الدولة.. لا مدنية ولا دينية

في علمية التوصيف ومطابقته لأركان الدولة الثلاثة
أحمد صالح الجبلي
December 22, 2020

الدولة.. لا مدنية ولا دينية

في علمية التوصيف ومطابقته لأركان الدولة الثلاثة
أحمد صالح الجبلي
December 22, 2020

عبر أحد الحكماء عن استيائه الشديد حيال ما جرى ويجري –في زمانه– للمفاهيم من تغيير شديد بشتى الصور والألوان. وبغية وضع حد لهذا الاضطراب والارتباك الناجم عن التغيير المستمر في المفاهيم، تمنى أن يحكم العالم ليوم واحد فقط لتحقيق مهمة واحدة وحيدة لا غير؛ هي: أن يعيد للمفاهيم معانيها الأصلية الحقيقية(1). 

   على أنه لا بد من الإقرار، وبكل وضوح، بأنه ليس ثمة مفهوم أو اصطلاح قائم بذاته ولذاته، وإنما يسود المفاهيم المنضوية في علم معين تشابك وتغطيات متبادلة بمقادير ومساحات متباينة. ولعل مفهومي "الدولة" و"الحكم" من أكثر المفاهيم التي تسلط الضوء على التشابك بين المفاهيم إلى حدود بلغت ضياع الحدود بينهما، ما نجم عنه، ضمن أمور أخرى، استخدام هذا دون ذاك، ونسبة ما لهذا لذاك، إلى غير ذلك من استخدام غير دقيق، دون حرج أو ارتباك.      

  أزعم، مع من يزعم، أن تعريف الدولة من وجهة نظر القانون الدولي يتصف بصرامة تعريفية واضحة من جهة، وينعقد الإجماع عليه من جهة ثانية، على الرغم من وجاهة العديد من التعاريف الأخرى لها؛ فكما هو معروف، يتألف التعريف من ثلاثة مكونات:  

أولًا: جماعة من الناس، أي الشعب. 

ثانيًا: إقليم تقيم عليه هذه الجماعة بصفة دائمة.

ثالثًا: السيادة، متمثلة في هيئة حاكمة ذات سلطة عليا، تتولى شؤون الجماعة وتسيطر عليها عبر إصدار القوانين والتشريعات وتنفيذها(2).

    إذا ما أريدَ، إذن، وصف الدولة بأي وصف، فينبغي لهذا الوصف أن يغطي المكونات الثلاثة للدولة، لا أن يقتصر على التعبير عن واحد أو اثنين من مكوناتها، وإلا فهو وصف قاصر، محدود؛ وبالتالي هو مضلل، حتى وإن جاء ذلك بـ"حسن نية"، ولو أن السياسة –مع الأسف– تساوي بين حسن النوايا وسيئها. وعلى ضوء هذه الموضوعة، بالإمكان وصف الدولة الفلانية أنها "دولة المدينة" أو "دولة قومية"، أو غير هذه الأوصاف التي تلحظ الأركان الثلاثة للدولة، كما هو عليه حال صنفي الدول المذكورة أعلاه. فالمصطلح "دولة المدينة" يتضمن الأبعاد الثلاثة للدولة، وهي: البُعد الإقليمي الذي يقيم عليه الشعب، أي إن حدود الدولة هي حدود المدينة التي تسري على شعبها سيادة قوانينها. ولا يهم هذا الاصطلاح أية معلومة عن شعب المدينة، ما إذا كان عربيًّا، فرنسيًّا، إغريقيًّا...، كما لا يهمه دينه، ما إذا كان وثنيًّا، توحيديًّا...، ولا حتى نظام الدولة، ما إذا كان وراثيًّا، جمهوريًّا...، وكل ما يقدمه لنا التعريف أن ثمة شعبًا في حدود مدينة معنية تسري عليه سيادة القوانين. كذلك الأمر بشأن "الدولة القومية" التي تشير إلى أن سيادة القوانين تنتشر على كل المنطقة التي تضم الجماعة التي اصطلح على تسميتها "الأمة"، وقس على ذلك. 

    بيد أننا، في سياق السجالات والمناظرات، والمطالب السياسية، نقرأ ونسمع على الدوام بـ"الدولة الدينية" و"الدولة المدنية" و"الدولة الديمقراطية"، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تمنح لمفهوم "الدولة"، فتثقل كثرتها على مفهوم "الدولة" وترهقه، لا لشيء إلا لخلوها من الدقة العلمية. وفي هذه السطور سوف يقتصر التطرق لعلاقة وسم الدولة بالسمة "المدنية" و"الدينية"، من زاوية مدى دقة كلٍّ من هذين الوصفين إزاء مكونات تعريف مفهوم "الدولة" أعلاه، الذي نعتقد أنه وصف خاطئ، ولا يصيب الهدف المرجو الذي يرمي إليه، وفق الحيثيات الرئيسية التالية: 

- مكوّن "الأرض". ينبغي للوصف –كما أسلفنا– الإلمام بكل مكونات الدولة، أو على الأقل أن لا يسيء –الإساءة العلمية بالطبع– لأحد مكوناتها. والقول بـ"الدولة الدينية" أو "الدولة المدنية" لا يجوز علميًّا إذا اتبعنا الصرامة والاستقامة –وأكاد أقول الطهارة– العلمية التي ينبغي الانحناء لها لمصلحة النزاهة والفائدة العلميتين في المقام الأول والأخير. ذلك أن وصف الدولة بـ"المدنية" في تعبير "الدولة المدنية"، مثلًا، لا يستجيب وأحد مكونات الدولة، وهو الأرض أو الإقليم الذي يقيم فيه الشعب المعني. إذ كيف يمكن للأرض أن تكون "مدنية"؟ وهل يمكن وصف أرض ما بأنها "مدنية" وأخرى "دينية"؟ نحن -تجاوزًا- نصف بلادًا بقولنا إنها، مثلًا، "أرض الإسلام"؛ لأن أهلها يدينون بدين الإسلام، أما الإقليم فإنه قد يكون اليوم أهله مسلمين وغدًا مسيحيين، كما حصل في الأندلس. المهم في الأمر أن الإقليم بذاته وفي ذاته، بعيد عن أن يتسم بالدين. 

أنْ يكون هذا أو ذاك من الشعوب قد ألف مجتمعًا مدنيًّا(4)، أو أنه يسعى إلى ذلك، فهذا من قبيل تأكيد التأكيد. وعندما نتعامل مع أوضاع بلادنا، يكون رفع شعار "الدولة المدنية" غير متعارض مع هذه الأوضاع

    كذلك الشأن في وصف الأرض بـ"المدنية". فالمقصود بـ"الأرض" في تعريف "الدولة" –وأنا آسف على ذكر هذه البديهيات– هذا النطاق المكاني الذي تسري عليه قوانين الدولة. أما أن نذهب إلى الكيفية التي عمرت وتعمر بها الأرض، وما إذا كانت مدنها وقراها تخترق أرضها شبكات المياه والمجاري، وتمتد أسلاك الكهرباء وأعمدتها على أطوال شوارعها، وتنبسط طرقاتها المعبدة في وما بين مدنها، وما إذا كان يمكن شراء الأرض أم فقط استئجارها، وهلم جرًّا. فهذا –وأجرؤ على الجزم– ما لم يدر في خلد واضعي التعريف. 

   وإذن، بحكم منطق تعريف "الدولة" أعلاه، لا يمكن ولا يجوز أن نحمّل مكوّن الأرض فيه عبء وصفها بـ"المدنية" أو "الدينية"، سواء "إسلامية" أم "بوذية" أم "إلحادية" أم غير ذلك.                        

- مكوّن "الشعب". لنقل –لتسهيل الحسابات– إن كل أفراد الجماعة في الإقليم المعني يؤلفون الشعب(3). هنا، بطبيعة الحال وعلى عكس مكون "الأرض"، يمكن وصف الشعب بأنه يعتنق الدين الفلاني، أو أنه شعب يتسم بالمدنية. غير أن هذه الحقيقة لا ينبغي لها حجب حقائق أخرى، نود هنا عرضها لتسليط الضوء على علاقة "الديني" و"المدني" ومكانة ذلك في التعريف، إن كان لأي منهما مكانة.  لنلتفت، أولًا، لجهة "الديني". أمامنا حالتان متطرفتان عند النظر إلى الشعب دينيًّا: إما أن يكون كل الشعب يعتنق دينًا واحدًا، وإما متعدد الأديان. وبين هاتين الحاتين المتطرفتين نجد أطيافًا عديدة ذات ألوان وألوان. وهنا أيضًا دعونا نسهل على أنفسنا الحسابات، ونغض الطرف عن الشعب متعدد الأديان، ونتجه مباشرة إلى شعب الدين الواحد، بل وأكثر ملموسية، لننظر في بلادنا. كل الشعب مسلم، باستثناء قلة قليلة من اليهود -ولو أنني أعترف بجهلي عن حقيقة عدد اليهود وما إذا كانوا يمثلون عددًا وازنًا في تكوين الشعب. فإذا كان الأمر كذلك، وهو فعلًا كذلك، فما العبرة من القول بـ"الدولة الدينية"، أو على وجه التحديد، "الدولة الإسلامية" في بلد كل أهله يدينون بالإسلام؟ والحقيقة أن رفع شعار أو الدعوة إلى "الدولة الإسلامية" بشتى صوره: "لا حكم إلا لله"، "حكم الشريعة"، إلخ. ليس إلا تعبيرًا فجًّا -كما يثبت التاريخ الإسلامي- لشبق اللهث من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية وحكم البلاد. 

ثانيًا، لنلتفت لجهة "المدني". أنْ يكون هذا أو ذاك من الشعوب قد ألف مجتمعًا مدنيًّا(4)، أو أنه يسعى إلى ذلك، فهذا من قبيل تأكيد التأكيد. وعندما نتعامل مع أوضاع بلادنا، يكون رفع شعار "الدولة المدنية" غير متعارض مع هذه الأوضاع، ولا مع مكون "الشعب" على اعتبار أن هذه الدولة المرتقبة المسماة –تجاوزًا– بـ"المدنية" ذات مهام، من بينها، في المقام الأول، العمل على تسهيل كل ما من شأنه من أجل صياغة، أو الاستمرار في صياغة المجتمع المدني. غير أنه من المهم التمعن بالنظر في حقيقة أن العمل من أجل المجتمع المدني في بلادنا لا يتعارض ولا يتناقض مع حقيقة أن الشعب اليمني شعب مسلم. ولا يظهر التعارض، بل والنزاع والصراع المتعدد الألوان والأردية والروائح، بين "المدني" و"الديني" طالما أن المؤسسات الدينية في البلاد تظل بعيدة مقصية عن العلاقة بين الإنسان وربه. فبالإضافة إلى أنه "لا كهانة في الإسلام"، نجد أن من طبيعة المجتمع المدني عدم تعارضه وتدين الشعب بأي دين كان، كما أنه لا يتعارض مع عدم تدينه بأي دين كان. ولذلك، فإن مكوّن "الشعب" في تعريف مفهوم "الدولة" غير معني بشأن التمييز بين ما إذا كان الشعب يدين بهذا الدين أو ذاك. كما لا يهمه أن يؤلف الشعب مجتمعًا مدنيًّا أم غير مدني، كأن يكون، مثلًا، مجتمعًا إقطاعيًّا أو عبوديًّا.

    أريد القول، وببساطة ووضوح، إن الشعب، وبصرف النظر عن الأيديولوجية التي تتعامل مع مفهوم "الشعب"، مستقل عن البعدين المدني والديني في تعريف الدولة الوارد أعلاه.   

    يظهر الصراع المستعصي على الحل العقلاني، الصراع الذي "يوقف العقل" –كما يقول أهلنا في العراق الحبيب– حالما تتدخل المؤسسات الدينية بين الإنسان وربه، حيث يجري تشويه هذه العلاقة الدينية حتى يصل بنا هذا التشويه المجنون إلى أن الاتفاق أو الاختلاف مع هذه المؤسسة الدينية أو تلك، هو اتفاق أو اختلاف مع الله مباشرة؟! أي إن لسان حالها يصرخ: أنا الله والله أنا!! والعياذ بالله.      

توصيف الدولة، أي دولة كانت، بـ"المدنية" أو بـ"الدينية" لهو أمر خارج عن سياق منطق الصرامة العلمية وفق تعريف الدولة أعلاه

    إذا كان الإسلام يلغي، ولا يعترف، ويحارب أية علاقة وسيطة بين المسلم وربه، من جهة، فإنه، واتساقًا مع هذا المنطق ومع مدلوله المنهجي، أنى له -من جهة ثانية- الرضوخ بقبول أية وساطة بينه وبين مؤسسات الحكم في بلاده. وفي المقلب الآخر، مقلب المجتمع المدني نجد أن هذا المجتمع، بطبيعته يلغي، ولا يعترف، ويحارب، أية علاقة وسيطة بين المواطن ومؤسسات الحكم. هنا نقف أمام لوحة اجتماعية بديعة الجمال من التناظر والانسجام والتناسق والتناغم يكتنزها اصطلاح "الإسلام المدني".    

    وإذن، إنْ كان تديّن الشعب أو لا تديّنه لا يتعارض مع المجتمع المدني، بل وليس له أن يتعارض معه لأنه ليس من شأنه، فلماذا توجيه الأنظار إلى وجهة غير ممكن تبريرها أو تفسيرها علميًّا من وجهة نظر تعريف "الدولة"، وليس من ورائها طائل، بل وتؤدي مهمة تشتيت الأنظار وإلهاء الناس عما يجب أن يلتفتوا إليه من مهام؟ إنها المصالح الدنيوية المجنونة لا غير! 

- مكوّن "الحكم". هذا هو المكون الوحيد في تعريف مفهوم "الدولة" الذي تسري عليه سمة "المدني" أو "الديني" دون الإساءة العلمية إليه، من جهة، أو استخدام ذلك في سياق التضليل السياسي. والمقصود هنا بـ"الحكم" نظام الحكم، والهيئة الحاكمة، والقوانين التي تستند إليها في مهامها. وعلى ظهر هذا المكون تنتشر، وبكل حق، أكثر الصفات والسمات التي تنسب، خطأ، للدولة. فأنظمة الحكم: الوراثية وغير الوراثية والديمقراطية والاستبدادية والفاشية والنازية والفردية والبرلمانية، والدينية والمدنية، والمركزية والاتحادية وهلم جرًّا. تنتمي لسمات "الحكم"، لسمات "نظام الحكم"، ولكننا نرى أنه يجري تنسيبها، إلى "الدولة"، وعلى غير وجه حق إذا التزمنا بالمعايير العلمية الصارمة للتعريف. ويعود السبب في ذلك إلى أن مكون "الحكم" يعد أهم مكون في تعريف "الدولة"، ولهذا تمكن من التهام حصص "أشقائه الصغار". 

    والخلاصة: إن توصيف الدولة، أي دولة كانت، بـ"المدنية" أو بـ"الدينية" لهو أمر خارج عن سياق منطق الصرامة العلمية وفق تعريف الدولة أعلاه. ونحن -تجاوزًا أو مجازًا- نقول بـ"الدولة المدنية" أو "الدولة الدينية"، حيث إن المقصود بذلك على وجه التحديد هو "الحكم"، "نظام الحكم" في الدولة. 

المراجع والهوامش


1. انظر، مثلًا: ماكيفر، روبرت م.: تكوين الدولة، ترجمة: الدكتور حسن صعب، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية 1984، بيروت، ص 41-42، 50.  

2. الموسوعة الفلسفية العربية: رئيس التحرير: د. معن زيادة، معهد الإنماء العربي – بيروت، الطبعة الأولى، 1986، مادة "دولة". وانظر: الكيالي، عبدالوهاب (المؤلف الرئيسي، رئيس التحرير): موسوعة السياسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت (بدون تاريخ)، مادة "دولة". 

3. أذكّر أن مفهوم الشعب، على الصعيد السياسي، ليس له مدلول واحد وحيد في كل المذاهب الفلسفية والأيديولوجية، ناهيك عن تباينه في مختلف العصور. ففي عصر العبودية، مثلًا، لم يكن العبيد يعدون من الشعب. وفي نفس المعنى ثمة فلسفة سياسية تذهب إلى أن الشعب هو تلك الكتلة البشرية التي لا يحق لأفرادها احتلال مراكز قيادية في مؤسسات الحكم. وثمة تعريفات أخرى غير هذه. (انظر مثلًا: الموسوعة الفلسفية العربية، مادة "شعب").

4. الإنسان في "المجتمع المدني" يصبح مواطنًا حرًّا؛ لأنه متحرر من كل القيود الاجتماعية التقليدية التي تسبق انبثاق المجتمع الحديث، أي المجتمع البرجوازي. ومن أهم سمات هذا المواطن أنه لا يحتاج لأي وسيط في علاقته مع مؤسسات الحكم في دولته. فلا هو بحاجة إلى شيخ القبيلة يستند إليه، ولا إلى رجل دين طائفته أو مذهبه الديني، ولا إلى أي وسيط حديث ممثلًا في زعامات حزبه الذي ينتمي إليه، ولا حتى إلى رئيس ناديه الرياضي، ولا إلى أي وسيط كان. هو في علاقة مباشرة مع المؤسسة المعنية في الدولة التي يجري التعامل معها في أي شأن يهمه. غير أنه لا ينبغي ولا يجوز أن يفهم من ذلك أن "المجتمع المدني" يناهض هذه الكيانات الاجتماعية، سواء الحديثة منها أو القديمة، لمجرد وجودها، فذلك ما لا يتوجه إليه المقصود مما أسلفناه، بل المقصود على وجه التحديد أن التوسط بين المواطن من جهة، ومؤسسات الحكم جهة ثانية، أمر لا يتعارض مباشرة مع وجود "المجتمع المدني". فإذا نشطت هذه الكيانات الاجتماعية كوسيطة بين المواطن ومؤسسات الحكم، فيجب عندئذ وضع حد لهذا التوسط بالضبط. أما كيف يمكن أن يتحقق ذلك، فالتجربة السياسية للمجتمع كفيلة بحله.     




إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English