العدالة المُسيّسة في مونولوج "القاضي الغريم"

حين يصبح الانتهاك فعلًا قانونيًّا
أحمد عوضه
November 9, 2021

العدالة المُسيّسة في مونولوج "القاضي الغريم"

حين يصبح الانتهاك فعلًا قانونيًّا
أحمد عوضه
November 9, 2021

ليس بِدَعًا الحديثُ عن تأثير السلطة السياسية في اليمن -خلال عقود- على المؤسسة القضائية، إلا أن ذلك التأثير ظلَّ أخف ظهورًا، بالمقارنة مع مخرجات المرحلة الراهنة من الصراع الدامي الممتد منذ ست سنوات في اليمن، وما رافقه من انقسام للقوى والنفوذ بين الأطراف المتصارعة، ممتدًا إلى الوزارات والبرلمان والمؤسسات الوطنية التي أصبح وجودها مزدوجًا ومتضادًّا؛ أحدها تحت سيادة الحكومة المعترف بها دوليًّا، والأخرى تحت سيادة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، بما في ذلك المؤسسة القضائية، التي تعد ثالث سلطة سيادية في نظام الدولة الحديثة. 

أدى هذا الازدواج المتأثر بالمناخ السياسي، إلى المساس بالجوهر الغائي من الاحتكام إلى العدالة التي تمثلها السلطة القضائية، باعتبارها الضامن القانوني للحقوق العامة والخاصة، والمخوَّل الوحيد بِإعْمالِ مبدأ العقاب، وفق القانون الذي يمنحها تلك السلطة، المكتسبة من احتكار الحق في تطبيقه دفعًا للغبن وإحلالًا للقسط؛ ما لم، فإنها تتحول إلى شكلٍ متحور من أدوات القمع التي تجعل من جريمة التنكيل فعلًا قانونيًّا، وذلك عينه المزلق الذي هَوَت إليه مؤسسة العدل في اليمن؛ بشقيها التابع لسلطة أنصار الله (الحوثيين) أو للحكومة المعترف بها دوليًّا، وفقًا لما برهنتْ عليه دراسة صدرت راهنًا، عن منظمة "مواطنة لحقوق الإنسان"، إذ وثَّقت لمحاكمات مجافية للقوانين الوطنية، و"تفتقر إلى الحد الأدنى من مبادئ المحاكمة العادلة بحق متهمين مثلوا أمام المحاكم الجزائية المتخصصة". 

يأتي ذلك، بالتزامن مع موجة ردود الفعل التي ضجَّ بها الرأي العام المحلي والهيئات والمنظمات الحقوقية، وفي طليعتها منظمة "مواطنة لحقوق الإنسان"، عقب الإعدامات الأخيرة التي نفذتها جماعة أنصار الله (الحوثيون) بحق تسعة أشخاص -بينهم قاصر- صباح السبت 18 سبتمبر/ أيلول 2021، بناءً على حكم صدر عن المحكمة الجزائية المتخصصة الخاضعة لسيطرة الجماعة، في أغسطس/ آب من العام الماضي 2020، بتهمة التورط في اغتيال صالح الصماد القيادي والرئيس السابق لما يعرف بـ"المجلس السياسي الأعلى التابع للجماعة، الذي قُتل مع بعض مرافقيه، إثر غارةٍ نفذها الطيران الحربي التابع للتحالف الذي تقوده السعودية، في أبريل/ نيسان 2018 بمحافظة الحديدة (غرب اليمن). 

تؤكد الدراسة التي أعدتها "مواطنة" في أكثر من موضع، على حقيقة أن الأطراف المتحاربة استخدمت القضاء المتمثل بالمحاكم الجزائية كـ"أداة للتنكيل بالخصوم ومعاقبة المناوئين السياسيين.

العدالة بوجهٍ متجهم

ردود الفعل العريضة التي أعقبت تنفيذ حكم الإعدام بحق المتهمين في قضية التخابر في مقتل القيادي في جماعة أنصار الله (الحوثيين) ورئيس مجلسهم السياسي السابق صالح الصماد، كان أشبه باستفتاء جماهيري أظهر حالة الغليان والسخط، إزاء تسمم الجهاز القضائي بالاعتبارات السياسية، نظرًا لكون إجراءات التقاضي التي اتَّبَعتها الجزائية المتخصصة مع المتهمين في هذه القضية -التي انتهت بتنفيذ حكم الإعدام رميًا بالرصاص- خَلتْ من الحد الأدنى من المعايير القانونية، ومثَّلت انتهاكًا صارخًا لحق المتهمين في محاكمةٍ عادلة، بما في ذلك إهدار حق الدفاع، والتعرُّض إلى انتهاكات وتعذيب بهدف انتزاع اعترافات قسرية، حسب ما أوردته الدراسة وأكده دفاع المتهمين. 

المقلق أن هذا النوع من المحاكمات الصورية غير المستوفية للشروط القانونية من جانب المحكمة الجزائية، ليس إلا اتصالًا روتينيًّا لسلسة من الأحكام المشابهة، تمت في ظروف مشابهة لقضية المتهمين في قضية اغتيال الصماد، كما تَبَيَّن من خلال الدراسة التي اعتمدت في استنتاجاتها على فحص عينة من ملفات القضايا المنظورة أمام المحاكم الجزائية المتخصصة خلال المدة الزمنية من عام 2014 حتى 2020 في المحكمة الجزائية المتخصصة تحت سلطة جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) بأمانة العاصمة صنعاء، وأخرى أمام المحكمة الجزائية المتخصصة تحت سلطة الحكومة المعترف بها دوليًّا في حضرموت. 

وعَرَّجت الدراسة على ذكر أحكام سابقة صدرت عن الجزائية المتخصصة بصنعاء، لم تخلُ من مآخذ قانونية غير مبررة، كان آخرها الحكم بالإعدام بحق 11 شخصًا -بينهم امرأتان- في القضية التي دَرَجَ الإعلام التابع لجماعة أنصار الله (الحوثيين) على تسميتها بـ"خلية عمار عفاش"، كما لفتت إلى قضية الصحفيين الأربعة الصادر بحقهم حكمٌ بالإعدام من المحكمة نفسها، عام 2019، حيث قضت بإعدام أربعة من أصل تسعة صحفيين كانوا محتجزين لدى الجماعة منذ 2015، ومع أن الحكم تضمن إطلاق سراح الستة الباقين، أبقت الجماعة عليهم في المعتقل، زهاء عامٍ ونصف من تاريخ صدور الحكم بالإفراج عنهم، إلى أن أطلق سراحهم في صفقة تبادل رعتها الأمم المتحدة حينها. 

الصحفي هشام طرموم، كان أحد الستة المفرج عنهم، يوضح في حديثٍ لـ"خيوط"، أن "المحاكمات التي تجريها الجزائية المتخصصة الخاضعة لسيطرة سلطة صنعاء، بحق المختطفين، تعد غير قانونية؛ ذلك أنها تخلو من أي شكل يمكن حمله على منطق الصلة بالقانون، إنما تقوم بتلك الإجراءات الصورية كجزء من التعذيب النفسي والجسدي للمختطف، الذي يخضَع له وصولًا إلى المحكمة، ثم يتكرر في فترة المحاكمة، وبعد إصدار الأحكام أيضًا". 

بحسب طرموم، فإن الأحكام السياسية الصادرة من جانب الجزائية المتخصصة بصنعاء -كالتي صدرت بحقهم- لم تخلُ أيضًا من أبعاد مضمرة، ومنها الضغط السياسي على الخصوم في الجهة المقابلة، مبينًا أن "ذلك المغزى ورد على لسان مدير سجن الأمن السياسي التابع للحوثيين، الذي قال لنا -معلقًا- عند صدور الحكم في إعدام أربعة منا، والإفراج عن الستة الباقين: "لا هؤلاء سيعدمون، ولا أولئك سيفرج عنهم"؛ أي إن الهدف من ذلك كان سياسيًّا صرفًا، هدفه الضغط على الفصيل الآخر، ولا علاقة له بالقضايا المنسوبة إلينا، وذلك ما تبين لاحقًا بعد رفض الإفراج عنّا إلا بعد إبرام صفقة تبادلٍ للأسرى"، يوضح طرموم.

تسيِيس بعباءة جنائية 

تؤكد الدراسة التي أعدتها "مواطنة" في أكثر من موضع، على حقيقة أن الأطراف المتحاربة استخدمت القضاء المتمثل بالمحاكم الجزائية كـ"أداة للتنكيل بالخصوم ومعاقبة المناوئين السياسيين"، ذلك أن الأحكام ذات البعد السياسي الصادرة عنها، اعتمدت في تخريجاتها على "محاضر جمع الاستدلالات، وأن جميع الأحكام قد صدرت اعتمادًا على تلك المحاضر التي تنحصر غالبًا في اعترافات المُتهمين أمام الجهات الأمنية وأمام النيابة الجزائية الخاضعة لسلطات أطراف النزاع، دون استقصاء جادّ في مدى حقيقتها أو في حقيقة ثبوت الوقائع التي أنكرها المتهمون أمام مجلس القضاء في المحكمة، حيث أفاد بعضهم بأن تلك الاعترافات انتزعت بالإكراه وتحت التعذيب الجسدي والنفسي خلال فترة الاحتجاز الطويلة، وهو ما يشكك في قيمتها القانونية كأدلة للإثبات، وفقًا للقانون".

في السياق، يعتقد طرموم أن الإعدامات التي نُفذت مؤخرًا في صنعاء، بحق تسعة أشخاص من محافظة الحديدة، قد لا تختلف في طبيعتها وظروفها عن الظروف التي تعرض لها وزملاءه قبيل الحكم عليهم قبل ثلاث سنوات، لافتًا إلى أن ما حدث للمتهمين التسعة، سبَّبَ هلعًا لعائلات المختطفين الأربعة، الذين ما يزالون يترقَّبون مصيرًا ربما يكون مشابهًا.

ويشير طرموم إلى أن "ما يثير المخاوف أكثر، هو أن تكون مثل تلك الأحكام بداية لمسلسل من الجريمة المقوننة، المدفوعة برغائب سياسية تختفي تحت عباءة جنائية، إلا أننا ما نزال نأمل أن تستجيب الأمم المتحدة والمنظمات الفاعلة في مجال حقوق الإنسان، للقيام بدور أكثر حزمًا في الضغط على سلطة الأمر الواقع لإطلاق سراح الصحفيين الأبرياء المحكوم عليهم بالإعدام". 

انتهاكات لا يُقرُّها القانون

في المجمل، نجحت الدراسة -من خلال التدقيق المعمّق للقضايا التي اتكأ عليها فريق الباحثين لدى "مواطنة"- في تقديم توثيق قانوني على درجة من الأهمية، كشف عن مدى التحايل القانوني الذي يُمارس من قبل المحاكم والنيابات الجزائية المتخصصة، الخاضعة لأطراف الصراع، إمعانًا في انتهاك الحقوق المكفولة قانونًا للضحايا في الدفاع المشروع خلال المحاكمات التي يغلب عليها الطابع الصوري غير العادل، إلى جانب ما يرافقها أو يعقبها من فضائع، مثل انتزاع اعترافات من الضحايا تحت التعذيب، وممارسة الضغوط والإيذاء النفسي والجسدي بحق المتهمين لحملهم على قبول الإقرار بما يُملى عليهم، في مقابل الإغضاء عن قبول دفوع المتهمين في الأحكام التي يشعرون حيالها بالغبن، ناهيك عن الاحتجاز التعسفي، والترهيب، والحرمان من الرعاية الصحية والزيارة وغيرها. 

والأخطر من كل ذلك أن تتحول المؤسسة القضائية إلى أداة مسيّسة بيد أطراف الصراع، على النحو الذي يزهق روح العدالة ويفقد الضحية ثقته بسطوة القانون في انتزاع حقه من الجلّاد، طالما صار بإمكان الأخير أن يتحول إلى قاضٍ غريم، بيده نقض الأمر وبرمه، وليس للضحية/ المتهم سوى الاقتناع بإدانةٍ لم يقارفها، والتسليم بعدالةٍ قد تقوده إلى مقصلة الجلاد في كرنفال الدم.


•••
أحمد عوضه

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English