كيف تعمل "الشعبوية" في اليمن؟

تشريح متعدد الاتجاهات لظاهرة مصطفى المومري
لطف الصراري
November 10, 2020

كيف تعمل "الشعبوية" في اليمن؟

تشريح متعدد الاتجاهات لظاهرة مصطفى المومري
لطف الصراري
November 10, 2020

 قبل سنتين تقريباً سمعت أحد أولادي يتحدث عن يوتيوبر يمني يقدم محتوى "مسلِّيًّا" حسب وصفه. شاهدت جزءًا من مقطع معه، ووجدت أن من الحماقة أن تمنع فتىً مراهقًا عن متابعة محتوى سبق أن بدأ بمشاهدته، وبدلًا من المنع، رحت أناقشه في المحتوى وأسأله عن رأيه في الشتائم وفرط الحركة ورفع الصوت واستخدام مفردات غير لائقة أحيانًا، وهكذا واجهت التأثير السلبي لمصطفى المومري على شخصٍ تخصني وحدي مهمة حمايته وتربيته. في الواقع، استمرت نقاشاتنا كلما شاهد الأولاد فيديوهًا جديدًا لليوتيوبر الذي يتكئ في غرفة متواضعة على فرش بسيط، ويتحدث بعاطفته أكثر من عقله. ويوم السبت الماضي - 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، مررنا في شارع فرعي علقت وسطه لافتة تهنئة وإعلان عن عرس شاب من سكان الحي مع شعار "يوتيوب". عندما توقفنا في رأس الشارع، كان مجموعة من عمال ورشة كهربائيات يشاهدون مقطعَ فيديو بهاتف أحدهم، ويطلقون تعليقات متفاوتة بين الإعجاب والاستهجان. كان ذلك مقطع الفيديو الذي وثق لاحتشاد مدعوي مصطفى المومري لحضور عرسه في ميدان السبعين وسط العاصمة صنعاء. 

     شكّل احتشاد المدعوِّينَ في عرس اليوتيوبر اليمني حدثًا تناقله الناس على نطاق واسع في صنعاء وفي مدن أخرى، خاصة بعد منع سلطات صنعاء إتمام الاحتفال في الميدان العام. لم يكن حشدًا متواضعًا بالنسبة لحفلة عرس، وبالتالي، فقد شكل الأمر "ظاهرة جديرة بالدراسة"، بحسب تعبير الكاتب حسين الوادعي. اعتبر حسين ظاهرة المومري، ومن سبقه من مشاهير زمن الحرب وما قبله بقليل، ظاهرةً مرادفة للتفاهة و"الشعبوية الرخيصة". لديه ما يسند به موقفه ورأيه؛ فكرة احتكار تقديم "اليمني الحقيقي" في هيئة شخص منفعل وغير مهتم بالمظهر الشخصي، ويطلق الشتائم في منصة عامة ويحشو وجنته بأغصان القات، هي فكرة سامجة وطالما قدمت اليمني كشخص فارغ ومنفلت، وأثرت سلبًا على تعامل كثير من شعوب البلدان الأخرى مع اليمنيين بتعالٍ مرير الوقع. لكني أعتقد بأن دراسة ظاهرة كهذه تتطلب المرور على تأثيرها السلبي، وربما الكارثي، على الداخل قبل الخارج. هي نوع من الشعبوية نعم، لكن وصفها بـ"الرخيصة" ليس مطابقًا لملامحها الأصلية. فما توحي به هيئة فنان يغني بفم منتفخ بنجيع القات أو يوتيوبر منفعل ومتداعٍ أمام آلاف المشاهدين، ليس الرخص وإنما الإحباط والاستسلام لعادة مدمرة صحيًّا واقتصاديًّا، ومثيرة للاشمئزاز. لدينا هنا مشكلة اجتماعية متأصلة، تتمثل في هشاشة الوجدان الفردي الذي لا يقاوم الانسياق للرغبات ويعوض انخفاض تقديره لذاته بالاعتداد بالإرث الحضاري والشهامة والقيم الاجتماعية المتوارثة. حاصل جمع أجزاء هذه المشكلة أنتجت وجدانًا جمعيًّا خاويًا. ومع فشل النخب السياسية والعسكرية والدينية والثقافية والإعلامية، في رسم مثلٍ أعلى للتعايش والاختلاف وتوفير بيئة عيش لائقة، تعاظم الخواء الوجداني الجمعي، وصولًا إلى استفراغ الدماغ من العقل والقلب من الحكمة. وهكذا لم تعد المشكلة وجدانية فقط، بل أصبحت فكرية، وهي الآن تعبث بسلم القيم الذاتية والجمعية، وتحلّ اللامبالاة محلّ الشعور بالمسؤولية، والانفلات محل الانضباط، والانفعال محلّ التعقل... إلى آخر درجات السلم المخلخل.

  طيلة مئات السنين، تعرض المجتمع اليمني لخضات كثيرة، أسوأها الحروب والانقسامات والتدخلات الخارجية، وهي حصيلة من البلوى التاريخية تكرر نفسها في زمننا، ليس على صورة "مهزلة"، بل على صورة "مأساة" تستغلها أنظمة حكم عالمية لتغذية أسوأ مفهوم للشعبوية.

مع تزايد ضخ الأكاذيب والتضليل لأغراض سياسية وحربية، اتخذت "التفاهة" وضعاً حلَقياً مستغلقاً بحيث بات من الصعب اكتشاف مصدرها الأصلي

   أشاهد مصطفى المومري وهو يتحدث في مقاطعه المصورة، فأرى جيلًا شبّ وفي وجهه حرب وتضليل واسع الطيف. انكفأ على نفسه واعتزل العالم بوجدان هش، ثم قرر أن يستدعي كل مخزونه المعرفي، دون اكتراث لما هو عليه من جودة ورداءة، من تقاليد شعبية وأعراف وموروث ديني وحصيلة تعليمية متواضعة، وطريقة حياة لا مبالية بالأناقة، استدعى كل ذلك لكي يلتمس خلاصه في استغلال الوسائط الاجتماعية ويخبر العالم بما يشعر وما يفكر. أليس هذا ما يطلبه فيسبوك وتويتر وواتس أب وغيرها، من مشتركيها؟ لقد منحت "السوشال ميديا" مخالبَ وأنيابًا للتفاهة، بتعبير حسين، وهي نفس المنحة التي أغدقتها منظومات الحكم الغربية على المتعصبين والمتطرفين ليتولوا قيادة المجتمعات الخاضعة لاستبداد وتضليل مزمنين. مع ذلك، حسنة هذه الوسائط في أنها جعلت "نظام التفاهة" مكشوفًا أو قابلًا للكشف بدون طول انتظار، وقد شاهدنا الديمقراطية الأمريكية على المحك بسبب صعود "التفاهة" إلى سدة الحكم وتمسك ترامب بالسلطة بدون اكتراث لانقسام المجتمع. وفي الغرب أيضًا، عملت المنظومة الثقافية والأكاديمية على تصوير المجتمعات المصابة بمتلازمة الاستبداد والاستعمار، باعتبارها تجمعات لكائنات بشرية دونية بالفطرة. شعوب جاهلة وقادتها زعماء قبائل منقسمون ومهووسون بالحروب فيما بينهم، ويقدمون رؤوس بعضهم قربانًا للحظوة بالسلطة، وخدمة مصالح طبقة عليا من الاستبداد العابر للقارات. ومع تزايد ضخ الأكاذيب والتضليل لأغراض سياسية وحربية، اتخذت "التفاهة" وضعًا حلَقيًّا مستغلقًا، بحيث بات من الصعب اكتشاف مصدرها الأصلي. لذلك، فإن تفكيك ظاهرة يختلط فيها الشعبي بالشعبوي، مثل مصطفى المومري أو غيره، يتطلب أولًا فصل المفهومين في المحتوى الذي يقدمه.

    في متابعة لعدد من مقاطعه المنشورة على قناته، تتفاوت القضايا التي يتناولها المومري؛ من حيث القضية مثلًا، يتناول انفلات العملية التعليمية في العاصمة صنعاء والمناطق التابعة للسلطة الحاكمة فيها، وكيف يتم استغلال تغيب المدرسين في المدارس الحكومية بسبب انقطاع مرتباتهم، في توجه طبقة من المجتمع أثرت خلال سنوات الحرب، للاستثمار في إنشاء مدارس أهلية داخل شقق مخصصة للسكن، ومنها مبانٍ شعبية قديمة. لا يغفل المومري عن توجيه نقده إلى وزارة التربية والتعليم التي تمنح تراخيص افتتاح مدارس أهلية بغض النظر عن الشروط القانونية لمثل هكذا استثمار. إلى هنا يبدو الأمر معقولًا، وليس مهمًّا أن يصاغ النقد باللغة الفصحى أو باللهجة الشعبية التي لا جدال في قدرتها على الوصول إلى الناس/ الجمهور بسلاسة. غير أن الشعبوية تظهر في المقطع نفسه، حين يلعن التعليم ويروج للاستغناء عنه فقط، بسبب انتهازية المستثمرين وتجاوز وزارة التربية في منح التراخيص بالمخالفة للشروط القانونية ورفع رسوم الدراسة الأهلية، ومن ناحية أخرى، يشتم المدرسين في المدارس الحكومية؛ لأنهم يلزمون من تبقى فيها من الطلبة، بارتداء الزي المدرسي والظهور بهندام مرتب ونظيف. لا يتطرق أبدًا لكون المدرس بدون راتب منذ سنوات.

    سأكتفي بعرض هذا المثال مع الإشارة إلى قضايا وموضوعات أخرى يتناولها اليوتيوبر اليمني المثير للجدل، مثل: التشدد الديني، تدهور مستوى الخدمات العامة في اليمن، تفشي العنف والجريمة، والتمييز الطبقي بين فئات المجتمع...، كما يبدو أنه متابع جيد لأبرز القضايا والأحداث الراهنة على المستوى المحلي والدولي، ويتناولها بنفس الطريقة التي استساغه بها جمهور قناته.

يشير احتشاد مدعوِّين لحفل زواج في ساحة مخصصة للاحتفالات الرسمية، إلى عدة أمور جميعها تتعلق بالخواء الوجداني والفكري الذي ينهش روح اليمن بدرجة رئيسية، كما يتعلق بالبحث عن أبسط مناسبة للفرح، من أجل إنعاش عاطفة تذبل داخل أرواح شابة

   أين تكمن إذن خطورة مثل هذه الظاهرة في تناول القضايا على المجتمع ووعيه العام؟

   يقدم المومري تناولاته للقضايا والأحداث، بطريقة تبسيطية مخلّة وبلا مبالاة تجاه التأثير السلبي الذي يحدثه هذا التبسيط المخل في القضايا نفسها، كما لا يبدو أنه يهتم لتأثيره في وعي الناس ووجدانهم أبعد من الإعجاب والتعليق والاشتراك بالقناة. وفق منطق المسؤولية الأخلاقية، هو مسؤول عما يحدثه تأثيره سلبًا في الناس. لكن هل يدرك ذلك؟ وإن أدرك، فمن أين يأتي لمعجبيه بأسلوب آخر غير الحركة المفرطة ليديه ورجليه والغمز بعينه اليسرى مع كل كلمة أو عبارة، وإطلاق الشتائم بدون مراعاة إلى كون مشاهديه من فئات عمرية مختلفة؟ وإن تخلى عن الشتائم والغمز وفرط الحركة والتبسيط المخل بالقضايا، هل كان ليحظى بكل هذا الجمهور؟ لقد منحه تفاعل الناس، مع انفعاله العاطفي، شعورًا بالسكينة التي انتزعتها الحرب ومآلاتها منه، لكنه لم يستطع إخفاء فزعه من اكتظاظ القاعة التي استأجرها للاحتفال بعرسه، ومن كثافة عدد الضيوف بعد انتقالهم إلى ميدان السبعين.

   يشير احتشاد مدعوِّين لحفل زواج في ساحة مخصصة للاحتفالات الرسمية، إلى عدة أمور جميعها تتعلق بالخواء الوجداني والفكري الذي ينهش روح اليمن بدرجة رئيسية، كما يتعلق بالبحث عن أبسط مناسبة للفرح، من أجل إنعاش عاطفة تذبل داخل أرواح شابة. مدينة بلا مسارح ولا نوادٍ ولا ملاهٍ، ولا مؤسسات اجتماعية منفتحة على التعبير المتنوع عن الفرح. بلد يعيش حربًا وانقسامًا وما من قادة وطنيين يسدون احتياج الشباب والأطفال إلى أبطال قادرين على إقناعهم. غياب قادة السياسة جعلهم يرون أردوغان وروحاني وكيم أونغ وبايدن أبطالهم المفضلين، غياب قادة الفكر وعلماء الدين الحكماء وأبطال الرياضة ومشاهير الإعلام والسينما، جعلهم يتلمسون أبطالهم المحبوبين خارج نطاقهم الجغرافي والثقافي. وعندما يطل عليهم المومري أو جلال الصلاحي أو مروان كامل أو حتى أحمد عظيمان آل، وبذلك الإصرار على الاستمرار في التواصل معهم ومخاطبتهم وجدانيًّا وفكريًّا، يرون فيهم أبطالًا مفضلين. بينما تسترخي النخب السياسية وأقطاب الصراع، مع انسياق الجماهير لملء وجدانهم وأدمغتهم بمثل هذه الظواهر الانفعالية والساخطة والمثقلة، في الوقت نفسه، بأحمال اللاجدوى والجهل والتضليل التي تمارسها النخب الشعبوية في كل مكان، لأغراض تسلطية.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English