الإقرار بالاختلاف، وليس الوحدة المصمتة، أولًا

الفكر والسياسية بين الحوار والعصبوية
قادري أحمد حيدر
September 7, 2022

الإقرار بالاختلاف، وليس الوحدة المصمتة، أولًا

الفكر والسياسية بين الحوار والعصبوية
قادري أحمد حيدر
September 7, 2022

"الموت في التماثل، والاختلاف حياة الزمن" 

 مهدي عامل                                     

الإقرار بالاختلاف وليس الوحدة المصمتة القاتلة، هو الابن الشرعي لفكرة وعملية التغيير، المهم أن يتطابق موقفك من فكرة وقضية الحق في الاختلاف، مع فعلك في أرض الواقع (الممارسة)، دون انفصام بين القول والفعل، وليس في مجرد الاكتفاء بترديد الشعارات النظرية/ الأيديولوجية، حول ضرورة المغايرة/ الاختلاف.

ذلك أنّ وعي وفَهم واستيعاب الاختلاف كفكرة ومعنى وقضية، إنّما تعني ثقافة سياسية حديثة مدنية ديمقراطية، تعني سلوكًا، يجسد معنى الاختلاف، في قَبول الآخر كما هو، وليس كما نحن نريده أن يكون، ليس فحسب وهو يختلف معنا، بل وحتى وهو يناصبنا العداء.

الاختلاف هو الأصل (المبدأ/ روح الحياة)، وليس كما شاع في بعض أدبياتنا الفكرية، والثقافة السياسية التاريخية لنا، من أنّ الأصل هو الوحدة، كما في بعض التخريجات الفكرية/ الفقهية المناقِضة في الجوهر لمعنى النَّصّ الدينيّ، بما معناه، "وخلقناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا..."، وعشرات المعاني في هذا الاتجاه وهي التي يحتويها النصّ القرآني.

الاختلاف والتعدد والتنوع والمغايرة هي سُنّة الكون التي فطر الله عليها الإنسان والحياة والكون. الاختلاف هو المبدأ الأول للحياة، وللتطور والتجديد في الفكر والممارسة، الاختلاف هو الأصل، والوحدة نتاج موضوعي للإقرار بالحق في الاختلاف، فالحياة الإنسانية خلاصة للعمل المشترك بين الناس. فالكائن الإنساني، بل وحتى الحيواني، لا يمكنه أن يعيش لوحده وبمفرده، هو بالآخر ومع الآخر يكون هو ذاته، وهو مع الآخر من يشكّلان معنى الوحدة المجتمعية والإنسانية، معنى العيش المشترك، فإذا لم يتسع صدرك لسماع صوت الآخر بقربك، فصوتك وكلماتك تذهب هباء في ضجيج صوتك وعنف كلماتك، أفكارك حينها لا تتجاوز محجرك، صوت عقلك الذاتي الخاص بك.

لكلِّ إنسانٍ أن يعتقد ما يراه، ومن حقّه التمسك برأيه، والتأكيد على صوابية (فكرته/ رؤيته)، على أن لا يفرض رؤيته على الآخرين، وأن لا يقلل من أفكار ورؤى الأخرين، مهما كانت بساطتها، وحتى سذاجتها وحدتها، بل إنّ الأجمل هو أن نعدّل ونصحح، بل ونعترف بالخطأ حين يكون فينا، فمثل هذه القناعات من التمسك بالرأي، أو التعصب له، هي التي قد -أقول "قد"- تتحول تدريجيًّا إلى ممارساتٍ، لا تمنع تقدمنا للأمام فحسب، بل وتكون -هي- من أسباب توليد ظواهر وحالات العنف في المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي ما تزال تحبو ببطء على طريق الإمساك براية الديمقراطية والتعددية كشعارات، ولم توطّنها كأفكار ورؤى ذات صلة بالنفسية والوجدان (أي كقيم)، ومن هنا تعثّرنا في اليمن -وفي غيرنا من البلدان العربية- في جميع حواراتنا الفكرية والسياسية، وخاصة حين يتصل الأمر بالموقف من السياسة والسلطة السياسية.

لكلّ إنسان أن يعتقد ما يراه، ومن حقّه التمسك برأيه، والتأكيد على صوابية (فكرته/ رؤيته)، على أن لا يفرض رؤيته على الآخرين، وأن لا يقلل من أفكار ورؤى الآخرين، مهمّا كانت بساطتها، وحتى سذاجتها وحدّتها، بل إنّ الأجمل هو أن نعدّل ونصحّح، بل ونعترف بالخطأ حين يكون فينا

كنا في "مؤتمر الحوار الوطني الشامل"، قد وصلنا إلى أنبل وأجمل المخرجات المعرفية والنظرية والفكرية والسياسية، عبر حوار مدني ديمقراطي سلمي، في حوار هو الأول من نوعه، ليس في تاريخ اليمن السياسي الحديث والمعاصر، بل وفي تاريخ المنطقة العربية؛ كان ذلك تحت تأثير وضغوط استمرار قوة تداعيات المعنى الإيجابي العظيم لثورة الشباب والشعب السلمية، في فبراير 2011م، التي كان زخمها ما يزال طريًّا وطاغيًا في صورة كلِّ ما كان يجري في البلاد، والأجمل حضور نسبة وازنة ومقدرة رفيعة المستوى من عمر ربيع حياة اليمن المعاصر في قلب فعاليات المؤتمر، إلى جانب مجموعة كبيرة من السياسيين المعتبرين، ونخبة من رموز المجتمع المدني، ومن المثقفين والأكاديميين، ومن رجال الدين وشيوخ القبائل، من الشمال إلى الجنوب، التي شكلت حاضنة وقوة معنوية/ رمزية داعمة لسير أعمال مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وهي في تقديري -المؤتمر وفعالياته- أول محاولة حوارية سياسية وفكرية سلمية جديدة، لإنتاج صيغة ثقافية حضارية لبداية الأعمال الحوارية المشتركة بين الناس. وحين أدركَت قوى ورموز الدولة العميقة أهمية وحساسية وخطورة "مخرجات الحوار الوطني الشامل"، على كل مستقبل منظومة الحكم التقليدية التاريخية، سارعت مع قوى رجعية إقليمية للانقلاب بالحرب على المخرجات السياسية والفكرية والثقافية والمدنية السلمية. هنا بدأنا نلمس ظهور معادلة القوة، وبقوة للانقضاض على فكرة الحرية "هامش الحرية"، والعدالة عمومًا، والتي تبدّت مظاهرها قبل اختتام أعمال المؤتمر بعدة أشهر، بَدءًا من تصعيد وتيرة العنف، والحروب الداخلية في أكثر من مكان في البلاد، حتى "حرب دماج"، إلى افتعال احتجاجات واعتصامات متكررة ومستمرة داخل ساحات المؤتمر، لتعطيل فعاليات وأعمال المؤتمر في أكثر من مناسبة، للانقضاض على نتائج المؤتمر في صورة مخرجاته التي أخافت وأزعجت الجماعات السياسية الدينية والقبلية والعسكرية، قوى ورموز الدولة العميقة. فقد كان علي عبدالله صالح يتابع في كل ساعة ويوم، ما يدور في قاعات المؤتمر، واتصالاته التليفونية لم تتوقف بالقيادات من أتباعه، وكنت أشاهد بعضهم يرفع سماعة التلفون حين يقرأ اسم "الزعيم"، في شاشة التليفون، فيبتعد عن الجميع ليستقبل التعليمات والتوجيهات، وكأنه في معركة عسكرية. وهنا بدأت بوادر الحرب الكلامية والسياسية للانقلاب على استكمال أعمال المؤتمر. 

كان التحريض على أعمال المؤتمر يتركز في إرباك أعمال الفرق التالية: فريق "بناء الدولة"، فريق "القضية الجنوبية"، فريق "قضية الحريات"، فريق "العدالة الانتقالية". وكان للإدارة الذكية والرشيدة لقيادة المؤتمر أو القسم النبيل في القيادة، الذين استوعبوا وأدركوا خطورة ما يُرتب ويُعدّ ويُحضَّر للمؤتمر، دورًا كبيرًا في تفويت أكثر من فرصة لانفلات أعمال المؤتمر، كانت خاتمتها قضية اغتيال الشهيد والمفكر السياسي والقانوني أحمد شرف الدين.

ومن كان يتابع أعمال وفعاليات المؤتمر في الداخل ومن الخارج، كان يدرك أنّ الصراع الفكري والسياسي قد وصل إلى ذروته، إلى أن انتصرت الفكرة على القوة، في صورة الدولة العميقة التي كانت مبيّتة للانقضاض على أعمال المؤتمر.

 وحين أدركَت رموز وقوى الدولة العميقة أنّ الأمور قد تخرج عن السيطرة، كان القرار في تحويل القوة، إلى عصبية سياسية منظمة وموجّهة للانقضاض، بالانقلاب والحرب، على محاولة المؤتمر بداية إنتاج صيغة سياسية ثقافية حضارية للأعمال المشتركة باتجاه بناء الدولة وتعميم مسألة الحريات في المجتمع، على قاعدة المواطنة المتساوية.

وهنا أتفق مع د.ياسين سعيد نعمان، من أنّ تلك المخرجات الفكرية والسياسية والقانونية والثقافية، والديمقراطية، كانت بحاجة إلى حامل سياسي، يحمل هذه المخرجات، حامل يتم التوافق السياسي والعملي على إنجازه لنقل الفكرة/ المخرجات إلى واقع، وهو ما تم رفضه من قبل البعض بقوة، ولم يتنبه له البعض الآخر بما يستحقه من الجدية والاهتمام، فذهبت المخرجات بدون حامل سياسي، ووعاء سياسي تنظيمي اجتماعي وطني يحمل هذا المشروع إلى برّ الأمان. ومن هنا كان الانقضاض على مشروع المخرجات ومشروع الدستور بالانقلاب والحرب.

وكما يعلمنا التاريخ السياسي العالمي، أنّ القوة المجرّدة تحتكم في الغالب للعصبية (التفكير الأحادي/ العصبوي)، وتناقض في الجوهر المعنى العميق للفكر وللسلمية والحوار. وحين أتحدث عن الحقيقة هنا، إنّما أتحدث عن الحقيقة النسبية الاجتماعية التاريخية، ذلك أنّ الحقيقة/ المخرجات، صارت دون سند، ولا مرتكز لها سوى الاعتصام بفكرة الحق، والذي يعني هنا التمسُّك بروح العدالة والمساواة، وهما ما لم ولن يقبل رموزُ وقوى العصبية به، فتلجأ غالبًا إلى إدارة الحوار بالقوة والحرب لضرب فكرة وقضية الحق، بالقوة الغاشمة، وهو فعليًّا ما تحقّق.

إنّ القوة والحقيقة أمران مختلفان، لكن الأكيد أنّ من يمتلك القوة لا يستطيع بالقوة المجردة أن يفرض حقائقه على الناس بالقوة؛ يمكنه أن يقهرهم ويقمعهم بالإكراه، وبالعنف والإجبار على القبول الصامت (الإذعان)، ولكنه لا يستطيع إقناعهم بحقائقه البائسة. على أنّ من يمتلك أو يقترب من وعي وفهم وامتلاك فكرة الحقيقة، يمكنه أن يوصل رؤيته الفكرية والسياسية للناس اليوم، أو غدًا أو بعد غد، لا فرق. المهم أن انتصار فكرة وقضية الحق، هي ما تقوله حقائق السياسة والفكر والتاريخ. بالعمل المشترك الصبور والمجاهدة الخلاقة تصل الحقيقة إلى أوسع نطاق، وبدون القوة الباطشة. وحين تجتمع القوة المعرفية/ المدنية السلمية، مع فكرة الحق، هنا تتقدم وتنتصر الفكرة والسياسة السلمية على العصبية، والفكرة الشمولية من أيّ مكان صدرت: رجعي أو حامل لشعار التقدمية.

 إنّها باختصار، المعادلة الفكرية السياسية التاريخية المنشودة.

صفو القول فيها: 

إنّ انتصار الحق والحقيقة يكون حين نهيِّئ الشروط الموضوعية لذلك؛ أي حين نعمل ولا ننتظر، "المهدي المنتظر"، لتوفير الشروط والعوامل السياسية الحاملة لذلك التغيير؛ وواحد من أسباب الانقضاض على مخرجات الحوار الوطني، هو ضعف، إن لم أقل غياب ذلك الحامل السياسي.

أعتقد أنّنا جميعًا اليوم نفتقد للرؤية، وللحامل السياسي الذي قد يساعد في إخراجنا من دوامة العنف وحروب دويلات الميليشيات المذهبية والطائفية والقبلية والمناطقية، حتى تنتصر الفكرة، والسياسة المدنية السلمية، على القوة الغاشمة.

وكأنّ التاريخ يعيد إنتاج نفسه في صورة الواقع المأساوي/ الفجائعي الذي نعيشه اليوم.

والذي أجد نفسي رغم كل ما ترونه من انكسارات وإحباطات، على ثقة، بل وفي قمة التفاؤل من أنّ الآتي هو الأجمل، وفي أسرع ممّا تتصورون من الوقت، مع الاعتذار مسبقًا للتكلفة الباهظة التي ستدفع في هذا الاتجاه. أحيانًا -مع الأسف- تكون ضريبة التقدم قاسية على الروح.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English