"رؤوفة" الرائدة

لخَّصت كل جهود الخروج من عصر الانحطاط
د. علي محمد زيد
April 27, 2023

"رؤوفة" الرائدة

لخَّصت كل جهود الخروج من عصر الانحطاط
د. علي محمد زيد
April 27, 2023
خيوط

حين نبحث عن نموذج لإنسان تتجسّد فيه كل قيم وملامح انتقال اليمن بقيام الجمهورية سنة 1962 من عصور الظلام إلى العصر الحديث، من عصرٍ لا تعليم فيه ولا فرص عمل ولا رعاية طبية واجتماعية وتسود فيه استدامة الفقر والتخلف، إلى عصر جمهوري انطلقت فيه بلا حدود أسئلةُ النهضة والتغيير والتنمية ومكافحة الفقر ونبذ التخلف، لن نجد أفضل من رؤوفة حسن. لأنّها تلخص كل جهود الخروج من عصور الانحطاط إلى العصر الجديد بأسئلته وتحدياته وقلقه ومصاعبه ووعوده بالتجديد والتطوير. كان من حُسن حظّها ومن حُسن حظ اليمن أنّها فتحت عين طفولتها على الأفق الجديد، الذي فتحته الجمهورية لمن يمسك بمصيره ويقبل التحدي ويكافح بإصرار ويقتحم الأبواب الاجتماعية المغلقة أمام المرأة اليمنية، عن طريق العلم والمثابرة على اكتساب المعارف والخبرات.

ومع أنّها كانت رائدة في مجالات مختلفة وشكّلت قدوة لأبناء جيلها وللأجيال من بعدها، ليس فقط لبنات جنسها، بل لجميع اليمنيّين، في التفتُّح والاستنارة والتفكير العقلاني والطموح لتجاوز الركود الموروث ولامتلاك روح المبادرة والعمل النشيط بلا كلل والطموح لتجاوز استدامة الحرب والفقر والتخلف، ستقتصر هذه السطور على تناول جهودها في مجال التعليم واكتساب المعارف الحديثة والخبرات العملية؛ لأنّ حياتها كرائدة مهمة في حياة اليمن الجمهوري، ما تزال في حاجة إلى تناول موسَّع وشامل، لجلاء تجربتها ووضع هذه التجربة الغنية بتفاصيلها في متناول الأجيال الراهنة والمستقبلية من اليمنيّين وهم يجدون أنفسهم في مواجهة انسداد الفرص ويعانون من ثقل مأساة الحرب وما خلّفته من دمار في مختلف مجالات حياتهم. 

التعليم الحديث والثقافة المنفتحة على التطور والتجديد 

فقد فتحت عينيها على الحياة في مجتمع تقليدي اعتاد على حرمان المرأة، ابتداءً من فرص التعليم، والعمل والمشاركة في الحياة العامة، وبدأت منذ الطفولة مقاومة الضغوط الاجتماعية حتى على الأطفال الإناث، بالإقبال على التعليم الحديث الذي أدخلته الجمهورية، ووصل شغفها بهذا التعليم الحديث حدَّ التغلب على انعدام المدرسة الثانوية للبنات حينذاك في صنعاء، ومعها زميلات أخريات يشاركنها الشغف بالتعليم، عن طريق الإقدام على حضور الدروس في مدرسة للفتيان. وحين انتزعت، بجدّها وإصرارها، حقَّها في الحصول على شهادة الثانوية العامة اختارت عن وعي، الخروجَ من اليمن للدراسات العليا في جامعات عربية وعالمية مرموقة تجعلها مميزة بين أقرانها من الشباب والشابات، فدرست في جامعة القاهرة وجامعات أمريكا وفرنسا، وبذلت الكثير من الجهد لتعود بأعلى الشهادات وبأحدث الخبرات في مجال تخصصها، وبلغات أجنبية ساعدتها في توسيع ثقافتها وزيادة تأهيلها والاطلاع على أحداث عالمها. 

ومنذ دراستها، اكتشف كلُّ من عرفها أنّها كانت متميزة، وبخاصة في تفكيرها العقلاني المستنير، وفي تفاعلها مع معضلات واقعها بتفهُّم وتواضع وعدم القفز في الفراغ. فمثلًا، تمرّدت بعقل ومسؤولية على "الشرشف" الذي يُغطي المرأة ويحجب عنها الرؤية ويعتبرها "عورة" ينبغي إخفاؤها وراء الأستار، لكنّها لم يستهوِها التقليد واتباع الأخريات في الداخل والخارج، بل قامت بابتكار غطاء رأس خاص بها، يليق رمزيًّا بوعيها وبتميزها ولا يقلد أيّ حجاب آخر، ودون أن تصطدم بإنسان المجتمع التقليدي العادي الذي لا يعي ما يقف وراء تغطية المرأة وحرمانها من التعليم والمشاركة وإخفائها وراء الحُجُب، من أهداف ظلامية وسياسات تنتمي إلى العصور القديمة. 

تميَّزت بكونها رائدة ذات رسالة، لم تسعَ للحصول فقط على فرص تستفيد منها ذاتيًّا، بل مضَتْ في التضامن مع بنات جنسها، والمشاركة مع الجميع، رجالًا ونساءً، بقدر ما تستطيع وما تسمح لها ظروفها، في تنمية البلاد وتحديثها وخروجها من استدامة الحرب والفقر والتخلف. وعبّرت عن رسالة التطوير والدعوة للنهضة والتقدّم في كلِّ ما كتبت في الصحافة المسموعة والمقروءة والمرئية. وتوّجت هذا الجهد في مساهمتها المميزة لتأسيس كلية الإعلام في جامعة صنعاء، بهدف أن تفتح أمام الأجيال الجديدة فرصَ التعليم الإعلامي والتأهيل والتدريب على المعارف الإعلامية، وعلى تقنية الإعلام الحديث المتجدّد باستمرار. 

فقد كانت المؤسس الحقيقي أولًا لقسم الإعلام ومِن ثَمّ للكلية. وحين وجدت الباب موصدًا أمام افتتاح قسم الإعلام، عملت بجهد شخصيّ، وبما عُرِف عنها من إصرار وروح مبادرة وفعالية في الحركة، لإنشاء قسم الإعلام في جامعة صنعاء. واستغلّت إجراءَها مقابلة تلفزيونية مع رئيس الوزراء، بعد تحقيق الوحدة اليمنية مباشرة، للعمل لإخراج مشروع إنشاء القسم من الأدراج ونفض الغبار عنه.

كانت الجامعة قد تقدّمت بالمشروع، لكنه لم يلقَ الاستجابة بسبب الميزانية المقترحة. فطرقت الموضوع من جديد بطريقتها الماهرة في الحديث والتفاوض، لكن رئيس الوزراء تخلّص من إلحاحها بإحالة المشروع إلى وزير المالية. وحين ذهبت إلى وزير المالية، اعترض على الميزانية التي تطلبها الجامعة. فسألته، بأسلوبها العملي وبما تتمتّع به من ذكاء حادّ وظُرْف صنعانيّ: "ما هي الميزانية التي يمكنكم الموافقة عليها؟"، وكان الردّ اقتراح الوزير تخفيض الميزانية التي تقدّمت بها الجامعة تخفيضًا لم تكن الجامعة مستعدةً لقَبوله. لكن رؤوفة قبِلت على الفور الميزانيةَ المتواضعة المقترحة، وأسرعت بالإشراف على استئجار مبنى للقسم، وتسجيل الطلبة الملتحقين به، وتجميع المدرّسين المتوفرين، وبدأت الدراسة في العام الدراسي 1991/1992.

كانت تدرك تمامًا منذ قَبولها بمقترح وزارة المالية لميزانيةٍ لا تكفي، أنّ الجميع سيجدون أنفسهم خلال وقت قصير غير قادرين على إغلاق القسم وطرد الطلبة والتخلي عن المدرسين، ووضعت في تصورها توسيع القسم إلى كلية للإعلام في أقرب وقت، وهو ما تم فعلًا، كما توقعت، بعد افتتاح القسم بخمس سنوات. 

وقد جمع الدكتور عبدالعزيز المقالح، الذي كان حينها المسؤول الأول في الجامعة، مدرِّسِي القسم لاختيار رئيسه، وقال لهم إنّها تستحق رئاسة القسم بكفاءتها الأكاديمية وبدورها الحاسم في إنشائه. ومع أنّها لم تكن تميل لتولي رئاسة القسم، لأنّه عمل إداري يشغلها عن أداء مهمات أخرى ويمكن أن يقوم به آخرون، اعتبرت انتخابها لرئاسة القسم تكليفًا بمواصلة الإشراف على توطيد وجوده؛ لأنّ وضعه كان ما يزال حَرِجًا وغير مستقرّ. ولعلّه القسم الوحيد في جامعة صنعاء آنذاك الذي كانت الصلة والتفاعل بين رئيسة القسم وطلابها قائمة على الثقة والإعجاب والمساندة.

وقد نجحت خلال شهور قليلة، في التغلب على نقص الميزانية عن طريق إقناع جميع المعنيّين بالتحرك للوفاء بالالتزامات الضرورية لاستمرار القسم في أداء رسالته. وبعد سنة واحدة، حين تأكّدت من أنّ القسم قد وطّد مكانته الأكاديمية وأصبح يسير على الطريق الصحيح نحو افتتاح كلية الإعلام فيما بعد، انسحبت من رئاسة القسم مفسحة الطريق أمامَ زملائها الآخرين، واكتفت بمواصلة التدريس وبالمشاركة في التفكير والعمل لتطوير العمل الأكاديمي، حتى تجد الوقت الكافي للاهتمام بتحقيق طموحات أخرى.

من مبادراتها المميَّزة؛ أنّها كانت أول من أدخل إلى الدراسات الجامعية في اليمن، مجالات لا يوجد -محليًّا- اهتمامٌ كبير بها، بتمويل من خارج الجامعة، فأسست "مركز الدراسات النسوية".

ولاقت جهودها في مجال الكتابة الصحفية المهنية، وإدخال التجديد إلى دراسة الإعلام في اليمن، الكثيرَ من التقدير والاحترام في الداخل والخارج. ومن ذلك؛ أنّ منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم والاتصالات (اليونسكو) حين أرادت أن يتبنى مؤتمرها العام في باريس "إعلان صنعاء العالمي حول الصحافة العربية المستقلة والتعدّدية"، عقدت ندوة عالمية في صنعاء بهدف الإعداد لنص هذا الإعلان التاريخيّ. وكانت تبحث عن شخصية إعلامية مستقلة تتفق مع الهدف من الندوة، وتسهم بفعالية في صياغة الإعلان العالمي لتتولى رئاسة الندوة. وتنافَسَ الصحفيّون اليمنيّون على الفوز بهذه الفرصة الكبيرة، فرشح الإعلامُ الحكومي إحدى شخصياته البارزة، وهو ما كان يتناقض مع الهدف من عقد الندوة ومع محتوى الإعلان العالمي الذي كان يجري الإعداد له، وترشّحَ من الصحافة المستقلة مالكُ صحيفةٍ أهلية تصدر باللغة الإنجليزية، لكنه لم يحظَ بتأييد الإعلام الحكومي.

فاقترحت الأممُ المتحدة أن تتولى رؤوفة رئاسةَ الندوة؛ باعتبارها صحفية مستقلة بارزة، وأكاديمية معروفة في مجال الإعلام، وتجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية للتخاطب مع الموظفين الدوليين الحاضرين ومع المراقبين من المؤسسات النقابية للصحفيين المشاركِين من مختلف مناطق العالم. وقد حقّقت الندوة برئاستها نجاحًا كبيرًا، وأصدر المؤتمر العام لليونسكو "إعلان صنعاء العالمي حول الصحافة العربية المستقلة والتعددية" ليكون وثيقة دولية مهمة.   

ومن مبادراتها المميَّزة؛ أنّها كانت أول من أدخل إلى الدراسات الجامعية في اليمن مجالات لا يوجد -محليًّا- اهتمامٌ كبير بها، بتمويل من خارج الجامعة، فأسّست "مركز الدراسات النسوية"، في تنافس على هذا السبق وللحصول على التمويل مع جامعات عربية في بلدان عربية تسبق اليمن في تجديد التعليم الجامعي. ولاقت مبادرتها مناصرةَ عددٍ من أساتذة الجامعة المهمّين، فأصبح المركز مجالَ نشاطٍ مرموق في جامعة صنعاء، وأقبل على الدراسة فيه نخبةٌ من الطالبات النشيطات، وتسجَّلَ للدراسات العليا فيه عددٌ من المثقفين المعروفين، كما شارك في التدريس فيه أساتذة جامعة بارزون، مثل الدكتور المقالح. وبرزت رؤوفة بشخصيتها القوية وبأسلوبها المرن في التعامل مع الآخرين، وبحرية تفكيرها واستنارتها، حتى أصبحت من العلامات المميزة في العمل الأكاديمي محليًّا وخارجيًّا. لكنّها بهذا التجديد لمجالات الدراسة الجامعية في اليمن، وبالتفكير خارج المألوف في العمل الأكاديمي العربي التقليدي، واجهت تحديات لم تكن في الحسبان، وأصبحت هدفًا للقوى التقليدية التي عملت ضدّها حتى أقصتها من المركز، وفرَّغته من معناه، وحرمت الجامعة من بريقه الأكاديمي ومن تمويله.

•••
د. علي محمد زيد

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English