رحلة البحث عن الوجبة التالية في اليمن

ملايين النازحين على مسافة قصيرة من الكارثة
صامد السامعي
August 19, 2022

رحلة البحث عن الوجبة التالية في اليمن

ملايين النازحين على مسافة قصيرة من الكارثة
صامد السامعي
August 19, 2022

من محل صرافة في وسط سوق بني حشيش (شرق العاصمة صنعاء)، خرجت متوجهة نحو الطرف الآخر للشارع يلحقها طفلان بنيتهما هزيلة. في أقل من دقيقة، قطعت المسافة التي لا تزيد عن 30 مترًا بين الرصيف وبداية الطريق الأسفلتية في منتصف الشارع، حيث توقفَت لبرهة كي تتأكد أنّ الطفلين لا يزالان خلفها وليس هناك سيارة قادمة. وكان من الواضح أنّ لديها وجهةً ما، وأنّ خلفها قصة لم تُروَ.

خلال تلك الثواني المعدودة التي قطعت بها المسافة من الرصيف إلى وسط الشارع، كان يمكن ملاحظة حزمة الأوراق المالية فئة 1000 ريال التي تمسكها بكلتا يديها، وأنّ هناك خطبًا ما حول مشيتها. بدت منهكة بشكل واضح، لكن خطواتها المترددة تقول إنها تعاني من قلق مزمن أو أنّ لديها أولويات كثيرة لا تستطيع أن تحدد أكثرها أهمية، أو ربما أضاعت وجهتها. 

عندما وصلت إلى الطرف الآخر من الشارع توقفت، وبدَا جليًّا أنّ الحيرة سيطرت عليها ولم تعد تعرف أين تذهب؛ فهل أضاعت وجهتها؟ يأتي الردّ في حديثها لـ"خيوط": "استلمت معونة من المنظمة، والآن لا أعرف ماذا أفعل؛ هل أذهب إلى محل المواد الغذائية لشراء مؤونة، أم إلى الصيدلية للحصول على أدوية لي ولطفليّ".

حمامة امرأة من الحُديدة، نزحت مع أسرتها بشكل مأساوي بسبب الصراع الحالي. منذ سنتين تعيش في مخيم جماعي للنازحين في بني حشيش. هي أرملة لزوج فقدَ حياته قبل بضعة أعوام بسبب حادث تعرض له وهو يحاول كسب قوته وقوت أسرته. لديها طفلان، ومسؤولية إعالة نفسها وطفليها مهمة ثقيلة تقع على عاتقها.

منذ ولادتها رافقت الحياة القاسية حمامة كظلها، بسبب فقر أسرتها، عاشت سنواتها المبكرة بدون رعاية ولم تحظَ بفرصة لنيل حقها في التعليم، كما أنّ نفس السبب جعلها أيضًا -إلى جانب أسباب أخرى- ضحية للزواج المبكر. قبل الحرب كانت تعمل في رعي الأغنام لمساعدة زوجها في مصروف البيت، وحينها كانت حياتها مستقرة إلى حدٍّ بعيد، لكن تغير كل شيء سريعًا، أولًا بموت زوجها، ومن ثَمّ باندلاع الحرب.

عندما تنظر إليها لا يمكن أن تصدق أنها لم تبلغ الثلاثين من العمر بعد. لسوء الحظ، تعاني من مرض في الكبد وتتألم منذ سنوات. لكن معاناتها لا تتوقف هنا، فطفلاها مريضان أيضًا. يعاني الأكبر من السكري، بينما الأصغر مصاب بفقر الدم المنجلي. ولا تستطيع الأم أن توفر لهما الغذاء والدواء وأن ترسلهم إلى المدرسة أيضًا.

معاناة البقاء

بالنسبة لامرأة في المجتمع اليمني، من الصعب الحصول على عمل ومصدر دخل. وبالنسبة لأمية، ومريضة ونازحة ومعيلة لطفلين، فحتى إن حصلت على عمل، سيكون القيام به مستحيلًا، لكن لم يكن أمام حمامة خيار آخر. "من سيوفر الطعام لأطفالي وسيعالجهم؟!" قالت دون أن تظهر أي مشاعر في صوتها. ربما أنّها قوية بما فيه الكفاية، وربما تعودت على المعاناة، لكن: هل سيكون لديها القدرة على الصمود أكثر؟ خطر بذهني هذا السؤال حينها، وفضّلت أن أحتفظ به، فلا بدّ أنّ لياليَ حالكة السواد تنتظرها، ذلك أنّ الأزمة اليمنية لم تعد أولوية للعالم.

بأجر يومي تعمل حمامة في مزارع قريبة من المخيم الذي تسكن فيه، ومع أنّ دخلها الشهري بالكاد يتراوح بين (30-50 دولارًا)، وهو دخل ضئيل جدًّا مقارنة بارتفاع أسعار المواد الغذائية واحتياجات الحياة اليومية، في بلد يعاني من الحرب منذ ثماني سنوات، إلا أنّها لا تعتمد عليه كمصدر رئيسي لإعالة أسرتها، فالمساعدات الإنسانية التي تحصل عليها بشكل متقطع عامل مهم في بقائها وطفليها على قيد الحياة حتى الآن.

هذا الوضع المأساوي يتطلب بذل جهود كبيرة وتنفيذ برامج استجابة إنسانية فعّالة ومستمرة للحفاظ على كرامة ملايين النازحين وتعزيز صمودهم في مواجهة أكبر أزمة إنسانية في العالم، بحسب تصنيف الأمم المتحدة، قبل أن يصير الوضع أسوأ.

خلال التسعة أشهر الماضية، كانت حمامة و751 أسرة من النازحين الأكثر ضعفًا الذين يعيشون في مخيمات جماعية في مديرية بني حشيش بمحافظة صنعاء، ويعانون من انعدام الأمن الغذائي الحادّ، يحصلون على تحويلات نقدية ضمن مشروع المساعدات الغذائية وسبل العيش الطارئة المنقذة للحياة، المنفذ من قبل مؤسسة تنمية القيادات الشابة بتمويل من منظمة (آفاز)؛ مما يتيح لهم تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية، لكن المشروع اختتم أنشطته، وأغلب شركاء العمل الإنساني يقولون إنّ الوضع أصبح حرجًا بسبب قلة التمويلات.

وعلى الرغم من التفاؤل الحذر الذي جلبته الهدنة الهشّة التي أعلنت الأمم المتحدة مطلع الشهر الحالي تمديدها للمرة الثانية لشهرين، إلا أنّ ثمانية أعوام من الحرب لا بدّ أنها ستكون قد أثّرت بشدة على كل جوانب الحياة اليومية في اليمن. جاء في تقرير لمنظمة مواطنة لحقوق الإنسان، صدر مؤخرًا؛ أنّ البنية التحتية العامة الأساسية، بما في ذلك الأسواق والمدارس والمزارع والمستشفيات، تضررت بشدة. وتجاوز عدد القتلى ربع مليون شخص، وما لا يقل عن أربعة ملايين آخرين نزحوا من منازلهم، وأصبحت الغالبية العظمى من سكان البلد في الوقت الحالي بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية.

أكثر من ثلثي الأسر النازحة في اليمن ليس لديها مصدر دخل ثابت، ويعود الفضل في بقائها على قيد الحياة بشكل كبير إلى المساعدات وبرامج الإغاثة، تقول حمامة إنها استلمت 50 ألف ريال، وإنها ما تزال محتارة هل تنفقه على المواد الغذائية والمياه أم على الأدوية. تظهر قيمة هذه المساعدة، في مساهمتها، ولو جزئيًّا، في تعزيز صمود عائلات تواجه أوضاعًا مأساوية شديدة التعقيد.

تضيف حمامة بعد أنّ قررت أنها ستعطي الأولوية للدواء وستشتري بما سيتبقى ما تستطيع من المؤونة: "في كثير من الأحيان أضطر لشراء الطعام بالدين، وعندما تتراكم الديون لا أكون قادرة على توفير أكثر من وجبة واحدة في اليوم". 

من خلال التحويلات النقدية، تمكن أكثر من 5 آلاف نازح ونازحة (752 أسرة) في مديرية بني حشيش من الوصول إلى المساعدة الغذائية الطارئة الفورية المنقذة للحياة، واستطاعوا تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية لبعض الوقت. بحسب مؤسسة تنمية القيادات الشابة: "استهدف المشروع مديرية بني حشيش بسبب فجوة المساعدة الإنسانية التي يحصل عليها النازحون الأكثر ضعفًا هناك".

اضطرت حمامة أن تتبنى استراتيجيات تأقلم ضارة كي توفر الغذاء لها ولطفليها، مثل: شراء الطعام بالدَّين، وطلب المساعدة من الجيران، وممارسة أعمال شاقة، وتقليل الإنفاق الأساسي غير الغذائي مثل التعليم والصحة. قصتها هي نموذج مصغر جدًّا لملايين القصص المأساوية التي خلقتها الحرب.

هذا الوضع المأساوي يتطلب بذل جهود كبيرة وتنفيذ برامج استجابة إنسانية فعالة ومستمرة للحفاظ على كرامة ملايين النازحين وتعزيز صمودهم في مواجهة أكبر أزمة إنسانية في العالم بحسب تصنيف الأمم المتحدة، قبل أن يصير الوضع أسوأ.

لم تعد أطراف الحرب في اليمن وحدها مسؤولة عن الكارثة التي يمكن أن تحدث في أي لحظة، فالمجتمع الدولي معنيّ بدرجة أساسية في هذه الأزمة الإنسانية المتفاقمة، إذ لا يمكن أن يصل الوضع إلى هذه النقطة الحرجة حيث إن نسبة كبيرة من اليمنيين على بعد خطوة من كارثة الجوع، فيما لم يضرب أحدٌ من ممثلي الدول العظمى بيده، حتى الآن، على طاولة اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن بقوة، ويصرخ: لا بد أن تتوقف المهزلة التي تحصل هناك حالًا.

•••
صامد السامعي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English