القطاع الخاص بين مطرقة صنعاء وسندان عدن

سياسات وانعكاسات اقتصادية كارثية
د. مطهر العباسي
December 31, 2022

القطاع الخاص بين مطرقة صنعاء وسندان عدن

سياسات وانعكاسات اقتصادية كارثية
د. مطهر العباسي
December 31, 2022
Photo by: Mohammed Alselwy - © Khuyut

يشكّل القطاع الخاص مع القطاع الحكومي والمجتمع المدني مثّلث الاستقرار والازدهار في معظم شعوب العالم، ويلعب دورًا محوريًّا في تنمية المجتمع وتلبية احتياجاته من السلع والخدمات، وفي ظل الأزمات والحروب يتراجع نسبيًّا دور القطاع الحكومي، ويبرز دور القطاع الخاص والمجتمع المدني لسدّ الفراغ في الشأن الاقتصادي والتجاري أو في الشأن الإنساني والإغاثي، وخلال العقود الماضية.

كان للقطاع الخاص في اليمن دورًا فاعلًا في النشاط الاقتصادي والتجاري والخدمي بالشراكة مع القطاع الحكومي، وحقّق تقدُّمًا ملموسًا في مجال الإنتاج الزراعي والصناعي وفي المجالات الخدمية المختلفة.

تداعيات الحرب

وفي ظل سنوات الحرب العبثية، واجه القطاع الخاص، كما واجه الاقتصاد ككل، تحدياتٍ جمّةً وخسائرَ فادحة، شملت الدمار الكلي أو الجزئي للعديد من المنشآت الصناعية والزراعية والخدمية، وتدمير الجسور والطرق الرئيسية بين المدن، وتوقف خدمات شبكة منظومة الكهرباء عن معظم المدن والمناطق، وتوقف حركة الطيران في عددٍ من المطارات، وتدمير البنية التحتية لعدد من المطارات والموانئ البحرية، وفرض القيود والحصار على التجارة الداخلية والخارجية، وتراجع دور البنوك في تسهيل حركة التجارة والاستيراد من الخارج، ووجود بيئة طاردة للمستثمر الوطني أو الأجنبي، وتدهور الحالة الأمنية في عددٍ من المحافظات.

أداء القطاع الخاص

ورغم كل تلك التحديات، استمرّ القطاع الخاص بالحفاظ على سلاسل الإمداد والتموين، وتجاوز كل صعوبات النقل وارتفاع تكاليف التأمين والشحن والتفريغ، واستخدمَ طرقًا داخلية بديلة، رغم مخاطرها وعدم ملاءمتها للقاطرات ولعربات نقل الحاويات، لتوفير السلع الاستهلاكية، الضرورية والكمالية.

ولم تواجه الأسواق أيّ ندرة منها، وتمكّن القطاع الخاص الصناعي من تشغيل خطوط الإنتاج في معظم المصانع، وتزويد الأسواق في المدن الحضرية وفي الأرياف بالسلع والمواد المنتجة، وساهمت البنوك وشركات الصرافة في تقديم التسهيلات الائتمانية لتمويل استيراد البضائع المختلفة من العالم الخارجي، رغم صعوبات التعامل مع البنوك المراسلة بالخارج، كما قام القطاع الخاص بدورٍ فاعل في سدّ العجز من الطاقة الكهربائية في معظم المناطق، عن طريق توفير أدوات الطاقة الشمسية المتجدّدة، أو عبر محطات توليد الطاقة الكهربائية.

لم يقتصر الأمر على الإجراءات المثبطة للقطاع الخاص، بل وصل التمادي إلى حدّ إغلاق بعض المصانع، والتشهير المتعمد لبعض مجموعات الأعمال التجارية والصناعية.

كما ساهم القطاع الخاص في توفير المشتقات النفطية وفقًا للأسعار العالمية، عندما عجزت الحكومة عن تأمين احتياجات السوق منها، وتمكّنت المؤسسات الخاصة الخدمية في مجال الصحة والتعليم من تقديم خدماتها رغم قسوة الظروف وضعف الإمكانات، وفي ظروف الحرب، اتّجه القطاع الخاص نحو الاستثمار العقاري، وازدهر إلى حدٍّ ما قطاعُ البناء والتشييد بحكم انعدام فرص الاستثمار في المجالات الأخرى.

ويمكن القول، إنّ القطاع الخاص الوطني والمحترف أبلى بلاءً حسنًا خلال فترة الحرب، وأثبت بذلك قدرته على الصمود والتكيّف مع كل متغيرات الحرب وويلاتها، والتي أفرزت فئة طفيلية من المتاجرين، يزدهر نشاطهم أثناء ندرة السلع الضرورية أو التربح المفرط من خلال التهريب الجمركي والتهرب الضريبي بدعمٍ من جهات نافذة بالسلطة، ويجنون أرباحهم من معاناة الناس وآلامهم، وهنا لا بدّ من وقفة تقييمية لأداء كلٍّ من سلطتَي صنعاء وعدن في تعاملهما مع القطاع الخاص تحديدًا أو في السياسات الاقتصادية عمومًا، خلال فترة الحرب والدمار.

مطرقة صنعاء 

انتهجت سلطة صنعاء سياسات اقتصادية مقيدة وإجراءات تعسفية على القطاع الخاص، وطاردة للمستثمرين، وخانقة للمواطن المغلوب على أمره، وقائمة على الجبايات والإتاوات والمكوس، من خلال: 

- رفع معدل الجبايات من الضرائب المختلفة والزكاة على القطاع الخاص بمستويات غير مسبوقة، زمانًا ومكانًا، فعلى سبيل المثال يُفرض على بعض البيوت الصناعية والتجارية دفع مبالغ الضرائب أو الزكاة بمقدار عشرين ضعفًا عمّا كانت تدفعه قبل فترة الحرب، وقِس على ذلك كل الشركات والمؤسسات الخاصة العاملة في المجال التجاري أو الصناعي أو الزراعي أو الخدمي أو العقاري، ويطبق الشيء نفسه على تجار الجملة والتجزئة، بل تشمل الجبايات أصحاب البسطات والباعة المتجولين.

- فرض رسوم جمركية إضافية على كل السلع المستوردة، رغم دفعها في المنافذ الجمركية البرية والبحرية والجوية، إضافة إلى الجبايات المستمرّة على طول خطوط النقل ونقاط التفتيش، وكل ذلك يضاف إلى سعر السلعة ويتحمّلها المستهلك النهائي؛ المواطن المطحون.

- فرض ما يسمى بـ"الخُمس" على العديد من الأنشطة الاستخراجية المرتبطة بمواد البناء من المقالع والمحاجر ومصانع المياه وصيد الأسماك، وحتى استخراج النفط والغاز والمعادن وغيرها من الأنشطة، بهدف توزيعه على إحدى شرائح المجتمع، ممّا يثير النعرات ويعمّق الحقد ويُمزّق النسيج المجتمعي.

- جباية رسوم مضاعفة على معظم الأنشطة المرتبطة بعمل القطاع الخاص أو المواطنين، ممّا جعل معظم الوزارات والجهات الخدمية على المستوى المركزي والمحلي تتنافس على الجبايات دون الالتزام بتقديم الخدمات المسهلة للعمل الخاص أو للمواطن.

وكل تلك الجبايات مثّلت حاجزًا منيعًا أمام توسُّع القطاع الخاص في مشاريع استثمارية جديدة، بل دفع بالعديد من البيوت الصناعية والتجارية لتجميد مشاريعهم القائمة، واختاروا الهروب برؤوس أموالهم إلى دول أخرى، كما أنّ تلك الجبايات تضاف إلى أسعار السلع، سواءً كانت غذائية ضرورية أو استهلاكية عامة ويتحمل عبئها عامة الناس، وهذا ما يفسّر التزايد المستمر لمعدلات الأسعار رغم استقرار سعر الصرف لعدد من السنوات.

ولم يقتصر الأمر على الإجراءات المثبطة للقطاع الخاص، بل وصل التمادي إلى حدّ إغلاق بعض المصانع، والتشهير المتعمد لبعض مجموعات الأعمال التجارية والصناعية (مجموعة هائل سعيد مثالًا)، ممّا يفسّر رعونة التصرفات غير المسؤولة، ويقدم رسائل غير مطمئنة لكافة رواد الأعمال والمستثمرين، ويعمّق الصعوبات والمعوقات أمام نشاط القطاع الخاص، ويفرض عليه خيارات مُرّة؛ إمّا التوقف عن العمل أو الهجرة خارج البلاد، وهذا له انعكاسات كارثية على فقدان فرص العمل لعشرات الآلاف من العاملين، وعلى تفشّي ظواهر الفقر والبطالة والحرمان.

سندان عدن

وبالمقابل، فإنّ القطاع الخاص في مناطق سلطة عدن يواجه تحديات ومعوقات في الجانب الاقتصادي وفي الجانب الأمني وفي أداء مؤسسات وأجهزة الدولة، يمكن إبرازها كما يلي:

- اتبعت سلطة عدن سياسات اقتصادية توسعية ومتهورة، تتمثّل في تمويل النفقات الحكومية من مصادر تضخمية، عن طريق الإصدار النقدي وطباعة النقود بإسراف شديد، ممّا أدّى إلى تدهور القوة الشرائية للريال، والارتفاع الحادّ لأسعار الصرف، نتج عنه ارتفاع أسعار السلع والخدمات إلى مستويات قياسية، وانخفاض شديد في قيمة الأصول المالية المقيمة بالريال للبنوك والمودعين والشركات وغيرها، وكلُّ ذلك أوجد حالةً من عدم اليقين لدى القطاع الخاص، وأثّر بصورة سلبية على مجمل أنشطته التجارية والصناعية والخدمية.

- الركون على دول التحالف في تقديم الدعم للبنك المركزي ليتمكّن من إدارة السياسة النقدية، وضمان تعافي واستقرار سعر الصرف، والحفاظ على استقرار الأسعار. وحتى الآن لم يتحقّق إلّا السراب، وعجز البنك المركزي عن تعزيز القوة الشرائية للريال والحدّ من التضخم، وعن تقديم التسهيلات للقطاع الخاص لتمويل استيراد السلع الأساسية، وكلُّ ذلك أدّى إلى ضغوط قويّة في سوق الصرف وتدهوُر قيمة الريال أكثر فأكثر.

- القصور الواضح في أداء أجهزة الدولة، وخاصة الأمنية منها، وانتشار المجموعات المسلحة غير القانونية، وانتشار حالة من عدم الأمان لدى معظم المواطنين، ممّا قاد إلى الإخفاق في حماية الحقوق والممتلكات العامة والخاصة، وأوجد بيئةً غير آمنة لممارسة القطاع الخاص أنشطته التجارية والصناعية وغيرها.

- قيام المجموعات المسلحة غير القانونية بفرض الجبايات والإتاوات على القطاع الخاص بكل فئاته، وانتشار حالة الفوضى والإرباك في عددٍ من المحافظات، ممّا أوجد بيئة غير مواتية للقطاع الخاص، وطاردة للمستثمرين.

المطلوب بيئة حاضنة للاستثمار

وإجمالًا، فإنّ كِلَا السلطتين في صنعاء وعدن أخفقتا في توفير بيئة آمِنة ومشجّعة للقطاع الخاص، بل ساهمتا في تراجع أنشطته التجارية والصناعية والخدمية، وقد حان الوقت لتتحمل السلطتان مسؤوليتهما التاريخية، وينشدا الاستقرار والسلام، حتى تتوفر الشروط المسبقة والضرورية لتهيئة البيئة المحفّزة للقطاع الخاص والحاضنة للاستثمار، والتي تشمل الآتي:

- الاستقرار السياسي، وتوافق المجتمع على وسائل ملائمة لاستمرار قيام أجهزة الدولة بوظائفها، بعيدًا عن أيّ تهديدات محتملة، مثل: الانقلابات والحروب والاضطرابات الداخلية وغيرها.

- مجموعة القوانين واللوائح المنظمة للاستثمارات الوطنية والأجنبية والمساعدة في حماية حقوق المستثمر، بعيدًا عن التعقيدات والمزاجية والارتجالية.

- وجود جهاز تمويل مالي ومصرفي فعّال له القدرة على حشد الموارد من المدخرين، وتقديم القروض لتمويل مشاريع المستثمرين في مختلف القطاعات.

- سلامة أداء أجهزة النظام القضائي والمحاكم والبتّ في القضايا وفقًا للقانون ومبادئ النزاهة والشفافية، وبعيدًا عن التدخلات والمحسوبية.

- البنية التحتية اللازمة لإنشاء المشروعات الاستثمارية وتسهيل أدائها (الطرقات، الكهرباء، المياه، الاتصالات، ... وغيرها).

- السياسات الاقتصادية والإدارية الهادفة إلى تحقيق الاستقرار النقدي والمالي والحدّ من التضخم وتقلّبات سعر الصرف ومعدل الفائدة، وتبسيط الإجراءات الإدارية، والحدّ من مظاهر الفساد، بهدف تسهيل مهمّة المستثمرين وحماية ممتلكاتهم، وعدم تعرضها للمخاطر والضياع.

- سلامة أداء الأجهزة الأمنية لإنفاذ القانون وحماية المستثمر في ماله ونفسه، وعدم تعرضه للابتزاز والاستغلال المخالف للتشريعات والقوانين من أي جهة كانت.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English