بدون "ترند"، اليمنيّون أصدقاء للبيئة

نظرة تأمل في أسلوب حياتهم
أمينة بن طالب
March 3, 2023

بدون "ترند"، اليمنيّون أصدقاء للبيئة

نظرة تأمل في أسلوب حياتهم
أمينة بن طالب
March 3, 2023

أصبح تداول مفهوم (صديق للبيئة) نوعًا من "الترند"*، في الآونة الأخيرة، حيث تقوم بعض الشركات التجارية باستغلاله للترويج عن منتجاتها لزيادة مبيعاتها، كما يقوم النشطاء البيئيّون بالترويج عنه كنوع من أساليب المناصرة والتغيير، وقد يستخدمه البعض الآخر كنوع من التباهي وشد الانتباه، وحتى لحشد المتابعين وكسب الإعجابات في مواقع التواصل الاجتماعي.

عندما نتأمل نمط حياة اليمنيين، وخاصة في حقبة السبعينيات وما قبلها، وقبل دخول الأكياس البلاستيكية إلى البلاد والانتشار المرعب لها، نلاحظ أنّ اليمنيّين أصدقاء للبيئة دونما حاجة إلى "ترند"، في حين لا تزال هناك فئة كبيرة، تتبع هذا الأسلوب في نمط حياتها.

لنذهب في جولة بسيطة لصنعاء القديمة، وقبل الدخول لأزقتها، وتحديدًا على جانبي البوابة الشهيرة؛ تشاهد نساء يفترشن الأرض، تحيط بهن نباتات "الشذاب"*، والريحان، كأنهن فواحات بشرية، تشدك تلك الرائحة من على بعد مئة قدم أو أكثر، وكأنّها تحمل تعويذة سحرية تدفعك أكثر للاقتراب.

قبل استعمال معطرات الجوّ الكيميائية؛ استُخدمت النباتات العطرية في كثير من المنازل اليمنية لإضافة رائحة جميلة ومنعشة على مداخل البيوت وأماكن استقبال الضيوف، كما أنّ للشّذَاب ارتباطًا عقائديًّا قويًّا في نفوس اليمنيّين لطرد ما يعتقده البعض "الشياطين" والطاقات السلبية، كل ذلك يخدم ويعمق ثقافة التشجير الموجودة بين أوساط الأمهات، وهي الطريقة الطبيعية والآمنة والمثلى لحماية البيئة، ولو بالطرق البسيطة التقليدية.

بلورات اللبان

أحبّ أن أطلق اسم (متجر متنقل للمنتجات العضوية) على تلك النسوة، فالمعطِّرات الطبيعية ليست وحدها ما يقمن ببيعها، فالدواجن والبيض العضوي أو ما يسمى باللهجة المحلية (البلدي)، أحد تلك المنتجات أيضًا.

بخلاف الاستهلاك اليومي للبيض التجاري، يميل اليمنيّون لاستهلاك الدواجن والبيض العضوي في حالات غرضها استعادة الصحة وتقوية المناعة، كما يزعم البعض أنّ تناول البيض البلدي دون طبخ، مخلوطًا بالعسل أو بعض الأعشاب، يصبح أكثر فائدة وذا مفعول أقوى وأسرع. ستلاحظ أيضًا، وجود بعض الفواكه الموسمية، مثل التوت أو التين الشوكي والبري وغيرها.

ما يميّز هذه الأواني، هو صلابتها التي تساعد على بقائها لسنوات طويلة، وهذا بحد ذاته جانب "مستدام" فيها، حرص عليه اليمني قبل ظهور هذا المصطلح بعشرات السنين، ومصطلح الاستدامة يهدف إلى تقليل استنزاف الموارد الطبيعية، والاستخدام المسؤول لها لضمان استمرارها، وتحسين نوعية الحياة البشرية.

نتحرك قليلًا؛ مرورًا بكهل يتربّع على عرش كرسيه ويقلّب بين بلورات اللبان في الصينية التي أمامه وهي مليئة بالأشكال غير المنتظمة من بلورات اللبان وبالأحجام المختلفة، على جانبه ميزان صغير كالمستخدم لوزن الذهب والفضة.

ما يبيعه أيضًا هو نوع من المجوهرات، فاللبان كان يُقارن بالمجوهرات قديمًا لقيمته المادية والمعنوية، حيث بدأ استعمال اللبان في موطنه الأصلي بلاد اليمن، في العصور القديمة، واتخذ مكانة مهمة كمادة تقدّم مع النذور لعبادة الآلهة، وبسبب ندرته وتواجده فقط في الساحل الأوسط لجنوب الجزيرة العربية، سُمّي طريق تجارته بطريق البخور؛ دلالة على أهميته وقيمته. ولا يقتصر استخدام اللبان على حرقه فقط، بل يستخدم لعلاج العديد من الأمراض العضوية، كما تستخدمه النساء للتجميل.

جولة متواصلة

في حضرة هيبة بوابة اليمن القديمة، تتعالى الأصوات وتكتظ الشوارع، وفي رحلة نخوضها سيرًا على الأقدام ننتقل من سمسرة*، إلى أخرى وكأننا في صفحات رواية ننتقل بين أجزائها وحكاياتها. 

ها هي تلك، نلمحها من بعيد؛ أوانٍ فخارية بمختلف الأشكال والأحجام، بعضها للطبخ، والبعض الآخر للأكل، أما للشرب فترى جرار المياه الصغيرة والكبيرة، وأكواب الشرب بجانبها، كالأم وصغارها، والمميز في جرة الماء المصنوعة من الفخار، أنّها تعمل على تبريد الماء بشكل طبيعي، كما أنّها تحفظ برودته لفترة أطول، إضافة إلى أنّها أفضل حتى من القوارير الزجاجية وحافظات المياه المصنوعة من "الاستانلس ستيل" (الفولاذ أو الصلب المقاوم للصدأ) أو أي مادة مستدامة أخرى.

في نفس المكان، ستلاحظ أوانيَ أخرى، مختلفة في اللون والنوعية تسمى (المَدَر*) أو (الحَرَض*)، البعض منها فخاري، والبعض الآخر مصنوع من الحجارة الصلبة، وجميعها مواد طبيعية محلية صديقة للبيئة.

ما يميز هذه الأواني، هو صلابتها التي تساعد على بقائها لسنوات طويلة، وهذا بحد ذاته جانب مستدام فيها، حرص عليه اليمني قبل ظهور هذا المصطلح بعشرات السنين، ومصطلح الاستدامة يهدف إلى تقليل استنزاف الموارد الطبيعية، والاستخدام المسؤول لها لضمان استمرارها، وتحسين نوعية الحياة البشرية.

كما أنّ البعض يستخدم هذه الأواني للطبخ والتقديم في آنٍ واحد، فلو استخدمنا الأساليب التسويقية المتعارف عليها في عملية الترويج في وقتنا الحالي، فإنّ ذلك يكمن في مقولة "اثنان في واحد"؛ أي توفير للجهد والموارد.

على الجهة المقابلة، سترى أطباقًا وسِلالًا وحافظات للطعام، جميعها مصنوعة من السعف*، بألوان وأشكال مختلفة، بعضها يشابه الطابع "البوهيميّ"، والآخر محلي، وجميعها صنعت بأيدٍ يمنية.

تستخدم هذه الأدوات غالبًا في حفظ الطعام، وخاصة الخبز، أو في تقديمه، وكقواعد عازلة للحرارة، توضع أثناء تقديم بعض المأكولات اليمنية، والتي تتميز بتقديمها وهي في حالة الغليان، كما يستخدم الحجم الكبير منها كسفرة توضع الوجبات عليها، ويتجمع حولها أفراد الأسرة لتناول طعامهم.

كلما ابتعدنا أكثر عن المدينة، زاد استخدامنا للمواد الصديقة للبيئة في حياتنا اليومية، وزاد استهلاكنا للمواد العضوية في غذائنا.

وعند قيامك بزيارة أسواق شعبية في مدن أخرى في اليمن، مثل سوق الحنظل في سيئون- حضرموت؛ ستشاهد مشغولات مشابهة مصنوعة من سعف النخيل، أبرزها المروحة اليدوية، أو ما تسمى باللهجة العامية (المندهة). وبسبب ارتفاع درجات الحرارة وسخونة الجو، يلجأ سكان محافظة حضرموت إلى استخدام مروحة اليد، للتخفيف عن أنفسهم للحصول على نسمات هواء باردة قادمة من (المندهة). قد لا تكون وسيلةً فعّالة، بل قد تكون مُجهدة، غير أنّها صديقة للبيئة، وإحدى الرموز المادية الثقافية في حضرموت. 

على الجانب الآخر، نجد أيضًا أدوات تنظيف صنعت من السعف، وهي مكانس غبار متعددة الأشكال والأحجام، استخدمت قديمًا، وما زالت تستخدم حتى اليوم بعيدًا عن استهلاك الطاقة الكهربائية.

قد تبدو بعض هذه الأدوات غير مفيدة في عالمنا الحديث الباحث عن الجهد والوقت الأقل، إلّا أنّها ما زالت مستخدمة ضمن شريحة كبيرة من اليمنيين؛ فالبعض يستخدمها اعتقادًا منه بأنّها صحية أكثر، والبعض الآخر يستخدمها توفيرًا للمال، وآخرون يعتقدون أنّها الأجود رغم منافسة المنتجات الحديثة، وقلّما تجد من يستخدمها من أجل هدف سامٍ، كالحفاظ على البيئة أو ضمن الحلول المستدامة.

والجدير بالذكر، أنّنا كلما ابتعدنا أكثر عن المدينة، زاد استخدامنا للمواد الصديقة للبيئة في حياتنا اليومية، وزاد استهلاكنا للمواد العضوية في غذائنا. 

اندهاش

لا تقتصر الأدوات الصديقة للبيئة والمنتجات العضوية في اليمن، على ما ذكرناه سابقًا فقط، فمرورًا بالمحافظات وثقافاتها المتعددة، سنجد منتجات عضوية، مثل: الجبن التعزي، والبُنّ بتعدد نكهاته، واللبان السقطري، والعسل الدوعني، والدهون العضوية كالسَّمن البلدي، والظلّة التهامية*، وغيرها الكثير، إضافة إلى الحنّاء والسِّدر والهرد والعصْفر والورس والمرّ والترابة*، والعديد من المواد العضوية التي تستخدمها النساء في التجميل ولمعالجة مشاكل البشرة والشعر.

أعود من رحلتي حاملةً حقيبتي القماشية القُطنية وقنينة مياه معدنية قابلة لإعادة التعبئة والاستخدام، وكُلّي فخرٌ بنفسي؛ كوني أستخدم أدوات صديقة للبيئة، مندهشةً بالبيئة التي نشأت فيها، ولم ألحظ إلّا مؤخرًا، كم نحن أصدقاء للبيئة بالفطرة. 

قد تكون هذه المرة الأولى التي أدعو فيها اليمنيّين للعودة إلى الماضي وتقديس ممارساته الجيدة، والتغنّي بتقاليده لإحياء الموروث الشعبي، خاصة في الأجيال الحالية من جهة، ولحماية البيئة والحفاظ عليها من جهة أخرى.

هوامش:

  • الترند: هو الحدث أو المعلومة الرائج تداولها في الوقت الراهن على مواقع التواصل الاجتماعي.
  • الشّذاب: الاسم المحلي باللهجة اليمنية، لنبات الحرمل.
  • السمسرة: منشأة معمارية تؤدّي وظيفة اجتماعية واقتصادية، ارتبط ظهورها بنشوء وتطور الإنتاج الحرفي.
  • المَدَر والحَرَض: مسميات محليّة لأواني الطبخ وتناول الطعام، المصنوعة من الفخار والحجر الصلب.
  • السعف: أغصان النخل اليابسة.
  • الحنّاء والسِّدْر والهرد والعصْفر والورس والمرّ والتّرابة: أعشابٌ طبيعية تستخدم في التجميل، والبعض منها قابل للأكل.
  • الظلّة التهامية: قبّعة كبيرة مصنوعة من سعف النخيل، يرتديها السكان المحليون لتقيَهم من حرارة الشمس.

•••
أمينة بن طالب

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English