اعتناق ديانة الهيمنة والإذعان لمُسلَّماتها وآياتها

عن المواقف السلبية لبعض "التنويريين" العرب من الحرب على غزة
عبدالرشيد الفقيه
November 16, 2023

اعتناق ديانة الهيمنة والإذعان لمُسلَّماتها وآياتها

عن المواقف السلبية لبعض "التنويريين" العرب من الحرب على غزة
عبدالرشيد الفقيه
November 16, 2023
.

منعًا لأيّ التباس؛ لا بُدّ أن أستهل هذه التناولة القصيرة بالتأكيد على أني أُفرق باستنارة، بين النقد، والمقاربة، وتسليط الضوء على الإشكالات، والبنى والجماعات والقوى، وإدانة الانتهاكات والجرائم بناء على الحقائق الدقيقة، وبين الهجاء المُرسل، والمواقف الدوغمائية والعدمية والنمطية، وسيظلّ موقفي دائمًا مع حرية التعبير، ومع حق الناس في التعليق على الأحداث والبُنى والكيانات والجماعات، ونقدها، في جميع الظروف، ودون حجر أو وصاية، فذلك الاشتباك المعرفي، هو إحدى سُبل عبورنا الآمن نحو التطوير والتغيير والانعتاق، في الأفكار والتصورات والممارسات.

أُدرك على وجه اليقين، مما مر من تجاربي، على بساطتها وتواضعها، أهميةَ الاختلاف، والتنوع، في كل مجالات الحياة دون استثناء، لتطور المجتمعات ونمائها وقوتها؛ ولذلك، يُفزعني ذلك التطابق بين الأغلب الأعم من التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية، المُكوِّنة لمجتمعاتنا، في المناهج، والوسائل، في طرق وآليات بناء الحقائق والأفكار والخلاصات، في الذهنية الجمعية الممتثلة لروحية الفتوى، وفي الممارسات، فيما تنحصر مساحة الاختلاف والتنوع في حدود الادعاءات المُرسلة، وفي المواقف الكُلية.

ولذلك، فإنّ ما أقاربه في هذه التناولة، بشأن مواقف بعض الكتّاب العرب في تناولاتهم لمسائل الحرب في غزة و"حماس" والفصائل الفلسطينية الأُخرى وكل آليات التفاعل مع التطورات منذ عملية "طوفان الأقصى"- هو رأي، وتعليق، وموقف نقدي، في إطار حرية الرأي والتعبير والنقد، في إحدى "قضايا الشأن العام" الرئيسة في منطقتنا العربية، وليس أحكامَ قيمة، لإدانة أصحاب تلك المواقف، أو تعزيز المواقف المخالفة لهم، بما في ذلك مواقفي، وآرائي.

وفي تصوري، فقد تورط نجوم "التنوير" و"البراجماتية" و"الاعتدال العربي" في مهمة هجاء "حماس" والفصائل الفلسطينية الأخرى، كشماعات جاهزة لكل عُقد "الشرق"، وهزائمه، ونكباته، ونكساته، وبكائياته، ومظالمه، لكأنها فرصة استثنائية يجب عدم تفويتها للتطهر الذاتي من وصمات وتابوات الموطن الأصلي، الشرقي، كمُتطلب، ربما، يساعد على الاندماج في محور الرجل الأبيض، عالمه وسريته، العبقري، بالضرورة، والمتفوق، القائد، والوصي، والمُلهم، وكمُتطلب ربما، يساعد في كسب سباق التأهل لنيل صكوك إله "الحضارة الجديدة" وبركاته واعترافه وإجازته وفرصه.

والمُحير، وغير المفهوم، أنّ ذلك "الالتصاق" السيامي، بمنظومة "الرجل الأبيض"، حامل إرث الاستعمار وملفاته السوداء، والتماهي مع سردياته ومسلّماته وتعاليمه، بالغة الركاكة، ومع خطوطه الأمامية، ومع معاركه وفتوحاته، الخشنة والناعمة، العابرة للقارات، والمجتمعات، والثقافات- لا يستند على أسس متماسكة، ومنطقية، في إطار مسار تراكم طبيعي ومتسق، نَمَت وترعرعت خلاله المعارف والتجارب والخبرات والقيم، بل إنّ مرد ذلك الالتصاق والتماهي، والإيمان الصادق والمُطلق، برمته، وفي أحسن الأحوال، هو محض اعتناق مُطلق وإذعان كامل لتعاليم وآيات آلهة الحضارة الجديدة، المُهيمنة على النظام العالمي الذي يقود البشرية منذ نحو قرن من محرقة إلى محرقة، ومن كارثة إلى كارثة، ويتسيد على كوكبنا، بالترويع والإرهاب والقسر والإخضاع، والمظالم والجور والإبادة، لا بقوة ونفاذ القيم والمُثل، ولا بما يُحققه للبشرية من فتوحات خلاقة.

وبالتوقف على نماذج من تلك المواقف، المُذيلة بتوقيع أسماء عربية تعرف نفسها بأنها "تنويرية"! والتدقيق في مضامينها ومفرداتها واتجاهاتها، نجد أنها بمُجملها لا تعدو عن كونها مواقف هجائية، ركزت في كل مسائل الحرب في غزة، بما في ذلك مسائل "حركة حماس"، والفصائل الفلسطينية الأخرى، على إدانة الجانب الفلسطيني، وتحميله حصرًا كامل المسؤولية عن كلّ ما آلت إليه الأوضاع في فلسطين، باعتبار أنّ التاريخ بدأ للتو يوم 7 أكتوبر (الدامي والمروع والكارثي وغير الإنساني)، وتبعًا لذلك، تبني تمرير وتداول كافة المعلومات المضللة والمُفبركة التي تمررها الدعاية الحربية (الإسرائيلية والأمريكية)، بشأن جرائم الحرب المُمنهجة والمُتعمدة المُرتكبة على نطاق واسع في قطاع غزة وكامل مجال دولة فلسطين، ومنها تلك الجرائم المروعة التي طالت المرافق والطواقم الطبية في القطاع، وعلى رأسها مجمع الشفاء الطبي، وهي مساعٍ ركزت على إنجاز مهمة اختلاق تبريرات واهية، لجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم العقاب الجماعي، للتملص من التبعات القانونية والأخلاقية والجنائية، لتلك الجرائم الخطيرة، وهي محاولات بائسة تكشف عن ماهية "المأزق" الذي علقت فيه إسرائيل "المنتصرة" وكل داعميها والمتواطئين معها، وهو مأزق ستحمله "إسرائيل" و"أمريكا" وكل داعميها والمتواطئين معها كـ"جُناة"، لسنوات طويلة قادمة. أبرز العناوين الرئيسة لذلك المأزق: التحقيقات، والحقائق والوقائع، والفظاعات والجرائم، وقرارات التوقيف، والمحاكمات، وإفادات الناجين والشهود، والأدلة، والاعترافات، والمساءلة والإنصاف وجبر الضرر.

ولم تكن تلك المواقف أكثر من خطاب دوغمائي متعصب، يتوسل الإثارة والتفاعل بخفة وابتذال، حيث تعامل أصحابها مع أكثر المسائل العامة حساسيةً وتعقيدًا، بالنسبة لعشرات الملايين من الناس، بأعلى درجات الخفة والارتجال والتسطيح، وبطريقة تفتقر للحدّ الأدنى من الحساسية والحصافة والذكاء، جعلها تتطابق في مضامينها ومفرداتها وخفتها وركاكتها وابتذالها مع ما يُصدره "أفيخاي أذرعي" ومنظومته التي تخاطب الجمهور العربي، ضمن وظيفة الدعاية الحربية للجيش الإسرائيلي.

ومن المفارقات الفجّة، لتلك المواقف، تبني وصم حركة حماس بالإرهاب، على ما في ذلك التصنيف الفارغ من إشكالات متعلقة بمصطلح "الإرهاب" الفضفاض وغير المُعرف في العموم، فضلًا عن عدم وجود معايير وآليات للإدراج والإدانة والمحاسبة، بالإضافة للإجراء الأحادي والكيدي والسياسي له، ولخصوصيات عناصر حالة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الاستثنائية بكل مُدخلاتها وعناصرها وحقائقها، ما يجعل تبني ذلك المنظور، بتلك الصورة المُبتذلة، مُفتقرًا للموضوعية، وللدقة، وللنزاهة، وللحدّ الأدنى من الفطنة والفهم، وأثارت هذه التحفظات بشأن مفهوم "الإرهاب" وكل الاعتلالات الخطيرة التي شابت كافة التعاملات والغزوات والمغامرات الأمريكية والغربية تحت عناوينه في إطار "مكافحة الإرهاب"، مراكزَ ومؤسسات غربية مرموقة بعد دراسات ومقاربات وأبحاث وتقييمات مُعمّقة.

لقد عبرت تلك المواقف، عن الضغائن والانطباعات والانفعالات، ووقع أصحابها "التنويريين" في كل ما أدانوه من اختلالات في خطاب البُنى التقليدية، تحت ضغط مُتطلبات النجومية السهلة، على شبكات التواصل الاجتماعي، ربما، أو تحت ضغط نوازع النقمة والكيد والكراهية والرفض، بمعزل عن متطلبات الاشتغال على مقاربة الأحداث والمتغيرات والظواهر والإشكاليات بمنهجيات علمية تُقدم خلاصات رصينة ومتجرّدة من الأهواء والمشاعر العاطفية والانفعالية، ومن أيّ مؤثرات موجهة أخرى.

تراكم الخيبات من مواقف مجموعة من العرب باسم التحديث والتنوير والتحضر، تجاه العديد من مسائل الحرب في غزة، ومسائل أخرى كثيرة، أسهم في خلق انتكاسة حقيقية، ألحقت أضرارًا فادحة بكفاح مجتمعاتنا، الدؤوب والطويل، للمُراكمة في سُبل التنوير والتحديث والتمدن.

إن تلك المواقف المُرسلة، تختلف كليًّا، عن مقاربة ونقد مسائل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كل محطاته، ومقاربة ونقد مسائل حركة حماس، والفصائل الفلسطينية الأخرى، وكل البُنى في مجتمعاتنا، بما في ذلك كل المضامين طي عناوين مثل: "الكفاح المسلح" من أجل التحرر الوطني، و"حق الدفاع المشروع"، فتلك المقاربات حق وواجب، في جميع الظروف، بمنهجية موضوعية، وعلمية، متجردة من التنميط المُسبق، وتستند على مُدخلات دقيقة، وعلى البحث والتحليل المتعمق، ما يجعلها جديرة بالتوقف على مضامينها واستخلاصاتها والاستفادة منها، وباحترامها، حتى في حال عدم الاتفاق حولها.

وأبعد من ذلك، فلا يتوقف أثر الإسهام بمقاربات موضوعية ومنهجية ونزيهة وحصيفة ومسؤولة لناحية المسائل العامة التي تقاربها، في إطار الصالح العام، وحسب، بل تمثّل كذلك، إضافة للمُشتغل عليها، لصدقيته، ووزنه الاعتباري، كفرد أو كجهة، وكتيار وتوجه. فإن يكن في النزاهة، وفي منظومة القِيَم والمُثل ما يكفي للإلزام بالمنهجيات البحثية العلمية والموضوعية، ففي الذكاء والمنطق والجدوى والتنافسية، ما يكفي للالتزام بأعلى مبادئها ومعاييرها ومحدداتها.

إنّ قراءة مقالات ناقدة لحماس على صفحات النيويورك تايمز لتوماس فريدمان، أو على صفحات واشنطن بوست لفريد زكريا، أو لأي كاتب آخر على صفحات فورين بوليسي، أو اللوموند أو الغارديان، أو حتى على صفحات يديعوت أحرونوت، تقارب مسائل الصراع العربي الإسرائيلي وتتضمن مواقف واضحة تنتقد حماس والفصائل الفلسطينية، كونها مقاربات وتناولات تلتزم قدرًا مقبولًا من الموضوعية والتحليل المنهجي، ما يجعلها جديرة بالقراءة والانتباه إلى مضامينها ومنظورها وزواياها وجديرة بالاستفادة من حقائقها وحججها، بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف معها.

وفي سياق أوسع، يمكنني القول، من متابعة دقيقة لمسائل الشأن العام، إن تراكم الخيبات من مواقف مجموعة من العرب باسم التحديث والتنوير والتحضُّر، تجاه العديد من مسائل الحرب في غزة، ومسائل أخرى كثيرة، أسهم في خلق انتكاسة حقيقية، ألحقت أضرارًا فادحة بكفاح مجتمعاتنا، الدؤوب والطويل، للمُراكمة في سُبل التنوير والتحديث والتمدّن والتحضّر والتحرّر والانعتاق. الإيجابية الوحيدة في تلك الانتكاسة، بكل مقدماتها وآثارها، أنها أضافت لخبرة مجتمعاتنا، ما يساعدها على التفريق بين خلاصات ومواقف ووسائل ومضامين الباحث والمُصلح الاجتماعي وصاحب الرسالة والمناضل والمُخلص، وبين مواقف ووسائل ومضامين الخصم والمنافس والمُكايد والمُنتقم أو الموظف لصالح فاعلين آخرين.

والحق، ورغم كوني مختلف مع التيارات الإسلامية، جذريًّا، ورغم كوني ممّن استقرّ وعيهم، على قيم التحضّر، والتمدن، والتحديث، والانفتاح، وحقوق الإنسان، والديموقراطية، ونبذ ومناهضة العنف والتطرف والكراهية، واخترت العمل على تلك المبادئ والموجِّهات، فبرغم ذلك، فقد وجدت نفسي غير مرة، في حيرة، أمام مواقف عدد من التنويريين العرب، أحدثها تلك المواقف المتعلقة بالحرب في غزة، والتي انساقت وراء وسائل ومضامين وتكتيكات الإثارة والدعاية، للدرجة التي جعلتني أتسائل غير مرة: ما الفرق الآن بين ما يقوله الخُطباء الراديكاليون والمتعصبون وبين ما يقوله التنويريون والحداثيون؟ مع تمني ألّا يأتي اليوم الذي يُرفع في وجوهنا شعار "لا صوت يعلو فوق صوت التنوير والبراجماتية".

•••
عبدالرشيد الفقيه

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English