إشارية في مضمونها، أي في بنية مفهومها، ويزيد من حدّتها حضور طرف ثالث يجعل منها تلميحًا –وتجعل منه دخيلًا– بين متواطئين؛ لأنها تشير إلى كلّ الموضوعات المجتمعية الإنسانية؛ فكلّ موضوع، مسألة، قضية، وكل فعل وواقعة هي (أمر). إنّ معنى لفظ الـ «أمر» يشبه تمامًا لفظ الـ «شيء»، والفارق الوحيد بينهما أنّ الشيء يستخدم ليشير إلى المحسوسات، بينما الأمر، إلى كلّ ما هو غير محسوس.

ما الأمر؟

لكنّ أمرًا واحدًا، عند العرب، بخاصة، قد بلغ، في تراثهم الإسلامي، من الجلال والرهبة والعزة حدّ أن يمكنه السيطرة على كل أمورهم التي كانت، والكائنة، والمحتملة، بل بهذا الأمر يكون حتى الله نفسه، من شأنه. والمثير أنك تجد لكلِّ أمر اسمًا ومفهومًا في معاجمهم، إلا هذا الأمر، وإن وجد، فإنّ العرب لم ينطقوا به، بالأقل، في (أول أمرهم)! بالرغم أنّ أشراف العرب (زعامات اقتصادية، واجتماعية، ودينية، وعسكرية) كانوا –وما زالوا إلى اليوم– تستبد بهم الرغبة، وقد يفعلون كل المنكرات، في سبيل الإمساك بزمامه، يفعلون ذلك مؤتمرين في تكتم شديد، ومتأمرين بين جدران الصمت، وكأنهم بصدد سر اسم الله الأعظم. إنّ الأمر هو هذا: (الولاية العامة، السيادة، الحكم، الملك، السلطة) إنه، وبكلمة واحدة: الدولة. وكل من يظفر بلجام (الأمر) يؤول إليه، وعلى جميع العباد في البلاد السمع والطاعة.

وكل من ينازع في هذا الأمر، فليدعو ثبورًا كثيرًا! باعتباره بيضة الدين، وشوكة المسلمين، وولي الأمر، هو مثل الله على الأرض، وخليفته في عباده. وقد كان انتقال الأمر إلى ولي، لاحقًا يتم في العادة من طريقين:

- التوريث في بيت العائلة و/أو انتقاله إلى بيت عائلة جديدة.

- الغلبة، (الانقلاب، الثورة، الاستيلاء، السلطة) وكلا الطريقين مشروعين حتى عصرنا الراهن، حيث يسود العالم العربي نوعان من الحكم يتشابهان كثيرًا في الواقع، ويحملان اسمين متناقضين: الملكي (سبع دول) والباقي الجمهوري، ففي النظام الأول (الملكي) يكون انتقال السلطة وتداول الحكم من طريق التوريث، في العادة، سواء اعتمدت لذلك دستورًا أم لا. ولكن أمرهم لا يخلو من الطريق الثاني: الغلبة (عنف الانقلاب و...).

أما النوع الثاني (الجمهوري)، فإنها (أي الجمهوريات العربية) تعتمد الطريق الثاني: أي الغلبة مطلقًا، ولم يحدث أن انتقل الأمر/ السلطة/ الحكم من طريق ما نصّت عليه دساتيرها: حق الشعب في حكم نفسه بطريق الانتخاب (الذي لا يختلف كثيرًا عن طريق البيعة، فكلاهما كانا يعتمدان اغتصاب قرار الناخب/ المبايع) لتتركز وتراوح السلطة دهرًا في يد فرد/ حزب/ جماعة/ جماعات...

لقد تم احتكار السلطة في الجمهوريات العربية التي تمثل صورة مثّلت أهم ملامح التاريخ العربي الحديث، وبذلك الاحتكار –الذي لا يزول إلا بالاغتصاب– جعلت تلك الجمهوريات من طموحاتها ومشاريعها النهضوية كمثل (الديمقراطية، الدولة المدنية، المجتمع المدني، الحكم الرشيد، الشفافية، العدالة الاجتماعية، ...إلخ) مجرد شعارات ومزايدات ومعارك وهمية.

الحقيقة أنّ تاريخ تلك الجمهوريات تسير وتدار حتى اليوم بمفهوم وتقاليد (أولي الأمر)...، وهو المفهوم الذي أخذه ويقرّ به، ويريد أن يؤول إليه، منذ عقود، تنظيم عريق هو تنظيم الإخوان المسلمين، الذي ناضل طويلًا وفشل كثيرًا في أن يصبح ولي/ أُولي الأمر في الملَكيات العربية، وجد فرصته، وكاد أن يغنم بالأمر في بعض الجمهوريات العربية بالانتخابات (في فلسطين، الجزائر، مصر، اليمن، الأردن)، وحيث أجهضت حقوقه في ولاية الأمر لجاء في عام 2011م، إلى الثورة السلمية لأخذ حقه عنوة في بعض الجمهوريات (ليبيا، مصر، سوريا، اليمن، تونس) بمعية شعوب تلك الدول (دول البيع العربي)، وقصة (الأمر) ومآله ما زالت مستمرة ولم تنتهِ بعد في هذه الدول (سوريا، اليمن، ليبيا) حتى اليوم، حيث تحكمت وما زالت تتحكم في نجاح ومصير ربيع الإخوان المسلمين الدول العربية الملكية/ الأميرية.

لمن الأمر اليوم

لله أم للناس/ الشعب؟

تلك هي المعضلة التي لطالما واجهها وتواجهها كل أنظمة الحكم العربية في تاريخها وفكرها السياسيين.

الحق أنّ الأمر لم يكن يومًا لله، بل –باسمه– لفرد أو جماعة. كما أنه لم يكن يومًا للشعب، بل –باسمه– لأولي الأمر.

وما دام الجميع (زعامات الجمهوريات، والملكيات، والثائرون عليهم بمشروعية الثورة، وبدون مشروعية كالإخوان المسلمين، التنظيمات الإرهابية، الحوثيين) يعتنقون -صراحة أو ضمنًا– مفهوم الأمر وأولي الأمر التقليديين، فإنّ مفهوم الأمر وأولي الأمر هو الغاية والمثال والأنموذج للجميع.

إنّ أعظم الملكيات العربية، مالًا ونفوذًا على الإطلاق (أي الملكية السعودية) لا تقرّ، من حيث المبدأ بشرعيات الجمهوريات العربية، حيث تراها دولًا استولى زعماء أنظمتها على السلطة، وترى فيهم دجالين كذابين ومجرمين ليس هدفهم سوى الاحتفاظ بالسلطة وتوريثها دون أي اعتبار.

إن ملكية السعودية، وخوفًا على أمرها أو الأمر فيها، قد أبت إلا أن يؤول الأمر وأمر سيرورة ومصير ثورات الربيع العربي السلمية، إلى ذلك الحي –حيّها– من قريش.

ليعود «الأمر» إلى «أولي الأمر» ويعود لـ«يعيش عبد المولى في بيت مولاه».

•••
عبدالوهاب الحراسي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English